فاتحة طلب مني الأستاذ عبد الجبار السحيمي- رحمه الله- منذ سنوات خلت، نسخة من النص أعلاه، بعد أن اطلع، في وقت سابق، على رسالتي الجامعية حول " الشكل القصصي في فن القصة بالمغرب من بداية الأربعينيات إلى أواخر الستينيات"1 وكعادته، لم يتردد في التنويه بها ،مشيرا إلى شهيد من شهداء القصة المغربية الذي لم يعد يذكره أحد- وهو المرحوم عبد الرحمان السائح- والذي يجهله الكثيرون، بعد أن غيبته - في وقت مبكر- نهاية درامية عنيفة عن الساحة الثقافية عامة، والقصصية خاصة.لايحمل النص أعلاه،هوية سردية محددة، مكتفيا بالعنوان المجرد، دون أن تغيب عنه رائحة السرد التي فاحت من مواقع متعددة، عبر مقاطعه المختلفة. صورت النص، وأرسلته ، بالبريد، إلى الأستاذ عبدالجبار، وانتهى الأمر عند هذا الحد.إلى أن وقعت الواقعة، فوجدتني أرجع إلى هذا النص الذي انتصب أمامي برؤية ثاقبة لم تقف عند حدود " الوطني" من تحركات المدن والمناطق النائية بشكل لم يسبق له مثيل،بل امتد إلى القومي( الربيع العربي)، والإنساني، من خلال قانون الصراع الدائم بين العبد والسيد، الحاكم والمحكوم،السائد والمسود. ولم تعد مظاهر التجميل الزائفة مستساغة، خاصة على مستوى- وهذا ما سيكشف عنه النص- الكتابة التي تفضح الدواخل، وتعري الكوامن، وتمزج بين الوعي واللاوعي في التجربة الإنسانية بأساليب عديدة. حول العنوان اكتفى- كما سبقت الإشارة- النص بعنوانه بعيدا عن الإنتماء الأجناسي.ولم يكن ذلك سهوا، أو عمدا،كما يحدث،عادة،للكاتب، حينا، أو الناشر، حينا آخر،بل إن استبعاد التجنيس قصدا، هدف من ورائه الكاتب إلى: أ- التعامل المرن مع النص حسب طبيعة القارئ المسلح بمرجعية محددة، أو الممارس للقراءة بعيدا عن هذه المرجعية.و بنية النص تسمح بهذا التعامل الذي قد يرى فيه القارئ بعدا سرديا، حينا، أو إخباريا، حينا آخر،قد يرى فيه،أحيانا، نصا "بيداغوحيا" حول الأدب والأدباء،أو قد يتلمس ،أحيانا أخرى، بعض المفاهيم النقدية حول الواقع والواقعية.قد يرى فيه القارئ، نصا " تحريضيا"، ويرى فيه قارئ آخر، نصا يقوم على الإعتراف وطلب المغفرة من الذين سيرثون الأرض بعد ،أن استبعدهم الأدباء من دائرة اهتماماتهم الأدبية والفكرية. ب- وهذه الثنائيات ،المشار إليه أعلاه،هي، في جوهرها ، تناقضات الذات والآخر المنتسب إلى المرجعية ذاتها، والمعارض لها في الوقت ذاته، بعد أن تباعدت الوسائل والأهداف بين المرسل والمرسل إليه.ومن ثم تصبح "ياء النسبة"في " مدينتي" ليست متعلقة بذات المتكلم، بل تمتد إلى المتلقي الذي يشارك المتكلم في الفضاء ذاته. فالمتكلم متكلمان: متكلم العلن، وهو صاحب النص المصرح بانتمائه، وهو يعاني ما يعانيه داخل مدينة تنكر لها قبل أن تتنكر له. أما المتكلم الصامت، فهو يطل ، بين الفينة والأخرى، من زاوية مظلمة،متابعا تحولات المدينةالمتسارعة. ج-المدينة الآن تنتقم.والإنتقام لا يكون، عادة، إلا نتيجة رد فعل لفعل سابق.والإنتقام لا يكون إلا في المقتل، والمقتل لا يكون إلا في العزيز، أو الأثير أو النفيس، وهذا ما تجسد في أبنائها، في كتابها. فالمدينة أم لا تفرق بين أبنائها، لكنها ترفض العقوق الذي يدفع بها- الأم- إلى إرجاع الأمور إلى نصابها.ف(الإنتقام) لا يرد، في هذا السياق، بالمعنى المرضي، بل هو دلالة على ما يجب أن يكون بعد رفض ما هو كائن. د-المدينة المنتقمة جزء من أرخبيل متحرك في تلك الفترة الحرجة من المغرب.والقارئ للنص يستحضر هذه المرحلة المتفجرة بالوقائع والرؤيات المختلفة(أحداث 1958/صراع الإخوة الأعداء/صراع النخب في المدن والبوادي/بقايا عملاء الإستعمار/التبعية للأجنبي في دواليب الإدارة /مصاعب الإنتقال/المد القومي خاصة بعد تأميم قناة السويس/صراع المعسكرين/تطور حركات التحرر في بلدان العالم المستعمر- بالفتح- سابقا/ شعار الإلتزام بالوساطة، شرقا، أو عن طريق الترجمة من قبل الرواد المغاربة مثل عبد الله إبراهيم وعبد الكريم غلاب ومحمد زنيبر وأحمد زياد ومحمد التازي /صدى ما كان يمور به الشرق من أحداث وأفكار وتوجهات..) ولم يكن محض صدفة نزول مقالات عديدة عن " مسؤولية المثقف"، و" الأدب الجديد"و" أدب ما بعد الإستفلال"، عند الكتاب المخضرمين، فضلا عن كتاب الجيل الجديد في تلك المرحلة مثل محمد برادة وعبدالرحمان السائح ومحمد الطنجاوي وعبدالجبار السحيمي..( محمد برادة:هكذا يجب أن نؤمن بالأدب.العلم.ع.2645. 1957./عبدالجبار السحيمي: الصيحة التي سمعها المغاربة بقلوبهم ركن : صدر حديثا:وادي الدماء. العلم.ع.2490. 1957./).2 ه- مصدر النص مجلة " رسالة الأديب"- وهو إسم على مسمى- التي ساهمت - تحت إشراف المرحوم الحبيب الفرقاني- في إنضاج الرؤية الواقعية للأدب، من خلال شعار الإلتزام السياسي ، والأدبي، الذي دافع عنه الفقيد إلى آخر لحظة من حياته، فضلا عن البحث في الخصوصية الثقافية المغربية ، مكانا وزمانا، مع الإنفتاح على المرأة والمنتوج الرمزي ، عامة، في "البحث السوسيولوجي"، والنقد الإجتماعي لمسلكيات محددة. النص يقوم النص عل جدلية السؤال والجواب. في المستوى الأول يستندالسؤال إلى صيغة الإنكار،والإستنكار أيضا، بأبعاد دلالية على الشكل التالي: أ- رفض ماهو قائم ،والتمهيد لوضعية جديدة . ب-التحريض:الإنكار ليس مجرد حالة انفعالية،بل دعوة معقلنة لتغيير ماهو قائم ، سواء عن طريق المنكر،أو عن طريق المتلقي للإنكار. ج-الإنكار تطهير للذات- ذات المتكلم- ورغبة،من ناحية ثانية،للعودة إلى المنابع الصافية بعيدا عن وهم هذه اللحظة الزائفة. وفي المستوى الثاني،مستوى الجواب،نجد الآتي: أ- الإعتراف بضرورة رد الإعتبارلمدينة يدين لها المتكلم بالشيء الكثير. ب-إبرازمظاهر العقوق الذي مارسه المتكلم نحو المدينة، من خلال: -المكان بمحمولاته المادية والرمزية( الأهل/ الأرض/السماء/ الناس البسطاء). -المكان المجرد من خلال ارتباطه بالوجدان الخاص.فلكل منا "مدينته" بالرغم من انتسابنا إلى الفضاء المشترك ذاته. - الإستكانة إلى الوهم من خلال المظاهر المفتعلة. (أليس من الجبن والخسة والأنانية أنني أحاول الفرار منها إلى عوالم خلقتها بنفسي، وظننت أنها عوالم مثالية.إنه لعار وجبن وأنانية). - التعبير الصادق يمر عبر الذات، ذات المتكلم المتجهة نحو ذات المخاطب.حبة فول منشطرة إلى شطرين،والإختلاف في الموقع فقط. - والإنحراف نحو الوهم ،المشار إليه أعلاه،ولد حالة من الغربة والإغتراب جعلته يحمل وجها غير وجهه- كما حدث لبطل الطيب صالح في موسم الهجرة إلى الشمال-عندالنظرإلى المرآة.ومن ثم مارس الكتابة المزيفة التي لاعلاقة لها بهذه المدينة التي انتسب إليها بوجه آخر. ( وقد أردت اليوم أن أكتب عن مدينتي..ولكن؟لا أعرف فيها أحدا، لقد نسيت الأرض والأهل والجيران، والأعمى الذي تعثر في أحجار الحائط المهدم . نسيت كل شيء.). ما يبقى إذن؟ الإنتقام.انتقام مدينة من الذين أداروا لها ظهر المجن. ويأخذ هذا الإنتقام ، في النص، طابعا دراميا على الشكل التالي: أ- انتقام من الذات التي تحولت إلى شخصية تعاني ما تعانيه لحظة اكتشافها للأوهام.فالوضع أصبح شبيها بحالة" الكاثرسيس" الأرسطية يتطهر فيها الكائن من أحاسيسه الفاجعة عبر التماهي في الشخصية المأساوية. ب-الإنتقام يحقق العدل بين الإنسان ومدينته. " لنفسك عليك حقا ولجسدك عليك حقا ،ولمدينتك عليك حقا." ج-الولاء هنا لا علاقة له بالطبقة،أوالسلالة،ولا بالأصيل أوالدخيل،ولابالمقيم أوالظاعن..الولاء هوالإخلاص لمدينة- ولوكانت قاسية-أعطتك الكثير،وأصبحت، من ناحية أخرى،دينا في عنق الذين يتعايشون فيها داخل هذا الفضاء المشترك. د- المدينة،بهذا المعني،فضاء لإنتاج القيم المشتركة التي يلتف حولها المقيمون بها .فهي بذلك تتجاوزالعرضي من حدود وعلامات التشوير والممنوع والمرغوب..تتجاوز كل ذلك نحو الجوهر ، أي الإنتماء الصادق لكل ما تحمله من دلالات مختلفة تسمح بالتساكن ،أوالتعايش في فضاء إنساني مشترك. ه- الإنتقام اجتثات للفاسد،وهو أمر يقتضي التضحية والبذل والعطاء.فالدم يزهر ،عاجلا أوآجلا،والشلو يعود إلى الجسد في كل الأحوال.فالإنتقام- والنص تجسيد لذلك- آت طال الزمن أم قصر. و- وبرز ذلك وا ضحا، من خلال بنية النص الخطابية التي قامت على: 1- لازمة محددة تشخص ،عن طريق تكرار صور معينة تجسد المأساة الشخصية داخل المأساة العامة.(صورةالعقوق أوالتنكر للمدينة بكل محمولاتها المادية والرمزية). 2- التنويع بين اليومي والشعري.في المستوى الأول يصرخ بالحقائق الدامغة، وفي المستوى الثاني ينخرط في نوع من المناجاة المتوزعة بين نقد الذات، وبين البوح والإعتراف بالخطيئة. في المستوى الأول، تبرزالسجالية والجدل والتساؤل المطور لوضعية محددة،وفي المستوى الثاني تفوح روائح السرد مغلفة برقة ورهافة. 3- ولعل هذا ما يفسر خصيصة الكتابة عندالأستاذ عبد الجبار السحيمي- رحمه الله- والتي ينحت فيها من صخر حينا،ويغترف فيها من بحر حينا آخر. عود على بدء بالرغم من انتساب النص إلى مرحلة مبكرة من كتابات الأستاذ عبد الجبار السحيمي - رحمه الله- فإن ذلك لا يمنع من صدوره عن رؤية محددة ظل الفقيد العزيز مخلصا لها إلى آخر لحظة من حياته. وهذه الرؤية التي عبر عنها في معظم كتاباته القصصية والمقالية،فضلا عن أعمدته الشهيرة، تقوم على الإيمان بالإنسان،سواء وجد في حالة ضعف أو قوة. قد يطوله الفساد، أو قد يضعف لسبب أو لآخر، قد يكون هذا أو ذاك،لكن الإنسان يظل جبارا في قدرته على العودة إلى جوهره الأصيل، ماعدا الذي ظل مصرا على الخروج من دائرة الإنسان. والنص يجيب على ذلك ، في ذلك الزمن المبكرعبر مظهرين: أ- مظهر المواطنة التي اتخذت الآن أسماء عديدة ومفاهيم مختلفة. ب- مظاهر التمرد اليومي للمدن والفضاءات المنتقمة من زمن العسف والمهانة والإستبداد. ج- مطهر النخب المتوزعة بين الحربائية،وبين الإنخراط الفعلي في المتغيرات الجديدة، بين "الإنتظارية"، وبين تقديم رجل وتأخير أخرى. النص يرتفع،من جديد، يافطة مدبجة بحروف لاتحتمل التأويل ، في فضاءات تأخذ من قبسه القليل أو الكثير. رحمك لله أستاذنا الجليل. هوامش: 1- عبد الرحيم مؤذن:الشكل القصصي في فن القصة بالمغرب.( جزآن.ج.1. دار الأطفال.1988/ ج.2، عكاظ.1998.) 2- انظر الفصل الثالث من الباب الأول من الجزء الأول.