أعادت المناقشة العامة لدفتر التحملات الخاصة بالإعلام السمعي البصري العمومي إلى الواجهة إشكالية العلاقة بين السياسي والإداري في تدبير الشأن العام، خاصة فيما يتعلق بالمرافق العمومية ذات الطابع الاستراتيجي، وعلى رأسها المؤسسات والمقاولات العمومية الموكول إليها أمر تدبير قطاعات اقتصادية حيوية. ويمكن القول أن هذه العلاقة كانت تتحكم فيها عوامل «ذاتية» في غياب ضوابط موضوعية تستمد شرعيتها من قوانين وأنظمة واضحة المعالم مما جعل هذه العلاقة تعرف نوعا من التوتر إلى درجة يصبح فيها أحيانا السياسي خاضعا للإداري في تدبير القطاع الحكومي أو المرفق العمومي المعني كما تجلى ذلك من خلال بعض الممارسات السابقة عندما كان الكتاب العامون لبعض الوزارات يتحكمون في تسيير القطاعات الحكومية التي يشرفون عليها، عندما كان بعض مديري المؤسسات العمومية لا يتحكمون فقط في المرافق التي يشرفون عليها، بل حتى في القطاعات الحكومية التابعين لها، لتشكل بذلك هذه المؤسسات والمقاولات العمومية دولة داخل دولة ويقتصر دور الوزير الوصي على ترؤس المجالس الإدارية والإجابة عن الأسئلة الشفهية والكتابية المطروحة على هذه المرافق العمومية في غياب أي مراقبة أو تتبع للقطاع الحكومي على المؤسسات والمقاولات التابعة له. وهنا أستحضر ما عبر عنه بمرارة وزير سابق رحمة الله عليه عندما سئل عن علاقته بالمدير العام لإحدى المؤسسات العمومية التابعة للقطاع الحكومي الذي يشرف عليه، حيث اضطر السيد الوزير طلب موعد مع السيد المدير العام لحل بعض القضايا المطروحة دون جدوى. ولقد تنبه المشرع الدستوري لهذه الإشكالية التي تطرحها العلاقة بين السياسي والإداري في تدبير الشأن العام وعالجها بأحكام دستورية واضحة عندما نص الدستور في التصدير على أن المملكة المغربية، وفاءا لاختيارها الذي لا رجعة فيه، في بناء دولة ديمقراطية يسودها الحق والقانون، تواصل بعزم مسيرة توطيد وتقوية مؤسسات دولة حديثة، مرتكزاتها المشاركة التعددية والحكامة الجيدة....، عندما نص في الفقرة الثانية من الفصل 1 على أن النظام الدستوري للمملكة يقوم على أساس فصل السلط وتوازنها وتعاونها والديمقراطية المواطنة والتشاركية وعلى مبادئ الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة، عندما نص في الفقرة الأولى من الفصل 6 على أن القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة، والجميع أشخاصا ذاتيين أو اعتباريين، بما فيهم السلطات العمومية متساوون أمامهم وملزمون بالامتثال لهم، عندما نص في فقرته الأولى من الفصل 7 على أن الأحزاب السياسية تعمل على تأطير المواطنات والمواطنين وتكوينهم السياسي وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية وفي تدبير الشأن العام، وتساهم في التعبير عن إرادة الناخبين والمشاركة في ممارسة السلطة....، عندما نص الفصل 89 من الدستور على أن الحكومة تعمل، تحت سلطة رئيسها على تنفيذ البرنامج الحكومي وعلى ضمان تنفيذ القوانين، والإدارة موضوعة تحت تصرفها، كما تمارس الإشراف والوصاية على المؤسسات والمقاولات العمومية، عندما نص الفصل 93 من الدستور على أن الوزراء مسؤولون عن تنفيذ السياسة الحكومية كل في القطاع المكلف به، وفي إطار التضامن الحكومي، عندما نص الفصل 70 من الدستور على أن البرلمان يصوت على القوانين ويراقب عمل الحكومة ويقيم السياسات العمومية، عندما خصص الدستور بابا للحكامة الجيدة وكيفية تنظيم المرافق العمومية والاستفادة من خدماتها وربط المسؤولية بالمحاسبة. وهذا يعني أن العلاقة بين السياسي والإداري في تدبير الشأن العام أصبحت خاضعة لضوابط دستورية وقانونية ينبغي احترامها من طرف المسؤولين عن المرافق العمومية، بما فيها المؤسسات والمقاولات العمومية بعدما صادق مجلس النواب على مشروع قانون يتعلق بالتعيين في المناصب العليا في إطار المجلس الوزاري أو المجلس الحكومي على أساس مبادئ ومعايير محددة تضمن الشفافية والنزاهة وتكافؤ الفرص وما يتطلب ذلك من ضرورة القطيعة مع ممارسات الماضي التي كان فيها يتحكم الإداري في تدبير الشأن العام على حساب السياسي الذي يعتبر المؤهل دستوريا لتدبير السياسات العمومية في إطار البرنامج الحكومي كما صادق عليه مجلس النواب وحازت على إثره الحكومة ثقة السلطة التشريعية بما يضمن التفعيل الأمثل للدستور. وتبقى الحكومة، طبقا لأحكام الدستور المسؤولة عن تدبير السياسات العمومية، تحت مراقبة البرلمان ومحاسبة المواطنين عن مدى تنفيذها لمضامين واختيارات وتوجهات برنامجها المستمد من البرامج الانتخابية للأحزاب السياسية المكونة لها، وبالتالي لم يعد مقبولا أن تظل العلاقة بين الإداري والسياسي مطبوعة بأي تدخل من هذا الأخير في تدبير الشأن العام إلا ما يتعلق بتطبيق توجهات واختيارات الحكومة.