قد يُزيِّن الظن لخيالنا الذي ليس أثيماً دائماً، أن الأدب العربي ترهّل واعتلته طبقات ماموثية من الشحوم، لأنه لا يمارس الرياضة؛ والحق أنّا نكاد لا نجد إلا نادرا، ذلكم الجدل الإبداعي بين الأدب والرياضة في ثقافتنا العربية، كأن يكتب رياضيونا روايات أو دواوين شعر بإعمال بعض منشِّطات الخيال؛ عكس الغرب الذي ما فتئ يُرسِّخ هذا التقليد الجمالي، وبأشواط إضافية، في روايات عالمية تحديداً؛ ويكفي أن نذكر أن الكاتب الوجودي «ألبير كامي»، كان حارس مرمى، كما كان «همنغواي» مبدع رواية «الشيخ والبحر»، عاشقاً دموياً لمصارعة الثيران (الكوريدا)، مما انعكس بإيقاع أو آخر في ما سرداه من روائع لا تعرف انمحاء من الذاكرة؛ يطفو إذاً من جديد في المشهد الثقافي العالمي، هذا الافتتان الإبداعي بالأدب في الرياضة أو الرياضة في الأدب، ليجزم الكاتب الفرنسي «بيرنار شامباز»؛ «لست متأكداً هل كنت سأكتب لو لم أكن أمارس الرياضة»؛ ويردف: «إن ممارستي للرياضة تؤثر في أسلوبي»؛ لذلك انتضى هذا الكاتب القلم بدل القدم، ليؤلف أسطراً ماراطونية أثمرت كتابين موسومين ب «الفلسفة الصغيرة للدراجة» (دار ميلان 2008) و«ماراطون» (دار سوي، 2011)؛ ولا يعاني هذا الكاتب من ضيق النَّفَس حين يعترف بافتتانه الأثير والعميق في الطفولة، بكتاب «أرغن الملعب» الذي ألفه «أندري أوبي» حول الألعاب الأولمبية لعام 1924؛ كنت أقرأه - يقول «بيرنار شامباز» - كما لو كنت أقرأ لبوب موران، أو بصيغة أفضل إنه جيل فيرن»؛ ولا يزال هذا الكاتب وهو في عمر السادسة والستين عاماً، يطوف الطرقات على متن الدراجة، لعشرات الساعات في الأسبوع، لينكب في ما تبقى من الوقت، على كتابة حكاية عبور الولاياتالمتحدة، من «كاب كود» إلى «لوس أنجليس»، في الصيف المنصرم؛ ويأتي هذا التحدي الراكب لعجلات الهواء، بعد طوافه فرنسا عام 2003؛ ويلحظ «بيرنار شامباز»، أن تعلم الكتابة والدراجة قد تحقق في ذات الوقت؛ إحداهما على الورق الأبيض، والأخرى على طرقات الأرض؛ ليلوح ذلك الطفل الذي كان يرسم في الحالتين، انعطافات في مجرى الحياة؛ ولأن التشابهات لا تنحد بمرآة، فثمة حسب بيرنار دائما وشيجة حميمية بين الكتابة والرياضة التي تستدر هرمون الأندروفين (مادة يفرزها الجسم للتغلب على الجهد البدني)؛ وتكمن هذه الوشيجة الحميمية في ما يعتري الكاتب من متعة فجائية وحالة رضى؛ وحتى الكاتب الياباني «هاروكي موراماكي» مؤلف كتاب «1Q 84» (دار بيلفوند، 2012 2011)، لايقول شيئا آخر، حين جعل الكتابة موازية للماراطون، لأنهما نشاطان محتومان بالنظام والصرامة والإيقاع؛ أما الكاتبة الفرنسية «سيلين مينار»، فتجزم أن الإيقاع هو الكلمة المفتاح، فهي تُسهب في المشي، لخمس ساعات في اليوم، قائلة: «هذا يزيح الكثير من سموم الفكر.ويفك العقدة. إن الكتابة والحركة في نظري، غاية في الارتباط.»؛ ولشد ما يناغم هذا الرأي، قول «بيرنارشامباز»: «يسألونني دائما في ما أفكر حين أتدحرج على دراجتي، أو لِم أركض، فأجيب: في كل شيء ولا شيء. يكون الذهن حرّا ومترحلا؛ إن الفكر يكون أثناء الجهد الرياضي، تبئيريا أو مركزا، ويحط على كل نقطة تُهْوِسنا؛ مما قد يمكننا من العثور على حلول لعراقيل بنيوية في الكتابة، واكتشاف كلمة كنا نبحث عنها طويلا؛ لنقل إن لفيفا من الجُمل وأضمومات من الكلمات، تخضع للاندغام والالتئام؛ يحضر أيضا الروائي الفرنسي «جيل بورانيس» وهو سباح سابق، بطل فرنسا صنف فراشة، لعدة مرات؛ سلف وأصدر رواية موسومة ب «في ثماني دقائق من حياتي» (دار لاتيس، 203 صفحة)؛ يبوح أنه حين يموج في المسبح، لا يفكر في شيء آخر، سوى في الكرونو (العداد) وتقنيته، ويعتبر أن السباحة مع ممارسة الكتابة، يستدعيان نفس المجهودات اليومية والتمرين المنفرد، كما يثيران الشك في النتيجة، وما أشبه يوم المنافسة بيوم صدور الكتاب .. أو بالأحرى الرواية حيث يحكي عن مونولوغ داخلي، يختلج في نفس الرياضي بالألعاب الأولمبية، وهو يستعد للانطلاق في رهان 800 متر سباحة حرة؛ أليست الكتابة أيضا، غطسا في الحبر لاستبار أعمق المعاني في الحياة؛ الِعبْرَةُ فقط في النَّفَس الطويل..؟!