برحيل الكاتب عبد الجبار السحيمي يفقد المغرب أحد أسمائه البارزة في مجال السياسة والإعلام والكتابة. وبرحيله أيضا تنطفئ شمعة جديدة من شموع ثقافتنا الواسعة. شمعة يا ما أضاءت الطريق للعابرين والمقيمين، حتى احترقت بلهيب نارها. لم يمهله المرض فسحة من الأمل، كي يواصل ما تبقى من الحياة بسعة الحلم والكتابة. كان شهر "أبريل" 2012 صادقا غير كاذب، هذه المرة، حين أعلن عن خبر وفاته. فجع الجميع بموته، أصدقاء وكتاب وقراء. رحيل شكل خسارة للمشهد الثقافي بالمغرب. خسارة مضاعفة، رمزية وإنسانية، في آن، بالنظر لما عرف عنه من حضور سياسي وثقافي وازن وظهور وطني قل نظيره. عرف عبد الجبار السحيمي وسط جيله، وفيا للذاكرة المغربية ومنتصرا لكل قيمة نبيلة. أخلص لذاته كما أخلص لبلده المغرب. عاش مناضلا، مدافعا عن الحرية والتحديث، مقاوما لكل أشكال الفساد والرجعية. كانت الكتابة وسيلته للتعبير، ومن ثمة، رفيقة دربه، بالمعنى الرمزي، بها ومعها اقتسم فصول الأيام ومواجع المكان. لم أتعرف إليه، أول مرة، سوى من خلال كتاباته. ومثل أي قارئ مبتدئ لفت انتباهي عمق نصوصه ومتانة لغته ورحابة صوره، سواء في مقالاته الصحفية أو في أعمدته وزواياه الأسبوعية، أذكر منها ذلك العمود الذي حظي بشهرة فائقة. عمود وقعه تحت عنوان لافت هو: "بخط اليد"، لينضاف إلى سابق إشراقاته الإعلامية الأخرى، ك"أنا الموقع أسفله" و"عابر سبيل" و"خطوط وأجنحة". كان الشغف كبيرا، أن أقرأ لكاتب خبر أسرار السرد وتشكيل الحكاية. أن أتهجى أبجديات الإبداع من خلال ما اقترفته يده من نصوص مدهشة، تلامس الواقع في تجلياته المختلفة، وتتابع الأحوال اليومية للناس، في تفاعلهم وانفعالهم، سلبا وإيجابا. كان عبد الجبار السحيمي صوت هؤلاء بدون منازع. صوتا يؤمن بالطبقة الفقيرة ودائم الإحساس بهم وبمعاناتهم. يصور حالاتهم المرضية ويرصد واقع بلدهم، بما امتلك من قدرة على الوصف والتعبير والمساءلة، إيمانا منه أن الكتابة حرية وشجاعة. بها يناضل ويقاوم. وتشاء المصادفات الجميلة، وأنا أمتهن التدريس بالسلك الإعدادي لسنوات خلت، أن تكون بعض نصوصه القصصية مدرجة ضمن مقرر دراسي من مقررات وزارة التربية الوطنية. أذكر من هذه النصوص المضيئة، التي شدت انتباهي لتجربة السحيمي القصصية، نص "سيدة المرايا" ونص "الفاركونيت" ونص "لمع مصباح من بعيد"، وغيرها من النصوص الأخرى، التي كنت أنتقيها من حين لآخر، في إطار القراءة السماعية. كانت نصوصا تحفل بتقنيات السرد المتنوعة وتحمل في طياتها أفكارا ومواقف جريئة. ومع تبادل الحوار ومباشرة التحليل، وفق القراءة المنهجية المسطرة، راعني كيف تجاوب التلاميذ بتلقائية كبيرة مع هذه القصص وكيف تعاطفوا مع أبطال الحكاية. ولاغرابة إذا كنت، وأنا أدرس هذا النص أو ذاك، أنتشي وأبدع ما استطعت رغبة في دفع وتشجيع هؤلاء التلاميذ على القراءة وحسن الإنصات أولا، والدفع بهم ثانيا، إلى فعل الكتابة، كضرورة من ضرورات الحياة والاستقلالية. وبين هذا وذاك، كان الحدث الأجمل يوم كلمني الراحل عبد الجبار السحيمي، ذات زيارة لي لمقر جريدة العلم، أحمل كالعادة مادة نقدية أو إبداعية للنشر. التقيته وأنا في طريقي إلى صديقي بالقسم الثقافي. كان ذلك قبل عشر سنوات. كم شعرت بالزهو والغبطة وقد تعرف إلي ودار بيننا حوار قصير حول الكتابة والنقد والإبداع. كنت أحادثه، في خجل، حول بعض مشاريعي وقراءاتي النقدية. بدا لي رجلا يفيض شبابا وحيوية. والعجيب العجيب أن صورته الحقيقية كما رأيتها لحظتذاك، بأم العين وبالمصادفة ليس إلا، لم تختلف كثيرا عن الصورة الافتراضية، التي رسمتها عنه، في مخيلتي. قال لي كلاما مشجعا حثني فيه على القراءة، وحفزني، من خلاله، على مواصلة السير في درب الكتابة، ثم انصرفت مشبعا بإشاراته الدقيقة وتلميحاته العميقة. وحين صدور كتيبه (بخط اليد) قدمت قراءة فيه ألامس بعض قضاياه وطريقة تقديم مواده. ركزت القراءة حول جدل السياسي والاجتماعي في هذا العمل. واعتبرت كتابة السحيمي كتابة تناهض وتفضح ولا تهادن. وللذكرى، أورد نص هذه الورقة/ الشهادة. النص لا شك أن قارئ نصوص "بخط اليد" للكاتب والصحفي المغربي عبد الجبار السحيمي، مدرك لا محالة، أهمية القضايا الساخنة والراهنة التي تسم المجتمع العربي عموما والمغربي على وجه الخصوص، في ظل تحولاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية... فالكتاب/الكتيب، من خلال نصوصه السردية المتفرقة، ينبش في اليومي والظرفي وكذا الهامشي؛ بل وفي كل ما قد يبدو عابرا للآخرين، يؤثث الكاتب فضاءه ويشخص أبطاله في لغة تجمع بين البساطة والعمق والدقة. هي بعبارة، لغة السهل الممتنع. بهذا النسيج اللغوي الفصيح، الممتزج أحيانا بكلمات ومقاطع بالعامية، يقدم عبد الجبار السحيمي كشكولا فنيا يجسم واقعنا المأزوم، من خلال علل وأمراض اجتماعية جعلت من هذا الوطن، الذي يعطي بلا حدود، جسدا منخورا بالفساد. ولعل أبرز ما يلفت الانتباه في قضايا هذه النصوص، هو طابعها الانتقادي والإصلاحي الذي اتسمت بهما، في التعامل مع الأحداث والوقائع. وهو طابع ينم عن إحساس عميق بالمرارة إزاء ما يجري في/بهذا الوطن. إن تنوع المجالات التي ارتداها الكاتب، في هذا المنجز، استدعت منه توظيف تقنيات وصيغ تعبيرية متباينة من قبيل السخرية اللاذعة والتعليق والتلميح أحيانا، أو من خلال التوسل بحكاية أو نكتة أو عقد مقارنة أو بسط فكرة أحيانا أخرى. فنفاذ الكاتب إلى عمق الأشياء وجوهرها، أبعده من السطحية والفوتوغرافية؛ وهو الأمر الذي يفسر، دون شك، ذلك الانسجام الحاصل بين وعيه الجمالي ووعيه الاجتماعي أثناء الكتابة. وعليه، فقد شكل المجتمع مادة خصبة لهذه النصوص تحولت إلى تعبير. يكشف السحيمي، في معرض حديثه عن علاقة السياسي بالمواطن، عن بعض السلوكات والممارسات اللامشروعة التي يكرم بها رجل السلطة/القانون إزاء المواطن، عاديا كان أم صحفيا أم مثقفا. إنها سياسة تستهزئ بمشاعر الناس وتستخف بكرامتهم، "فالذي يتكلم لا يلومن إلا نفسه" (ص58) بل حتى (الصمت) غدا تهمة خطيرة توجه إلى صاحبها. وبما أن الصمت بدوره يخفي شيئا، وهو ما أسماه الكاتب بمرض البراءة، فإنه "مدان من لا يسمع ! مدان من لا يرى ! مدان من لا يتكلم !" (ص 18) فما العمل ؟ وأين المهرب ؟ أما إذا تكلم المواطن/المبدع، فما عليه إلا أن يفعل مثلما فعل ذاك الشاعر الذي "ركب البحر وركب السماء، وحط في ذلك الوطن الآخر البعيد مواطنا معترفا به لأنه شاعر" (ص 108). فهذا البلد لا يعترف بالشعر ولا بالشاعر إلا إذا أتى/أتوا من هناك محملين بالنياشين والجوائز؟ وعلى سبيل المثال لا الحصر، أورد عبد الجبار السحيمي نموذجا مماثلا اسمه [الطاهر بن جلون] الذي لم يكن ينفعه السفر بين طنجة وفاس والرباط "لو أنه استمر هنا في هذا البلد يبحث عن ناشر وعن قارئ" (ص 108). وبمناسبة ذكر مدينة طنجة، يبدي الكاتب أسفه وتحسره لما أصاب هذه المدينة من تهميش وإهمال وعطش وقذارة.. في حين أن القرار السياسي كان يهيم في خيالاته، مكتفيا بإصباغ الألوان الزاهية عليها، وجعلها مجرد ديكور في لعبة مسرحية، فهي: طنجة البحر، طنجة العروس، طنجة المركز، طنجة المنارة، الحلم الأسطورة؛ في حين أن طنجة الواقع في واد وطنجة السياسية في واد، وهو ما ألمح إليه الكاتب بقوله:"لكل طنجاه وطنجة للجميع" (ص 133). وبما أن الواقع السياسي، في هذه النصوص، يهيمن بشكل ملحوظ على وقائع الأحداث المطروحة، نجد الكاتب عبد الجبار السحيمي، مرة أخرى، يعرض الوجه الآخر لبعض المفاهيم السياسية، كمفهوم [الليبرالية] مثلا، حيث السلطة ترفع السماعة وتملي مطالبها، وعلى رجل الليبرالية أن يكون مطيعا، لأنه يستطيع أن يضمن خدمة مقابل خدمة.." (ص 66). وكذلك الأمر بالنسبة لمفهوم [الديموقراطية] إذ يلاحظ غياب المصداقية الحقيقية في التعامل معها من لدن أصحاب القرارات، حكومة، أغلبية، السلطة،،،لذلك كان على الكاتب أن يفضح زعم "هؤلاء" بادعائهم الانتصار على المعارضة والشعبية، لأنه"انتصار خبيث قائم على التزييف والتسويف والمخادعة وتغيير الحقائق واسترخاص الوطن والعبث به "ديموقراطية يتاجر ممثلوها بكرامتهم..وبالمخدرات..وبكل ما هو قابل للمتاجرة غير القانونية وغير الشرعية" (ص 72). أما عن العقل الإلكتروني، الذي عد من حسنات التكنولوجيا على الإنسان، لم يفت الكاتب الإشارة إلى سوء التوظيف الذي قوبل به هذا الجهاز، في ظل سياق سياسي ملغوم، فقد وظف لصالح الديموقراطية المرتبة، والتي أصبح لها "عضلات" تصول بها وتجول بفضل هذا الجهاز الجبار "الذي أنزل الديموقراطية من أبراجها وأدخلها بيت الطاعة أليفة مستأنسة بلا مخالب ولا أظافر" (ص 91/90). هو المسخ، إذن، اعترى هذا الواقع السياسي، وبدا الإنسان داخله، مضمحل القيم ومسلوب الرأي، حتى أصبحت الدنيا وكأن لا شيء عاد يغري بأن نحيا من أجلها. إنها دنيا مقلوبة ! "موظفون كبار في كل مكان، في كل إدارة يضعون اليوم سياسة ويضعون غدا سياسة نقيضا لها. كأنهم الإنسان الآلي الذي لا يفهم ولا يحس ولا يفكر ولا رأي له" (ص 126).ولذلك ألفينا الكاتب يحذر من الانسياق والانجذاب مجانا "حين تشاهد صورة إنسان في صحيفة أو على شاشة التلفزة، فلتسأل ماذا وراءه؟" (ص 36). هذه الوضعية المتردية، على المستوى السياسي، حسب هذه النصوص، سببها الأول كان هو الفساد وهذه الديموقراطية الخادعة، من جهة "وإن كانت لا ولم تخدع أحدا" (ص 71). كما أن تلك "الوحوش الآدمية التي تبتسم وديعة كالملائكة" تصر دوما على تهميش الإنسان/المواطن فتضاعف بذلك همومه وانكساراته، من جهة ثانية "أما أنت أيها الموظف الصغير ما لم تكن في موضوع ملفات يمكن تأجيلها أو التعجيل بها يعرضها على النور، فإن أحدا لا يمكن أن يتذكرك ولو ببطاقة بريدية" (ص 44). هكذا يبدو الخطاب السياسي، في هذه النصوص، متعثرا في خطواته، ضعيفا وعاجزا عن مسايرة القاعدة العريضة من الشعب. وإن كان الخطاب يتشدق باللغة المعسولة ويحلم "بالربيع المزيف"، فإن سلطة الواقع سرعان ما تظهر الحقيقة وتزهق مخزون الشعارات البائتة وتسقط الادعاءات الباطلة..فالزمن يتغير..والشعب يرى.."ولا يأس من الحاضر ولا يأس من مفاجآت وتحولات الآتي" (ص 15). يطرح الكاتب أيضا جملة من القضايا الاجتماعية، التي تمس الحياة اليومية للمواطن المغربي، فيعالجها بالوصف والنقد، بدءا بقضايا "التسول" التي تعتصر أبناء الطبقة المحرومة/المهمشة/العاطلة..من المجتمع، مرورا بقضايا "الرشوة" التي تمرر وتبرر، مع صمت السلطة، تحت اسم "هدايا المحبة" وأية محبة ! وانتهاء بمختلف أشكال النفاق والخداع "إنها المقايضة في صورتها المخادعة التي لا يمكن أن تخدع أحدا. اللباس لا يصنع الراهب، كذلك جلباب يوم الجمعة ويوم العيد وفي أيام رمضان.." (ص 23) حتى إذا استفحل المرض وتوغل في أوصال المجتمع، بدا عاديا ومألوفا. فالكل في فلكه يسبح ! وما خفي كان أعظم ! بعبارة، إنه "المعجب في أخبار المغرب". الخلاصة أن نصوص "بخط اليد"، وهي تقوم بتعرية هذا الواقع المزري وتسجل انكساراته المتعددة، لإدانة صارخة ورسمية لتلك الوضعية الشادة، وثورة ضد كل أشكال الفساد والنفاق وقتل الإنسان. ثورة تطمح إلى تغيير هذا الوضع المالح ! وتبقى الرغبة في الإصلاح والتغيير، أمرا مطلوبا حتى ننقذ ما يمكن إنقاذه، كما تظل الرغبة في الحياة الكريمة مسعى أكيدا وعميقا." رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جنانه.