لقد خلفت تصريحات الأستاذ عبد الإله بنكيران رئيس الحكومة بخصوص التعامل الحكومي مع الفساد والمفسدين ردود فعل متباينة تختلف باختلاف المواقف من طبيعة التحول الديمقراطي المنشود وكيفية تحقيقه في ظل الظرفية الراهنة التي تجتازها البلاد بأبعادها الداخلية والخارجية، خاصة بعدما ظهرت مؤشرات ملموسة نحو تعبيد الطريق لمحاكمة ملفات الفساد. غير أنه ، مهما اختلفت الآراء والمواقف بخصوص التعامل مع الفساد، فإن هذا الموضوع لم يعد يقبل أي نقاش أو تأويل خارج التوجه الجديد الذي جاء به الاصلاح الدستوري والسياسي بعدما اخذت مسألة تخليق الحياة العامة و محاربة الفساد بكل أشكاله بعدا دستوريا عندما نص الدستور في فصله الأول على أن النظام الدستوري المغربي يقوم على أساس فصل السلط، وتوازنها وتعاونها، والديمقراطية المواطنة والتشاركية، وعلى مبادئ الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة، عندما نص الدستور في الفصل السادس على أن القانون هو أساس تعبير عن أراء الأمة، والجميع، أشخاصا ذاتيين واعتباريين، بما فيهم السلطات العمومية متساوون أمامه وملتزمون بالإمتثال له، عندما أوجب الفصل 35 من الدستور على الدولة ضمان حرية المبادرة والتنافس الحر وتكافؤ الفرص بين جميع المواطنين بما يخدم تعزيز العدالة الاجتماعية، وذلك انسجاما مع المبادئ العامة المنصوص عليها في تصدير الدستور فيما يخص بناء دولة ديمقراطية يسودها الحق والقانون والحكامة الجيدة في ظل مجتمع متضامن ليتمتع فيه جميع المغاربة بالأمن والحرية والكرامة والمساواة وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية والعيش الكريم. لم يعد أمام الحكومة سوى خيار المضي قدما لمحاربة الفساد بعدما طوقها البرنامج الحكومي الذي على أساسه حازت ثقة مجلس النواب، هذا البرنامج الذي يستند على البرامج الانتخابية لأحزاب التحالف الحكومي، تسعى من خلاله الحكومة إلى تجسيد الالتزام بتنزيل الدستور ومتطلباته التشريعية والمؤسساتية والاستجابة للانتظارات الجوهرية والملحة للشعب المغربي، هذا البرنامج الذي أرادته الحكومة أن يكون ذات طبيعة إرادية بلغة صريحة وواضحة يقوم على ثلاثة مرتكزات أساسية، بما فيها ربط المسؤولية بالمحاسبة، وهذا يعني أن الحكومة مطالبة بتحمل مسؤوليتها كاملة في ترسيخ دولة القانون والمؤسسات التي تقوم على أساس الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة تطبيقا لأحكام الفصل 89 من الدستور التي بمقتضاها تعمل الحكومة على تنفيذ البرنامج الحكومي وضمان تطبيق القوانين وممارسة الاشراف والوصاية على المؤسسات والمقاولات العمومية، ومادام الوزراء مسؤولين عن تنفيذ السياسة الحكومية في القطاعات المكلفة بها في إطار التضامن الحكومي كما ينص على ذلك الفصل 93 من الدستور. كما أن البرلمان مطالب بدوره بممارسة مهامه الدستورية في محاربة الفساد عندما خوله الفصل 70 من الدستور ممارسة السلطة التشريعية بالتصويت على القوانين ومراقبة العمل الحكومي وتقييم السياسات العمومية، وذلك من خلال الآليات الدستورية المتعددة التي جاء بها الدستور الجديد للمراقبة البرلمانية والمتمثلة أساسا في الأسئلة الشفهية العادية منها والآنية والتي تليها مناقشة وتلك المتعلقة بالسياسة العامة للحكومة التي يجيب عنها السيد رئيس الحكومة مرة في الشهر. اللجان النيابية لتقصي الحقائق، المهام الاستطلاعية للجان النيابية الدائمة، الحصيلة السنوية لعمل الحكومة، التقارير التي تقدمها مؤسسات وهيئات حماية الحقوق والحريات والحكامة الجيدة والتنمية البشرية والمستدامة والديمقراطية التشاركية، هذه التقارير التي تكون موضوع مناقشة البرلمان في جلسات عمومية مرة واحدة على الأقل في السنة. إن المؤسسات الدستورية الموكول إليها مهمة الوقاية من الفساد ومحاربته مطالبا هي أيضا بمحاربة وظائفها على الوجه المطلوب، بحيث لم يعد لها أي مبرر للتملص من مسؤوليتها بالنظر للصلاحيات التقريرية التي خولها لها الدستور في القضاء على أشكال الفساد ومظاهره بعدما أصبحت هذه الهيئات ملزمة بتقديم تقارير عن أعمالها أمام البرلمان في جلسة عامة تليها مناقشة. الجميع أصبح مطالبا بمحاربة الفساد والانخراط في مواجهته بعدما أضحى هذا التوجه مسؤولية وطنية مهما كانت الصعوبات والعراقيل والتحديات باعتباره السبيل الوحيد لضمان مصداقية العمل الحكومي وثقة المؤسسات الدستورية في أفق ترسيخ دولة الحق والقانون والمؤسسات لم يعد فيها مجال لاقتصاد الريع ومظاهر الرشوة واستغلال النفوذ وما يتطلب ذلك من ضرورة إلغاء جميع الامتيازات وإعادة النظر في الترسانة القانونية المرتبطة بسياسة الريع والإثراء غير المشروع بما يضمن المنافسة المشروعة والشريفة وتكافؤ الفرص والمساواة بين المواطنين أمام القانون في إطار التفعيل الديمقراطي لأحكام الدستور لكسب تحديات الحكامة الجيدة وربح رهان التنمية الشاملة وإرساء ثقافة جديدة تقوم على الشفافية وتحديد المسؤوليات وسيادة القانون في تدبير الشأن العام بما يضمن التوزيع العادل لثمار السياسة العمومية والقطاعية على مختلف الفئات الاجتماعية في أفق القضاء على الفوارق الاجتماعية والمجالية.