إن مرور السنوات وتعاقب العقود على بزوغ نجم الأمير محمد عبد الكريم الخطابي ثم نفيه، حيا وميتا، من أرض الوطن لم يكن ليغيبه عن الضمائر الحية الواعية، والمشاعر الوطنية الصادقة، بل ظلت ملامح صورته المشعة وانتصاراته الباهرة وريادته المتفردة لكل الثورات في العالم ضد المستعمر المحتل حية متأججة في الأعماق وشعلة نافحة نافثة ترسخ الإيمان بالخالق جل علاه، ونجمة متألقة في الأفق يتلألأ ضياؤها أنوارا من فيض أخلاقه وشيمه وجهاده ومكابدته فداء للدين والوطن، وسعيا إلى توطيد وحدته وتحقيق نمائه وازدهاره، ظلت ملامح صورته تشكل عملة أصيلة مسكوكة من أمجاد عظام ومواقف بطولية متفردة، دَمْغَتُهَا أنين الخطوب التي ماتزال تحيق بأجزاء مغتصبة من الوطن العزيز، ولم تطفئ المؤامرات والأحداث المناهضة والتكتم المُتعمَّد عن ذكر اسمه والتذكير به وبنجاحاته الباهرة لهيب تلك الشعلة التي جعلت التكتم بوحا والتَّغْييب حضورا، ومحو صورته إعلانا وبروزا في عنان سماوات الصفاء والفلاح والرفعة، مما يؤكد أنه سيظل، ما تعاقب الفرقدان، بطل الإسلام المجاهد المصلح، والوطني الغيور الذي أنجبته أرض المغرب الطاهرة. وتنطلق شرارة التعبير عن هذا الواقع الحي الدفين مع الشاعر المغربي الفذ علي الصقلي الذي تفتقت قريحته وعبقر شعره عن ملحمة شعرية «مع الأسيرتين في مسرحيتين»1، أججهما صوت المدينتين الأسيرتين مليلية وسبتة، فانسابت مشاهد وطنية صادقة وأحاسيس فوارة، انسياب الماء السلس الزلال معبرة عن معاناتهما من سيطرة المحتل، تدفقت تلك الأحاسيس بمناسبة الذكرى الخمسين لاستقلال المغرب، مسجلة أنين المدينتين السليبتين وآلام مواطنينا المغاربة الذين يئنون تحت وطأة نير الاستعمار، منذ ما يزيد على أربعة قرون، في صمود لايُقهر وإيمان لايتزحزح بالغد المشرق المنتظر. على لسان الأسيرتين يبث شاعرنا الفذ، في مشاهد مسرحية شعرية رائعة، تلك المشاعر الحزينة حيث تتبادلان البوح بأحزانهما الدفينة وجروحهما الغائرة وتتطارحان أسئلة ماتزال تؤرقهما بقدر ما تؤرق كل مغربي أبيٍّ غيور على وطنه، داخل أسوارهما وخارجها. في المسرحية الثانية: «أبي إليك رجعت» تستحضر المدينتان في حوارهما جهاد المناضلين الأحرار منذ أن وقعتا في قبضة المستعمر الجبار لانتشالهما من يده الجائرة، يسجل المشهد الثالث من المسرحية ذروة الإبداع الشعري الحواري بأطيافه التاريخية الفاعلة والمُفعِّلَة لمكامن الأسرار، في توق إلى وضع حد لطول أمد الانتظار والسعي إلى ما يُكَسِّر القيود ويحقق الانتصار، ويحث بهما الخطى نحو زمان الانتصار في نخوه وزهو وفخار. في هذه الأجواء المفعمة بمرارة التذكر تُعقّب سبتة على شكوى أختها مليلية وتدعوها إلى التغلب على انكسارات الماضي مرغبة لها في التطلع إلى مستقبل زاهر يرفل بالآمال. وبغنج العذراء وشقاوة براءتها الفيحاء تذكرها مليلية بما تتقاسمانه من البلاء والابتلاء، فهما في ذلك صنوان رغم أن الذائدين عن حماهما يُعدُّون بالآلاف تعلقت همهم بنجم السُهَا، فكانت الغاية التي صَوَّبُوا نبالهم نحوها، ولم يكن بعد النجم في الأفق ليفت من عزيمتهم هنا لاتتردد سبتة في أن تبارك أبناء أختها وتشيد بأنفتهم وعزهم وعزمهم، وبما يتحلَّون به وأبناءها من شيم الفخار والسمو. وعلى صرح المسرحية تبرز مليلية سباقة إلى استحضار بطولات الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي زعيم الثورة الريفية وقائد معركة أنوال التاريخية، ويبدو تاج المسرحية وقد رصعته الشقيقتان السليبتان بجواهر سنِّيَة ترسم لوحات معارك عظماء الملوك كان آخرها المعركة التي قادها محمد عبد الكريم الأمين الرائد الفذ بشجاعة ودهاء، والتي حققت انتصارات المجاهدين فكانت الضربة القاضية على المستعمر الإسباني. ويكون لمليلية، مرة أخرى، السبق للتذكير بالفتى الأريحي الأصيل المحتد، الملك العلوي سيدي محمد بن عبد الله، وبجهاده المقدس لانتشالها من هوة المستعمر الظلوم، وبالحصار الذي ضَرَبهُ عليها أزيد من أربعة أشهر، ويتوالى حوارهما البديع بين التذكير والتأسي والانتظار.. لا يسعنا أمام هذا المشهد الثالث الرائع المسجل لبطولة الأمير محمد عبد الكريم الخطابي إلا أن نؤكد، بكل فخار، بأن الشاعر علي الصقلي أبى إلا أن يتحدى أوضاع الصمت والتكتم والحصار المضروب على الأمير عبد الكريم رغم مواراة جسده في التراب خارج وطنه الذي افتداه بكل ما يملك، تحت ثرى قاهرة المعز لدين الله الفاطمي، وذلك لأن شاعرنا يؤمن إيمانا جازما بأن التاريخ خزان أمين، لا يبخس الناس حقوقهم ويحتفظ لهم بها، ما بالك بحقوق العظماء الذين امتازوا وتميزوا بعبقرية ودهاء وحققوا من المعجزات ما يتجاوز الخيال، فظلوا عبرة لمن اعتبر من الأجيال المتعاقبة، ونموذجا يُحتذى وقوة باطنية تشحن النفوس الأبية بشحنات الفخار والاعتزاز بالأجداد الأباة، وتشحذ هممهم للاقتداء بسلوكاتهم وبطولاتهم وأخلاقهم. إن استحضار الشاعر لجهاد الأمير الخطابي في حوار المدينتين ليجسد عين الوفاء لرمز وطني متميز وصرح شامخ منيع ضد المستعمر، وشهادة اعتزاز ووفاء من مدينة مليلية لقاضيها الذي أقام في رحابها فترة من حياته المفعمة بحب الوطن، وشغل بها وظائف هامة سنحت له بأن يتمثل ما تعانيه ساكنتها وساكنة شقيقتها سبتة من آلام وأحزان من جراء مضايقات المستعمر الغشوم، أصابت سهامها فؤاده فأطلقها صرخة مدوية من أعماق مشاعره المتأججة ضد بسط نفوذه على مدن المغرب باسم الحماية والتمدين، فاتقدت شرارة حرب الريف المظفرة التي حققت انتصارات باهرة ضد الاستعمار الاسباني والفرنسي، كما يشهد بذلك الجنرال الطيارأرملنكو، ولولا تدخل المستعمر الفرنسي وتحالف القوات البريطانية والأمريكية معها وكذا تدخل الطيران الحربي وتجمع أكثر أسرابه بفاس، واستعمالهم الغازات السامة المبيدة بواسطة الطائرات المحلقة فوق المداشر والقرى والمدن، لما توقف تقدم المجاهدين الريفيين نحو فاس العاصمة كما يؤكد ذلك المقيم العام الفرنسي ليوطي قائلا: «إن الطيران هو الذي أنقذ مدينة فاس». لولا ذلك ما كان لمحمد عبد الكريم أن يتوقف عن مخططه لتحرير كل أجزاء المغرب ولما اضطر القائد للاستسلام للمستعمر الفرنسي استسلاما، لا عن رضى بالقمع وسكوت عن حق الشعب المغربي في استرجاع أراضيه المغتصبة واستقلاله وسيادته، ولكن حفاظا على أرواح الأبرياء، ووقفا لنزيف دمائهم وإبادة مواطنيه في حرب بعيدة عن التكافؤ. لقد حققت حرب الريف انتصارات تفوق كل تصور بعتاد حربي بسيط واستراتيجية مبتدعة لم يسبق لها مثيل في العالم، نهجها في أولى معاركه، معركة أنوال التاريخية التي لم يكن زحف المجاهدين خلالها على مدينتي مليلية وسبتة ليتوقف لولا امتثالهم أمر الزعيم القائد محمد عبد الكريم بالوقوف عند أعتابهما، كما سنتحدث عن ذلك في الجزء الثالث من هذا العمل، وعدم دخولهما مؤجلا ذلك إلى ظرف أنسب كي لا تثور ثائرة الإسبان ويعوق ذلك دون استكمال مخططه في الزحف نحو الجنوب لمواجهة الاستعمار الفرنسي وتحرير المنطقة التي يحتلها من قبضته، وإن كان قد تبين له فيما بعد خطأ هذا الاختيار، كما جاء على لسانه في حوار أجراه معه عبد الهادي بوطالب أثناء زيارته له في القاهرة في بداية عقد الخمسينات، حين سأله عن سبب توقف زحفه على الإسبان المنهزمين أمام بابي سبتة ومليلية المغربيتين، فكان جوابه: «خشينا أن لا يقبل حلفاؤنا الإسبانيون أن نمس بمصالح إسبانيا إلى هذا الحد، وأن نثير ثائرتهم، ففضلنا تجزئة المعركة بإرجاء تحرير المدينتين إلى ما بعد، ثم عقب معبرا عن ندمه على هذا الاختيار فأضاف قائلا: «ولقد راجعنا موقفنا بعد نهاية حرب الريف وتبين لنا أننا أخطأنا في التقدير». تلك مرارة اختزنتها ذاكرة المدينتين السليبتين، عبر عنها الشاعر علي الصقلي مسجلا حرقتهما من طول انتظار ساعة الفرج والتحرر من يد المستعمر الذي استوطنهما منذ قرون، «يسعد بشقائهما»، قاهرا كل الأبطال الذين بذلوا الجهد لتحريرهما ومتماديا في ترسيخ قدمه في أعماق التراب المغربي. لم تغفل المدينتان عن استحضار جهاد الأمير محمد عبد الكريم الخطابي ومناقبه بفخار واعتزاز في حوارهما الرائع كما يسجل ذلك المشهد الثالث من هذه المسرحية الشعرية الثانية الفذة التي تخلد لوحات بديعة ناطقة بمجهودات الملوك العلويين العظام والمجاهدين الريفيين الأبطال لاسترجاعهما وانتشالهما من يد المستعمر الغاشم 3. جزء من مقال طويل الهوامش: 1- انظر علي الصقلي، مع الأسيرتين، في مسرحيتين، مطبعة النجاح الجديدة، الدارالبيضاء، 1988-1409 2 - انظر عبد الهادي بوطالب، ذكريات.. وجوه... وشهادات...، منشورات الشرق الأوسط، الجزء الأول، ص. 354. 3 - انظر علي الصقلي، مع الأسيرتين، في مسرحيتين، المسرحية الثانية «أبي إليك رجعت»، ص . 62 - 70.