إذا كان لنا أن نقف وقفة تأمل في أحد مشاهد المسرحية المرصعة باستحضار الشاعر للأمير محمد عبد الكريم الخطابي على لسان المدينتين السليبتين، فإننا نبيح لأنفسنا بأن نؤكد بأن صرخة هاتين المدينتين تجسد صيحة المبدع الوطني الغيور الحق، أطلقها عاليا ليحرك مشاعر ذوي الإحساس من أبناء الشعب المغربي عامة وشبابه الطموح خاصة، شبابه الواعد القابض غدا على زمام أمره والمحقق لنمائه وازدهاره، ليتبوأ المكانة اللائقة به في طليعة الأمم المتقدمة، كما تبدت بوادر ذلكم التفعيل المتوّخى من المسرحية والاستنفار المتجدد لتحرير المدينتين عبر تلكم النفحات الشعرية الملهمة والمؤججة لحماس الجمهور الذي حظيت شريحة منه بمشاهدة عرض مختصر لفصولها في حفل كبير نظمته نيابة وزارة التربية الوطنية بإقليم المحمدية بمناسبة الاحتفال بانتهاء السنة الدراسية 1983 1984 تكريما للشاعر مبدعها، يتحدث عنه الأستاذ أحمد الزواوي نائب الوزارة في رسالة رسمية مؤرخة ب 17/07/1984 وجهها إلى وزارة التربية في الموضوع، يقول: «وقد ابتدأ الحفل بمشاهدة مسرحية شعرية، أعدها للنيابة الشاعر الكبير الأستاذ مولاي علي الصقلي، تعالج وضعية سبتة ومليلية، وقد أدت هذه التمثيلية مجموعة من التلميذات بإشراف مفتش التعليم الابتدائي، ولحن جزء منها معلم في التعليم الابتدائي. قد أحدثت هذه المسرحية استحسانا كبيرا في الحاضرين، وأثرت في نفوسهم أبلغ التأثير، فكانت الدموع تنهمر من الأعين، وكان الهتاف يتصاعد بحياة أمير المؤمنين..(15) والواقع أن استحضار المسرحية لحرب الأمير محمد عبد الكريم الخطابي وتجليات انتصاراته الباهرة في معركة أنوال التاريخية التي أطلقت الشرارة الأولي لحرب مستعرة ضد المستعمر عبر العالم لمما يشهد لشاعرنا العبقري الفذ بتفوقه المتميز وذكائه الحاد في تمرير رسالته الوطنية، في ظرف عصيب يجتازه المغرب، إلى جميع المغاربة على اختلاف مراتبهم وربتهم واهتماماتهم، مسؤولين وأحزاب سياسية وهيئات ومنظمات وجمعيات مدنية، لكي يُولُّوا وجوههم شطر المدينتين السليبتين ويقدّروا ثقل الصمت المتواطأ عليه في حقهما، وفي حق مواطنيهم المغاربة القاطنين في رحابهما، فيضعوا حدا للتسويف والانتظار ونهج سياسة التماطل والإرجاء، ويكسروا القيود ويقفوا جميعا وقفة رجل واحد في تحد لكل المعوقات ويمارسوا واجبهم التاريخي والديني والوطني لاسترجاع المدينتين إلى حظيرة الوطن الأم. إنها صرخة من أعماق الشاعر يعززها إيمانه القوي بأن ذلك ليس بعزيز عليهم إذا ما صدقوا القول وأحسنوا النيات وأخلصوا لمبادئهم الحقة، والمسيرة الخضراء بالباب، فلقد أثبتت رشدهم وداءهم وتفوقهم في نهج سياسة حكيمة ألهمها الله، المغفور له الملك الحسن الثاني، طيب الله ثراه، لاسترجاع الصحراء المغتصبة التي ظلت هي الأخرى ترزح تحت نير الاستعمار عقودا من الزمان. إن اختيار الشاعر مسرحية شعرية قالبا فنيا بليغا لإبلاغ رسالته، وعقده الحوار بين المدينتين الأسيرتين لما يشهد له بطول الباع الفني وروعة التخيل والابتداع في تسخير الإبداع الراقي لتأجيج المشاعر والطاقات الكمينة في النفوس وشحنا بالقيم السامية لخدمة القضايا الوطنية السياسية الشائكة بذوق حضاري راق متميز، وجمالية فنية متألقة، فليس من السهل اختيار القوالب والأساليب التي تتواءم والمشاعر الإنسانية عموما، ما بالك بمشاعر الشباب تلامذة وطلابا، الذين تفوّقت المسرحية في إذكاء روح الوطنية الحق في أحساسيهم الدفينة. إن شاعرنا ليس ككل الشعراء الذين يتفاعل عبقرهم مع مشاعر مجردة فجة، إنه من مادة نفيسة ووزن ثقيل، ينفعل عبقره الشعري ويتفاعل مع ما يتوافر له من مخزون تاريخي هام ورصيد ثقافي متميز وضلاعة لغوية وبلاغة فائقة ونباهة متفوقة وروح وطنية رصينة، مما جعل حوار المدينتين السليبتين يأتي تحفة فنية رائعة، مادتها كبريات الأحداث التاريخية المتفردة وزخرفتها عظماء ورموز حضارة المغرب، سلاطين وأمراء ومصلحين وعلماء ومجاهدين أوفياء. إننا إذ نوشي هذا الإصدار في قسمه الرابع بإطلالة خاطفة على هذا المشهد الثالث من «السليبتين الراجعتين إلى أبيهما» لنعتز بها شهادة متميزة من شاعرنا في حق الأمير محمد عبد الكريم الخطابي تنضاف إلى شهادة أخرى قيمة أدلى بها لنا خلال جلسة أدبية في بيته العامر، تتعلق بحدث تاريخي هام ومتفرد، هو إنعام جلالة المغفور له محمد الخامس على القائد محمد عبد الكريم الخطابي بلقب «أمير» تلبية لطلب حمله إلى جلالته سفيره بالقاهرة آنذاك السيد عبد الخالق الطريس، مؤكدا بذلك أحقية القائد البطل بالإمارة في معناها «الملكي السامي»، وليس فقد بمعنى «إمارة الجهاد» التي بايعه بها المجاهدون الريفيون الذين خاضوا معارك الريف وحروبه ضد المستعمر تحت قيادته، وحققوا انتصارات باهرة،كان ذلك خلال لقاءجلالة الملك والأمير بالبطل في تزاور ببيت هذا الأخير بالقاهرة التي حل بها جلالته في زيارة رسمية، رافقه فيها الملحق بديوانه شاعرنا علي الصقلي. لقد تمت مراسيم هذا الإنعام الملكي السامي بحضوره وذلك يوم 13 يناير 1960. يحق لشاعرنا أن يفخر ويعتز بالظرف التاريخي وبالمناسبة التي سنحت له بحظوة معاينة هذا الإنعام الاستثنائي المتفرد، وطوبى له بأداء هذه الشهادة التي لا تدع مجالا للحذر أو التردد في إطلاق لقب «الأمير» على محمد عبد الكريم الخطابي وقد شهد له بها جلالة المغفور له الملك محمد الخامس، قدس الله روحه، فأية شهادة أكبر منه؟! لقد أفحمت ألسنة كل المتشدقين المذبذبين وكسرت أقفال قلوب جميع المرتابين. يبقى أن نؤكد في ختام هذه الإطلالة أن استحضار هذا المشهد، المتفوق من هذه المسرحية المتميزة ، للأمير محمد عبد الكريم الخطابي بروعة نادرة وعبقرية فائقة وطرافة بليغة وذكاءحاد ولباقة متألقة ومشاعر فباضة منضبطة تسجل بإيجاز لماح وقوي ملحمة جهاده التاريخي ليعتبر آية من الآيات التي تشهد باستمرارية الحضور الفاعل والمفعل لرائد الثورات التحريرية في العالم، ولعبقريته الفذة التي ستظل الرمز الأمثل للشهامة والإباء، لا ولن تطاله يد الزمان مهما تعاقبت السنون والأحقاب. إن سعادتنا الكبيرة بهذه الكلمات المتواضعة التي أردنا بها الإسهام في رص صرح هذا المشهد المسرحي الشعري الرائع، نضعها بين أيدي القراء من مختلف الطبقات والتوجهات والاهتمامات موعظة وذكرى لمن يتذكر. لأخينا الأعز،الشاعر الفذ مولاي علي الصقلي، منا الشكر الجزيل مع أزكى التحيات وأسمى مشاعر التقدير والود،ودعاؤنا له بالمزيد من التوفيق والسداد والصحة والعافية وطول العمر. الهوامش: 4 الإكليل: التاج 5 النجي في الأصل: من تُسارّه. 6 الأرومة: الأصل. 7 الفاتح المشهور الذي انطلق من سبتة بفتحه قاصدا إسبانيا. 8 عقر الدار: وسطها، وقد يطلق على أحسن موضع في الدار. 9 الربيب في الأصل: ابن امرأة الرجل من غيره أو زوج الأم لها ولد من غيره. 10 كوكب خفي، يضرب به المثل في البعد. 11 نجوم 12 المراد به الأمير محمد بن عبدالكريم الخطابي زعيم الثورة الريفية وقائد معركة أنوال الشهيرة. 13 المراد به الملك العلوي سيدي محمد بن عبدالله الذي كان ضرب حول المدينة حصارا دام أربعة أشهر ونيفا. 14 المراد به الملك العلوي مولاي إسماعيل الذي كان ضرب، هو الآخر حصارات على سبتة أطولها دام ثلاثا وثلاثين سنة. 15- المصدر السابق، ص 6.