منذ رحيل الأستاذ عبد الجبار السحيمي خلال شهر أبريل الماضي، وأنا أعود بذاكرتي علني أجد كلاما يناسب مكانته الوطنية المرموقة وإبداعاته الراقية وهو الرجل الذي نعتبره أخا وصديقا وأستاذا، الرجل الذي تجمع فيه ما تفرق في غيره، فهو الكاتب المبدع، والوطني المتوثب، والمتكلم الصادق، والمحلل الذي يصنع الممكن، فالجميع يشهد أن حياته كانت طافحة بالكتابة والقراءة والاهتمام بالآخر وتشجيعه، بل امتدت حياته إلى واجهات متباينة ولكنها هادفة وشمها بآراء جريئة ورؤيا واقعية فمنذ عرفته بجريدة "العلم" الغراء وأنا يومئذ مازلت تلميذا بالثانوي، وأحرص على قراءة (الملحق الثقافي) للجريدة ثم أسعفني الحظ باللقاء المباشر معه سواء في بعض المنتديات الثقافية، والمناسبات الاجتماعية، والوطنية، أو بمقر الجريدة حين كنت أحمل إليه مقالا أو كتابا جديداً، وخاصة سلسة رجال الحركة الوطنية من جيل الرواد ممن التفتت إليهم ندوات أحداث مدينة الرباط المجاهدة 29 يناير 1944م التي أبدعتها جمعية رباط الفتح منذ عقدين ونصف، فكنت ألقى الترحاب والتشجيع إحياء لرجال خدموا الوطن بصدق ونكران الذات، وهو يستحضر معي ويستفسر عن باقي الأسماء الوطنية خاصة وأنه شاركها عمليا جوانب من المعاناة والمحن والارتقاء بالوطن الحق، وفاء للقيم والمبادئ ونبل الكفاح من أجل التحرير والنهضة، وظل كذلك لم يحد عنها طوال حياته رحمه الله. وكان آخر لقائي به في أحد الجمع بالمسجد القريب من بيته بالحي العسكري (مسجد الرحمة) قبل وفاته، فتبادلنا التحية والسلام والدعوة بالشفاء، ومع ذلك كلفني بتبليغ السلام إلى بعض الأسماء التي كان يقدرها ويعتز بعطائها، فأدركت حقا أنه الرجل الشامخ المهووس بالإنسان والصفاء، والمهووس بالوطن بكل مكوناته عامة، وبمدينته الرباط، رجل لم يتنكر لمبادئه القلبية التي تنبض بالثبات على الكرامة في كل تجلياتها وأبعادها، والوفاء لتاريخها الوطني الذي يشكل صفحة ناصحة وخالدة، ما أحوجنا إليها اليوم للارتواء من مضامين طروحاتها، وفلسفتها المتوجهة. والحق أنني كنت أرغب في الكتابة عن جوانب من مكونات شخصيته وشمائله الفريدة مما خبرته فيه وفي كتاباته ومقالاته الجريئة المساندة للحق، والمجسدة لمناحي الحياة، والعميقة في دلالتها وبنائها الفكري الملتزم والمتحرر... فاستوقفني مقال نادر يصعب علي تجنيسه كان قد شارك به في ندوة نظمت تكريما لأحد شباب الوطنية اليافعة الأستاذ محمد المدور سنة 2002، وذكرني بهاجس القلق الذي رافق الأستاذ عبد الجبار على امتداد عطائه الوطني اللامحدود، في زمن اتصف بالرداءة والادعاء والزيف والتنكر للصداقة والناس والمدينة التي فقدت جوانب من إشعاعها ومعالمها المألوفة، والوطن الذي أرعبته الفضائح والمآمرات، والمجتمع الذي أنهكه المسخ والتناقض، فانهارت القيم، وقل العطاء والتساكن، وبرز النفاق بكل أشكاله، واختفى الصدق والوفاء، وطغى التكالب والجشع على المال والمناصب... ومع ذلك مازال في الوطن من يعطي بلا حساب، وإن الذاكرة الوطنية لا تنسى رجالاتها ممن أشبعوا بالمكابرة والمجابهة، وممن ارتووا من منابع الوطنية التي "ترنو إلى الفجر الذي نراه" ويراه فقيدنا العزيز ليزدهر الوطن الشامخ مهما تعللنا بالظروف والأحداث وتطور الحال.. وفي تأمل مفردات المقال ما يؤكد أن فراسة الأستاذ عبد الجبار الإعلامي المؤمن لا تخطئ ستظل حية بيننا، تجدد علاقتنا بهوس الوطن، وتجدد علاقتنا بالرجل الذي لم يشرد قط عن محبة الناس، ومحبة الوطن وصفاء القلم، فأوصانا بالحوار اليقظ، وتفحص التاريخ والأشخاص والمدن بحثا عن الصدق والوفاء والوجه الوضاء للوطن العزيز، رحمك الله يا أستاذنا عبد الجبار. من أجل أن أكتب عنه، ذهبت أستحضره في الحنين لمدينة اسمها الرباط. من منكم يتذكرها، هذه المدينة التي يعبق التاريخ من جدرانها، وزوايا وأضرحة أوليائها، ودروبها، ومسايدها، أعني الرباط المتدثرة اليوم في بؤسها، رباط طفولتنا، قبل أن نهرب عنها، ونتركها للبلى، وللظلام، ولعصابات الليل، كأن لم يسمر بمكة سامر. رباط فتوتنا، ومدارسنا، ومعلمينا، وأول خفقة لقلوبنا، رباط أحبابنا الذين رحلوا، ?ورباط كل الذكريات. عزيزنا الغائب الحاضر، محمد المدور. أناديك يا أبا عصام، لأقول لك، ها هي رباطك القديمة تعيش موتها البطيء. هذه المدينة التي كانت أكبر من الأسوار التي تحاصرها، من رحمها خرجت، وخيرة رجالات هذا الوطن، ومنها خرجت تظاهرات الاستقلال، وإليها كنت تعود حين تفتح أمامك أبواب السجون والمعتقلات، سجن غبيلة، أو سجن علي مومن، أما سجن لعلو، فقد كان بيتك الثاني، وبيت صحبك المجاهدين. ها نحن، يا أبا نعمى، في هذه الأمسية، في هذا اليوم التاسع والعشرين من شهر يناير، الذي يصادف الذكرى الثامنة والخمسين لاعتقالك، أنت الذي كنت النار وكنت ?حطبها في جهاد الاستقلال، ها نحن نقتحم عليك خلوتك في جنة لك فيها من كل الثمرات، هناك حيث الروح والريحان وجنة النعيم. أيها الرجل الطيب. لعلك وأنت في رحاب الله تسمعنا. وأعلم أن روحك تطوف بفضاء هذا اللقاء حيث نجتمع لنقول إنك حاضر في الحنين إلى كل الأيام التي تركناها خلفنا، وحاضر في تذكرنا لكل العذوبة التي كانت تشتمل عليها تلك الأ?يام، وكنت أحد وجوهها المضيئة. ?حاضر أنت وتسمعنا. ومن أسف أننا لا نسمعك، فأنت في ملكوت الخلود، ونحن في دنيا الفناء. نحن أثقل الصخب آذاننا، وصرفتنا دواهي زمننا الرديء عن الإنصات للأرواح الشفافة وهي تخاطبنا من هناك، من "الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون". حيث "لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيل سلاما سلاما". فسلام عليك. وها أنا من دنيا اللغو، أستحضر صوتك الجهوري يصدح من الساحة على مشارف أبواب شارع الجزاء التي اختفت الآن، فيمتد إلى المدينة، من الأوداية إلى حدود ديور الجامع، وإلى تخوم المشور السعيد ومسجد السنة. كان صوتك يؤذن باستقلال المغرب، فكأنك تنشد كلمة "الاستقلال" أو تغنيها، تطرب بها وتطرب الجماهير المحتشدة حول منصتك. وكنت ترددها أيضا بالفرنسية، ليفهم الزبانية المندسون بين الصفوف يسجلون عليك القول، أنك لا تخيفك الزبانية اليوم، كما لم تخفك قبل ذلك معتقلاتهم. وبينما كنا نسمع لك، ونصفق لك، ونتغنى معك بالاستقلال الذي انبعث من جهادك وجهاد ثلة من الشهداء ومن رجالات هذا الوطن. وبينما كنا نطوف الشوارع، من الجزاء إلى بوقرون، من السويقة والخرازين، ونلتقي راقصين لا ?تسعنا الأرض، بالمواكب القادمة من العكاري والمحيط والأوداية وكل رباط ذلك الزمن السعيد. بينما كنا كذلك، فتية أغرارا، باليد صورة الملك، وكنت أنت تبشر بالعهد الجديد ?من موقع إلى موقع. نهتف : بنيوسف إلى عرشه، والشبان تموت عليه. كان هناك من يتآمر على هذا الاستقلال ليسرقه. ولم نكن أغبياء، لكننا كنا مفتونين بطهارتنا وبراءتنا. وأنت اليوم، إذ تحضر معنا روحك الطيبة، أعتقد أنك تطرح علينا الأسئلة الصعبة: يا سيدتي أم الغيث، أم نعمى وعصام والمعتصم، ماذا حدث لهذا الوطن؟ ماذا حدث لهذا الشعب؟ ماذا حدث لهذه الأمة التي قدمت لانبعاثها خيرة رجالها، قدمتهم للمعتقلات والسجون والشهادة، ورووا بدمائهم شجرة الاستقلال وتربة هذا الوطن. تسألنا الأسئلة الصعبة : ما لي لا أسمع إلا ?ما يرعب من الفضائح، عن فئات من المتآمرين حولت الوطن ضيعة خاصة عن وطن يسرق وتنهب خيراته. تسألنا، وأنت تكاد لا تصدق : لماذا وكيف انهارت القيم؟ كيف تحول المناضلون والوطنيون والتقدميون إلى باحثين عن مكاسب حرام، وباعوا أنفسهم للمواقع والمصالح وأعماهم الطمع والتكالب؟ تسألنا. وليس لنا ما نجيبك به أو ندافع به عن أنفسا وعن مواقفنا. فقد امتلأت الساحات بالمسخ، وسقطت كثير من أوهامنا، وخابت كثير من آمالنا، لأننا حين كنا مندفعين بطيبوبتنا وبراءتنا نتغنى بالاستقلال وبعودة الملك، كانت المؤامرات تحبك لسرقة الاستقلال وتحويله إلى مقاولة. وبقي لنا، للشعب العريض، الكثير من الخيبات ومجتمع فاقد للتوازن، لكنه يمتلك راية ملونة ونشيدا وطنيا. فلا تلمنا يا سيدي محمد المدور. لقد حماك إيمانك وصفاؤك من مشاعر الهزيمة أو الخيبة. لا تلمنا ونحن نتساءل بعدكم بقلق سؤالا يطير النوم : إلى أين تسير بلادنا؟ هكذا نحتفي بذكراك. لا تلمنا، وعد إلى تسبيحك وخلوتك، هناك حيث تتفكه كالعهد بك مع ثلة الصحاب الطيبين، تشربون شرابا طهورا، وكأسا كان مزاجها زنجبيلا، وحواليك فلذات كبد وقرة أعين يؤنسونك في قصر الخلد مع الصديقين والشهداء، "متكئين على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا" سلام عليك عد إلى الروح والريحان وجنة النعيم. رحمك الله، ها هو الحشد الكريم، تخفف من همومه اليوم وأتى إليك يحتفي بالرجل الذي أعطى بلا حساب لهذا الوطن. ومهما حدث، فإن الوطن لا ينسى رجالاته. وكلنا هنا لنؤكد ذلك. لا تحزن نحن شعب تعلم منكم المكابرة، ومجابهة الأيام الصعبة. إنه شعب لم ?تنطفئ ناره ولم يفقد الأمل. سلام عليك أيها الرجل الصالح وبركات من الله