إن الخطاب الملكي السامي بمناسبة عيد المسيرة الخضراء المظفرة الذي بشر بإحداث جهوية متقدمة ليعتبر بحق خطابا تاريخيا سيؤسس لعصر مغربي جديدة قوامه الديمقراطية والكرامة والحرية والرفاهية والمساواة، إذ يعيش العالم اليوم فترة مخاض عسيرة تدفع بالنخب على مستوى الكون أو العالم إلى التأمل بعمق في تدبير شؤون العالم والأمم وحتى الجهات داخل تلك الأمم برؤية جديدة تأملية تنقل المجتمعات من حالة اضطراب قانوني فكري وسياسي إلى وضع يطمئن إليه الإنسان في هذا الكون. ونحن نختار اليوم معالجة هذا الموضوع الذي نعتبره من أهم المواضيع التي تفرض نفسها على الساحة الفكرية سواء على مستوى الوطن المغربي أو على المستوى الدولي أو على المستوى الكوني مساهمة منا في اغناء الحوار حول الجهة المتقدمة، وفي اعتقادي أن معالجة الجهة كوحدة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وإثنية هي بالضرورة تنخرط في إطار المساهمة في بناء الأمة بشكل قوي وعلى أساس متين وصلب وبالتالي تساهم في إطار مناعة الدولة كمؤطر للعلاقات الدولية ومساهمة في بناء قانون دولي محترم ومشروع، ولكون العالم اليوم أضحى قرية صغيرة مترابطة ومتماسكة العلاقات فإنه لا بد من التنقيب واكتشاف ورصد الوسائل القمينة لحماية الأمم من المخاطر التي لم تعد محصورة في جهة من جهات العالم. وعليه فإن المغرب الذي يتطلع بشكل مشروع إلى التقدم والرخاء والنمو الاقتصادي ومساواة المواطنين أمام القانون في إطار ديمقراطي يتيح الفرصة لجميع مواطنيه للمساهمة قدما في إنجاز المهمة التاريخية الموكولة دائما إليه، ليبدأ اليوم بإرادة صلبة وعزيمة لا تلين في بناء صرح وطن نموذجي كفيل بأن يكون نبراسا يحتذى به بين الأمم لا سيما وأنه البلد الذي شاهد تكوين الدولة الأمة على عهد الأدارسة أي قبل تنظيم العالم على أساس المعايير والقواعد والعادات الدولية المتعارف عليها الآن. ذلك المغرب اختار أن يكون مختبر الديمقراطية الأصيلة المغربية هيكلة الجهة وعاء وفضاء لها ليبني أساس الأمة على سبيل وصراط مستقيم موفق من الله يعتز به المغاربة جميعا من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب ويؤسس بالتالي الدولة الحديثة ذات الإشعاع الوطني والعالمي المساهمة في بلورة رؤية متقدمة لتدبير الشأن المحلي بتناغم وانسجام وتكافل وتعاون مع الدولة المركزية. وعليه فإنه حري بنا أن نستخلص الدروس والعبر من الامتحانات العسيرة التي مرت بها الجهة وهي لا زالت بعد جنينية تتطلب منا العناية من أجل أن تبلور المهام المنوطة بها على أحسن وجه، إن التوعكات أو الهفوات أو النكسات التي مرت منها الجهة بكل اختصار، تتمثل أساسا في ضعف هيكلتها القانونية الخجولة التي لا زالت تعتمد على الوصاية كفاعل مؤسساتي يرمي بثقله على الجهة ويعرقل بالتالي طموحها الديناميكي في السرعة لاتخاذ القرارات وتدبيرها المستعجل للتجاوب مع طموحات المواطنين الآنية، وهي في نفس الوقت تعاني من هزالة الإمكانيات الاقتصادية نظرا لضعف ميزانياتها وعدم إمكانية التحكم فيها وهي بالإضافة إلى هذا وذاك تود أن تتوفر على مستشارين منتخبين بنزاهة وتتوفر فيهم الكفاءة والمقدرة والطموح والإرادة لترجمة مخططاتها واختصاصاتها في أرض الواقع. علينا إذن أن نفكر مليا في الوسائل التي يمكن أن تبعث الأمل في قلوب المواطنين في الجنوب كما في الشمال لخلق نهضة نوعية تذكي الهمم من أجل غد افضل، ولن يتأتى ذلك إلا إذا وضعنا حدا للشطط في استعمال السلطة وركزنا على الديمقراطية في مستواها الأفقي من أجل بناءها على قواعد صلبة على المستوى العمودي. وعليه فإن منح مكانة جديدة للديمقراطية المحلية أضحى أمرا ضروريا وملحا بالنسبة لبلدنا، فالديمقراطية المحلية تمنح فضاءا أرحب للامركزية وتجعلها أكثر حيوية بانخراط جميع المواطنين في الشأن العام وهي بالتالي تحول المسؤولية وتنقلها إلى اقرب مساحة تفضي إلى اتخاذ أجود القرارات. واللامركزية تعتبر بحق أفضل رافعة لتجديد إصلاح الدولة، كما أنها الوسيلة المثلى في الإصلاحات البنيوية التي لا محيد عنها لتوفير الكرامة المعنوية والمادية للمواطنين. وعليه فإن هذه الديمقراطية الجهوية تعتمد على مقاربتين أساسيتين وهما التناغم والانسجام من جهة بالنسبة للمجموعات الوطنية المكونة من الدولة والجماعات المحلية والمجتمع المدني من أجل ضمان المساواة بين المواطنين بدون استثناء أمام القانون، والقرب من جهة أخرى، لتفعيل الجهات بمنحها الاختصاصات الكفيلة بتوزيع جديد للأدوار بين الدولة والجهات بما يتطلب ذلك من تفويض السلطات للجماعات المحلية ونقل للموارد المالية بغية منح فضاء أرحب للديمقراطية يتيح الحوار البناء والمبادرة الحرة، مما سيمتع الجهة بتجارب جديدة غنية بالعطاء والابتكار والخلق والإبداع بغية تقديم أجود الخدمات للمواطنين وأنجع الوسائل وأفضل المردوديات. وعليه فلا بد في هذا السياق أن نقف على بعض الرهانات والمخاطر التي يمكن أن تواجه الجهة مع بعض الاقتراحات القمينة بإنجاحها. فما هي الرهانات التي نتوخاها من الجهوية؟ I بناء تنظيم جديد منطلق من المواطن لفائدة المواطن وبالمواطن، وفي هذا الصدد فإن الجهة تكمن وظيفتها في خدمة المواطن من أجل تمتيعه بجميع حقوقه وواجباته في إطار ديمقراطي يشعر من خلاله أن كل موارد الجهة ومؤسساتها التمثيلية وسلطاتها معبأة بشكل مستمر من أجل خدمته وبلورة حقوقه وواجباته في أرض الواقع بعيدا عن مذلته واستلابه وقمعه وإقصاءه، وهي في هذا المنحى تلعب دورا رياديا في تكريس حقوق الإنسان المتعارف عليها دوليا وتتيح الفرصة لبلورتها على أرض الواقع ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيا مما يتيح الفرص لتأهيل الإنسان المغربي الكفء الكفيل بتفجير طاقات إبداعية لا حد لها ترفع من وتيرة ومستوى مردودية الجهة وتدفع بها قدما كرافعة لبناء الوطن مساهمة بذلك في إغناء التجربة الكونية في هذا المضمار التي أضحت الجهات مركز اهتمامها كفضاءات للتجارب الديمقراطية المتميزة. II تقوية النجاعة بسيطرة جيدة على الميزانيات، ومن أجل تطبيق الشفافية والديمقراطية المشار إليها آنفا لا بد من رصد المسؤوليات عن طريق تحديد المستويات التي تتحكم في الميزانية واستغلالها بشكل أنجع عن طريق تحديد الأولويات وفق تخطيط محكم يمنح الجهة ووحداتها وظيفتها الحقيقية المتمثلة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولا بد في هذا الصدد من أن تتوفر الجهة على موارد مالية ذاتية ملموسة كفيلة بإقلاعها الاقتصادي وإنجاز مهامها على الوجه الأكمل بهدف التخفيف عن كاهل الدولة ومساعدتها بشكل مضطرد وإتاحة الفرصة لهاته الأخيرة أن تتخصص في تخطيط وإنجاز المشاريع الكبرى ذات الصبغة الوطنية العمودية. III تطبيق مبدأ فصل السلط على المستوى الجهوي. ولتركيز المفهوم الديمقراطي الآنف الذكر في بعده الجهوي لا يمكن بتاتا الاكتفاء بتطبيق مبدأ فصل السلط على المستوى المركزي، بل إن هذا المحتوى لن يجد سبيلا إلى التطبيق الصادق لفائدة المواطنين إلا إذا كان فصل السلط واضحا على المستوى الجهوي باستقلال السلطة القضائية والسلطة التشريعية الجهويتين عن السلطة التنفيذية الجهوية بإحداث وظيفة للمراقبة مستقلة كلية عن كافة هذه السلط تسهر على احترام تطبيق القرارات المتخذة وتحدد الآثار وتدبير العقوبات الناجمة عن الاختلالات والإنزلاقات المشخصة. إن هذا الإنجاز الدستوري الواضح سيتيح تطبيقه بناء الثقة من جديد في إطار الاحترام المتبادل بين مؤسسات الجهة التي هي في نفس الوقت مؤسسات الدولة المركزية والمواطن من جهة أخرى مما يضمن الطمأنينة والرغبة في الانخراط في المسلسل الديمقراطي التنموي الذي يصبو إليه بلدنا الحبيب. IV ترسيخ ثقافة المردودية. إن هذه الوسائل الديمقراطية المشار إليها آنفا ستتيح الفرصة إلى مزيد من الاتصال والتواصل وتشجيع الإعلام في النهوض بالمأموريات الملقاة على عاتقه في فتح حوار بناء هدفه التركيز على بناء المواطن النافع الذي يساهم بقدر كبير سواء عبر المسؤوليات العامة أو الخاصة في تقديم أجود الإسهامات والحصول على أرفع النتائج والمردوديات وفاء لما أتيح له من فرص للمعرفة والتعليم والتشجيع في جميع المجالات التنموية التي منحته الثقة في النفس والاعتزاز بالكرامة وبفضيلة التمسك بالقيم والمثل العليا وفي مقدمتها محبة وتقديس واحترام الوطن، مما سيجعل حدا لعزوفه عن الاهتمام بالمشاركة في الشأن العام [ كما نلاحظ اليوم] ويتيح مصداقية وحماسا للمساهمة في إنجاز المهام الجهوية والوطنية في مختلف القطاعات والأصعدة وفي كل استحقاقاتها القريبة والمتوسطة والبعيدة الأمد. مخاطر الجهوية I فقدان المساواة بين المواطنين. لا بد من التأكيد على ضمان حماية الجهة من الاختلالات وعدم التوازن مع باقي الجهات داخل الوطن، كون الجهات غير متكافئة في الإمكانيات، وعليه فإن إحداث صندوق خاص للتوازن بين الجهات يعد أمرا ضروريا لتقليص الفوارق بينها وتوزيع الثروة توزيعا عادلا لتمتيع جميع المواطنين بفرص متساوية أو على الأقل متقاربة. II هيمنة الأقطاب أو البارونات المحلية على مؤسسات التمثيل. وهنا يجدر بنا إعادة النظر في قوانين الانتخابات من أجل منع تعدد مستويات التمثيل حتى نضع حدا لتركيز مستويات تمثيلية محلية ووطنية لفائدة شخص واحد مع ما يؤدي ذلك من رداءة في الأداء وهزالة في الإنتاج. إن احتكار الجهات التمثيلية يؤدي إلى تقليص حظوظ المواطنين في المساهمة في مهام الشأن العام مما يفضي إلى إلغاء شريحة كبيرة من المواطنين نظرا لعدم توزيع المسؤوليات بشكل عادل وديمقراطي فيما بينهم. III التقوقع حول الهوية وإلغاء الآخر. كما أن الجهة يجب أن لا تكون مصيدة للعنصرية أو التطرف أو إلغاء الآخر بل فضاءا للتضامن والتكافل والحوار البناء بين مختلف أطياف المجتمع المدني الجهوي وبتنسيق وانسجام وتعاون كامل مع باقي الجهات وفق منظور شمولي مترجم عبر الدستور الذي هو بمثابة الميثاق الوطني المقدس. ماذا نريد من الجهة تصور بعض المبادئ العامة من أجل إنجاح الجهوية. 1 الجهوية ليست هدفا في حد ذاتها بل أداة لتطوير أداء الأمة، وهي في هذا الصدد تقوم بمهمة تقديم الخدمات المرموقة لجميع المواطنين بشكل ملموس يمكن المواطن العادي أن يستفيد منها بشكل مباشر وسريع، ويقف على تنفيذ القرارات المحلية في أرض الواقع بعد أن كانت تلك القرارات تأتي من المركز الوطني وتتخذ طابعا تجريديا بعيدا عن اهتمام المواطنين المحليين مما يتسبب عادة في عدم الاهتمام بالشأن المحلي والوطني ويؤدي إلى طلاق بائن بين المحيط والمركز بين الدولة والجهة أو الجماعات المحلية، مما ينعكس سلبا على انسياب المعلومات عن أوضاع الجهة بشكل دقيق ويؤدي بالتالي إلى استصدار قرارات من الحكومة لا تتطابق مع واقع معانات المواطنين مما يتسبب في كوارث اقتصادية واجتماعية وحتى سياسية في بعض الأحيان. 2 مبدأ الاحتياط أو الحلول بين المستويات Le Principe de Subsidiarité ou de Substitution entre les Niveaux إن تعميم تطبيق هذا المبدأ هو الذي سيجيب على الأطروحة السالفة الذكر المتمثلة في اتخاذ القرار المناسب للمكان المناسب، وعليه فإن حلول المشاكل يجب أن يتخذ في المستويات المعهودة لها حسب ترتيب الوحدات المكونة للأمة، الدولة، الجهة أو الجماعات المحلية فلكل مستواه، وعليه أن يتخذ القرارات الملائمة لاختصاصاته حتى يتسنى للمواطن أن يتمتع بالحلول الديناميكية والإيجابية التي تنساب في تناغم تام مع أرض الواقع وتؤتي أكلها في الحين. 3 كل تفويض للاختصاص يجب أن يراعي المعطيات الجغرافية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وفق منظور الميثاق الوطني أي الدستور. 4 ملاءمة قوانين الجهات مع القوانين الوطنية أو بتعبير آخر مراقبة مدى دستورية القوانين الجهوية. إن السلطة المركزية مطالبة أولا بخلق انسجام على المستوى المحلي، وذلك بتكريس مبدأ اللاتمركز بالنسبة للمصالح الخارجية حتى تكون هذه الأخيرة مراقبة وتحت وصاية مندوب السلطة المركزية أو رئيس الجهة بالمفهوم الجديد، وذلك من أجل تكريس اللامركزية والديمقراطية المحلية وإعطاءها مدلولا حقيقيا في إطار إعداد التراب الوطني الذي يجب أن ينسجم مع الجهات، هذا بالإضافة إلى عدم استصدار قوانين وقرارات متناقضة بين المركز والجهة، وفي هذا الإطار يستحسن أن تهتم القوانين المركزية بالشأن الوطني بينما تهتم القوانين الجهوية بالشؤون المحلية الخالصة والصرفة. وفي هذا السياق فإن التخطيط الاستراتيجي يبقى حكرا على الدولة بينما تختص الجهات بالتخطيط في دائرة اختصاصها المكاني مع الحرص على أن لا تخالف القرارات والمبادرات المحلية مبادئ الأمة وحتى تحافظ الدولة على مبدأ التضامن بين الجهات وأن لا تتم تصفية مشاكل جهة على حساب جهة أخرى، وعليه فإنه من الأفيد تقليص مستويات التنظيم داخلها إلى ثلاثة مستويات: الدولة؛ الجهة؛ الجماعات المحلية بشكل مقلص يوفر لها المناخ الاقتصادي والاجتماعي الذي يساعدها على بلورة قراراتها في أرض الواقع. إن إعداد التراب الوطني على هذا المنوال يحترم معادلة القرب التي تتوخى موازنات في خدمة التنمية تراعي موازين القوى والعلاقة بين مكونات الجهة الحضرية والقروية التي من المفروض أن تتوخى في بعض الأحيان آليات تحفيزية تساعد الجهة في النهوض وتنفيذ مخططاتها المحلية. لكن هذه الأهداف والغايات النبيلة المنتظرة من وراء أداء الجهة لن ترى النور إلا في حالة ما إذا صيغت في هيكلة قانونية فعالة تمنح للجهة قوة القرار وحرمة الاختصاص والموارد البشرية والاقتصادية والمالية القمينة بمنح وسائل فعالة لفلاح الجهة في ماموريتها النبيلة. محام وعضو المجلس الملكي الاستشاري للشؤون الصحراوية