ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    جامعة عبد الملك السعدي تبرم اتفاقية تعاون مع جامعة جيانغشي للعلوم والتكنولوجيا    سفير ألمانيا في الرباط يبسُط أمام طلبة مغاربة فرصا واعدة للاندماج المهني    بوريطة: المقاربات الملكية وراء مبادرات رائدة في مجال تعزيز حقوق الإنسان    ولي العهد الأمير الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء الذي يقوم بزيارة قصيرة للمغرب    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب    رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'        أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره        أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكوميديا التي تبدأ بالنزوات لتصل إلى السياسة
مسرحية (الهواوي قايد النسا)للكاتب أحمد الطيب العلج
نشر في العلم يوم 15 - 02 - 2012

مفهوم الاستنبات في الكتابة الكوميدية عند أحمد الطيب العلج
عندما نعيد استحضار زمن التأسيس الأول للمسرح في المغرب في مطالع القرن العشرين،وعندما نريد تسليط الأضواء على ما قام به رواد التجريب المسرحي الأول من محاولات مدّ قنوات التواصل مع التجارب المسرحية الغربية لمعرفة أسرار الكتابة الدرامية،والدخول بالكفايات المكتسبة المطلوبة إلى كتابة النص المسرحي المغربي المأمول ،نجد أن الاقتباس عندهم من النصوص الغربية بعامة و الفرنسية بخاصة كان محكوما بما يوجد في فضاء هذه النصوص،وكانوا كمقتبسين يحافظون على الشخصيات، وطباعها،ويقدمون الأحداث كما هي،ويستنسخون الحوارات كما تمّ بناؤها من قبل،ويعرضون الفصول والمشاهد كما هي،ويحافظون على المرجعية المسرحية الغربية كنموذج قار لا يمكن تغييره،وبهذا لم يكونوا يتدخلون أثناء الاقتباس لمغربة النص لغة، وأحداثا، وذهنيات،وخصوصيات تحقق اختلافها عن الأصل،وحتى ولو حقق هؤلاء الرواد الحدّ الأدنى من طموحهم الفني،فإن ما يبقى بعد الاقتباس هو صورة الأصل للنص الأصلي.
لقد كان (الاقتباس) المسرحي ضرورة فنية عند هؤلاء وهم يعملون بمشروعهم الفني على التعامل مع تجارب مسرحية سابقة لها تراكماتها،ولها مدارسها المسرحية في كتابة النص المسرحي،ولها أساليبها في الإخراج المسرحي،وهو ما كانت الثقافة المغربية تفتقده لغياب تراكم معرفي مسرحي في تجارب مسرحية سابقة يمكن الاستئناس بها أثناء كتابة الكوميديات، أو كتابة التراجيديات التي ترسخ وجودها في الثقافة الغربية.
هذا الاقتباس كعمر فني من أعمار المسرح المغربي ظل فيه المقتبسون المسرحيون يبحثون عن إمكانات التحول،والإضافة،وتحديد المفاهيم،ونجد أن الكاتب أحمد الطيب العلج كان فاعلا حقيقيا في هذا البحث،أولا على مستوى اختياره النصوص المسرحية التي ستشكل عنده خروجا حقيقيا من دائرة الاقتباس الضيق الذي كان في عمقه ترجمة للأصل دون إبداع ينضاف إلى هذا الأصل،ثانيا على مستوى نقل مفهوم الاقتباس من مجاله المفهومي المغلق والدخول به إلى مفهوم أكثر رحابة،وأكثر مرونة تساعد على تبديل ما يمكن تبديله،وإضافة ما يمكن إضافته،وربط موضوع النص الأصلي ببلاغة اللغة الدارجة المغربية،وبقصائد الملحون،وبالحكم الشعبية،وبالقدرة على نظم القوافي،والمستملحات،والسخرية التي تجعل النص الأصلي نصا مسرحيا مغربيا له لغته الخاصة،وله حكمته،وله خصوصياته التي تجعله ينتمي إلى الصياغة الكوميدية المغربية،وفي الآن نفسه ينتمي إلى زمن التفوّق أثناء استنبات النص الآخر ليصير هو النص المغربي الذي سيقبله المتلقي المغربي،وسيقبله الذوق،وتقبله ثقافة تلقّي هذا المسرح لدى النخبة،ولدى الجمهور المغربي،ولدى النقاد.
لقد كان التدرج من تجربة الاقتباس المسرحي إلى تجريب الاستنبات نقلة نوعية في فعل الكتابة الدرامية المغربية رسم بها الكاتب أحمد الطيب العلج منهجه في عملية تأسيس مسرحه المختلف عن الأصل الذي ينطلق منه لكتابة كوميدياته،وينطلق منه في كتابة الحوار ،وينطلق منه لترسيخ أسلوبه الذي سيصير معروفا به،وهو من خلال تعامله مع العديد من الكوميديات،قارئا،وفاهما،ومستنبتا لأفكارها، ومواضيعها، صار مقتنعا أن النقل الحرفي لهذه الكوميديات لا يعطي للناقل أية قيمة مضافة لعمله،وأن المستنبت الذي لا يضيف،ولا يضفي خصوصياته الثقافية المحلية على ما ينقل لا يقدّم الجديد،ولكنه يعيد ما قدمه المنقول منه،من هنا لم يجد الكاتب أحمد الطيب العلج سوى تقنية الاستنبات كطوق نجاة فنية،لإعادة توظيف التراث المغربي،والذاكرة المغربية،في كوميديات كان يريد بها نقد الواقع المغربي وفهمه، وكان بهذا كله يريد أن يتخلص من مفهوم (الاقتباس) الذي كان يغيب عنه وفيه حس الإبداع لدى الرواد المسرحيين المغاربة الأوائل، وكان يتبنى مفهوم الاستنبات الذي اكتسب منه مهاراته في الكتابة،ونال بها قيمته المسرحية اعتمادا على هذا الإبداع الذي مكّنه من تحقيق هذا الاستنبات بعد أن صار تسخيرا ذكيا لتقنية الكتابة،وصار معرفة بكتابة الرؤية الشعبية الكوميدية لنص جديد ومغاير لم يعد هو نص الكوميديا الأصل القادم من المرجعية الغربية ،ولكنه صار نص الكوميديا التي كتبها الكاتب أحمد الطيب العلج بعد أن تمّلك المعرفة بأسرار إضفاء المغايرة على مرجعياته المسرحية الهزلية،الجادة،الناقدة في سياقاتها الاجتماعية التي تتغذى من تناقضاتها, .
هذا الكاتب المسرحي،الزجال الشاعر،و المرتبط دوما بثقافته الشعبية ،كان يفتح العوالم المغلقة للكوميديا التي استنبت منها نصوصه على الممكن،وكان يعرف كيف يحاور معانيها لأنه صار يملك خبرة حقيقة في الحفاظ على تراثه المغربي،وصار يعرف كيفية توليد التجربة الخاصة من التجارب المسرحية الأخرى، وهو ما قاده إلى عالم تكريس مفهوم الاستنبات طوال كتباته المسرحية حتى أننا مع هذه التجارب لم نعد نشاهد سوى النصوص المغربية الأصيلة بعد أن نضجت دلالات أصيلة لم تعد تحمل من المرجع الذي تعامل معه الكاتب أحمد الطيب العلج سوى ظلال محدودة مستمدة من مرجعيات أصلها،ولم تعد تتكلم إلا بصوت خافت مستمد من أحداثها، ولم تعد شخوصها الورقية تظهر إلا كأطياف تم تحويلها إلى شخصيات مغربية.أما كيف صارت هذه النصوص بعد الاستنبات؟ فالجواب المقنع لا يمكن أن يكون مقنعا سوى بعد عملية قرائية دقيقة،معمّقة تقارن بين نقطة البدء ونقطة الوصول للوقوف على الفروقات،والمسافات،و الاختلافات التي تحققت بعد عملية الاستنبات التي أنقذ بها الفنان أحمد الطيب العلج المسرح المغربي زمن تأسيسه من التكرار أثناء (الاقتباس)،فأدخله بمرونة إبداعية،وبحس فني مرهف، المجالات الفسيحة في فضاءات نصوصه الكوميدية المغربية باستنبات مثقف،ذي مرجعيات مغربية منحت له حرية التصرف فيما يريد التصرف فيه دون الإخلال بقواعد الكتابة الكوميدية،ودون التخلي عن عمق ما يريد إبلاغه،وإبداعه،وتجميله، وهذه من بين أهم الوظائف الفنية التي قام بها لإثراء المسرح المغربي بالرؤية المغربية وهو يتفاعل مع التراث المسرحي العالمي بهذا الاستنبات وهو يتعامل مع التراث والواقع المغربيين بالكتابة الكوميدية التي تحولت بمواضيعها إلى ذاكرة مغربية تخزن واقعا مغربيا.
الكتابة الكوميدية بذاكرة شعبية مغربية
هذا يدل على أن أحمد الطيب العلج، مسرحي شعبي مغربي يحرّك كتابته الساخرة بدلالات مغربية يحضر فيها القول العميق، وتحضر فيها الحكمة البليغة، ويحضر الكلام الموزون المقفى، وتحضر الأحداث التي يستمدها من الظواهر الاحتفالية الشعبية المغربية، فيعطيها حواراً ذكياً ينتقد به الخلل الذي يراه في خلل الواقع،ويعاينه في خلل العلاقات،ويتتبع خلل التوازن الشعوري والنفسي عند شخوصه وشخصياته الشعبية.
لم يكن أحمد الطيب العلج عصامياً يكتفي بالبحث عن المعرفة لتحقيق رغبة خاصة، أو نزوة عابرة، أو فرحة كاذبة، بل كانت عصاميته هي إرادته في التعلم، وفي الإنصات إلى نبض المجتمع والواقع وكلام الناس، وكانت هذه العصامية محفزة على التعلم من الناس، والتعلم من النصوص المسرحية، ومن طقوس فاس وعمرانها وأجوائها الناطقة بالتاريخ وبالتراث الشعبي ومن أغاني الحياة فيها، وكانت عصاميته أيضاً محفزة له على النهل من قصائد الملحون، ومن التراث الأندلسي، ومن القوافي والأمثال، ومن مشاهدة احتفالات جامع الفنا بمراكش.
هذا الخزان المعرفي الذي امتلكه أحمد الطيب العلج من إنصاته إلى التراث الشعبي المغربي، ومن عصاميته كان وسيلة تلقيح معرفي جعله يكون قارئاً جيداً للنصوص المسرحية العالمية، وجعله لا يقيس برؤية الآخر كتابة زمن المسرح المغربي، ولا ينقل الحوارات وبنيات المسرحيات إلى مقتبساته، لأنه بهذا التلقيح كان يخصب تلك النصوص بما تعلمه من مجتمعه ومن تراثه ومن اجتهاده الذي أخرجه من حرفة "النجارة" ليدخله عالم الإبداع المسرحي الكوميدي الحقيقي، وجعله رمزاً من رموز المسرح المغربي بكتابات أهمّ ما فيها هي مغربيتها، وأهم ما في مغربيتها هو مواضيعها الجريئة وقضاياها المغامرة التي تبني رؤيتها الشعبية دون السقوط في الشعبوية الساقطة أو الكوميديا المتهافتة على الكلمات الجوفاء لإضحاك المتلقي في غياب عمق لموضوع الضحك.
إن سمة عصامية أحمد الطيب العلج قادته إلى أفق لم يصل إليه كاتب آخر في تأصيل المسرح الشعبي الكوميدي في المغرب، لأنه استطاع أن يحقق مسافة بين المسرح الغربي وبين كتاباته، وتمكن من أن ينجز احتفالات مسرحية شعبية لها لغتها التي يعرف بها مواضيع لها مواضيعها التي اختص فيها، ولها وظائفها الجمالية الشعبية باللغة والكلام الذي يفتح وينتج خطاب النقد الاجتماعي في المفارقات الاجتماعية التي تحكم المغرب.
ومن بين المسرحية الكوميدية التي كتبها العلج لإلغاء المسافات بين العديد من نصوصه المسرحية الشعبية،وبين فعل كتابة الواقع هناك مسرحية (الهواوي) التي أصر فيها على كتابة مسرحية واحدة بمواضيع وقضايا مغربية مختلفة يأتي اختلافها من طبيعة تعامله مع الواقع ومع ذاكرته ومع خزانه المعرفي.
إن تاريخ المسرح المغربي الحقيقي هو التاريخ الذي يتأسس على كتابة النص المسرحي المغربي، وهو الذي يتأسس على التراث المغربي الأصيل، وهو الذي يعرف كيف يحاور ويبني جمالية الحوار في بنية الكتابة الدرامية، وهو ما حققه تاريخ أحمد الطيب العلج في تاريخ المسرح المغربي تأليفاً و إخراجاً وتمثيلاً وغناءً ولحناً، وهو الكاتب الذي تحرر بعصاميته من الجري وراء النصوص المسرحية الغربية بعد أن خبر أسرار الفعل المسرحي، وكتب كتابات مسرحية عرّفت بالمسرح المغربي في كثير من التظاهرات المسرحية في الوطن العربي، بهذا فهو بحق وبامتياز ذاكرة مسرحية بذاكرة شعبية مغربية للمسرح الغربي، ومن بين المسرحيات التي تمثل نموذج الكتابة الكوميدية في مسير الكاتب أحمد الطيب العلج مسرحية (الهواوي قايد النسا) .
مسرحية (الهواوي قايد النسا)
نص كلاسيكي بإخراج تجريبي
من المحكيات الشعبية المغربية التي تمّ بها تركيب موضوع مسرحية (الهواوي قايد النسا) حكايات تدور سرودها حول حاكم متسلط يمثل السلطة العابثة في المجتمع المغربي،و تدور حوله العديد من الحكايات الصغرى التي تزيد من تأجيج الصراع بين مفارقات (القايد) وباقي الشخوص ،هذا البطل الذي يتصف ببعض ملامح (دون جوان )أو( زير النساء)،حين يقدمه الكاتب أحمد الطيب العلج كرجل شهواني تغلب عليه نزعاته الاستحواذية على النساء موظفا في تحقيق ذلك سلطة المال،والرشوة،والوسطاء،واستعمال النفوذ وصولا إلى ما يرغب في الحصول عليه لإشباع رغباته الجنسية.
يمثل هذا (القايد) صورة حاكم مستبد بسلطة مطلقة تتمحور حول أزمنة الكتابة الدرامية الكوميدية، ولغتها، وحواراتها، التي تتحدث عنه كرمز يمارس غوايته باقتفاء أثر كل حسناء جميلة يريدها أن تكون في حريمه جسدا مطواعا لبلوغ شهوته ورغباته المكبوتة.
زير النساء هذا صار هو (الهواوي) الذي يعني في المفهوم المغربي الدارج الرجل الذي يهوى ملاحقة نزواته،والباحث دوما عن المتعة ،فهو لَذّوي يسعى إلى تحقيق رغباته المكبوتة بكل الوسائل،وهو النزق متقلب الأهواء والرغبات فيستعمل كل طريقة ماكرة للانقضاض على غنيمته،غير متورع في تحقيق مآربه إلا بملاحقة المحصنات المتزوجات حتى ولو اقتضى الأمر تطليقهن من أزواجهن،أو يعنى الرجل الذي يتبع هواه بذاتية لا ترى إلا ما تملكه يداه من نساء .دون حياء أو وجل،أو مراعاة أخلاق.
إن تسمية نص المسرحية ب : (الهواوي قايد النسا) له استراتيجية كتابية تختصر ما يريد النص قوله، فالعنوان بتركيبته الدلالية يظل مرجعية ما سيقوله النص المكتوب ،أو ما يقوله زمن الفرجة موزعا بين ثلاثية المعنى هي الدال على (الهواوي) بسلوكه الشبقي،وهو السلطة برمزها المتحكم في أفعال الشخوص،وهو المتقرب من المرأة كجامع لهذين الرمزين اللذوي والسياسي.
(الهواوي) هو المزاجي المتقلب الأهواء والأحوال، فهو الذي يحب،وهو الذي يهوى،وهو الذي يهوي ويسقط ويهبط من عليائه،وهو التابع لهوى النفس،والتابع لأهوائه،إنه هذا الزير الذي يعني الدلو العميق الذي لا يمتلئ بالماء،كونه لا يشبع من مصادقة النساء، لهذا تسميه الذاكرة الشعبية المغربية ب (الفتلي)،أو (النساوي) تسمية لا تحمل أي مفهوم يحيل على الشذوذ الجنسي.
من هذه المعاني ،ومن هذه التركيبات الدلالية سيكون القايد زغنون الذي تقمصه عبدالقادر بوزيد هو مدار الصراع،الذي يقدم مزاجه،ويكشف ملامحه،ويتابع سلوكه اليومي،فهو (متكبر يرفض الحوار كما يقول مع حثالة البشر)،وهو الذي لا يقبل بنصيحة الفقيه ورجل الدين مولاي نوح(عبدالنبي البنوي) (لأنه فقيه المقابر)،وهو (الهواوي الذي صار قائدا)،وهو الباحث عن السعادة التي لم يجدها سوى في دار الأحدب بعد أن لم يجدها في قصره،وهو الذي لا يفرق بين الحلال والحرام،وهو(النصاب)ناهب المال العام الذي يوظفه في إرضاء شهواته،وهو الذي يقبل أي فتوى تسند نفاقه،وسلوكه اليومي مع النساء لتطليق (عبلة من زوجها الأحدب)،وهو الذي لا يحب إلا من يكذب عليه،ويداهنه،ويتملق إليه ليبقى ولي نعمة الانتهازيين،والمنافقين.
من هذا السلوك المنحرف كثر ضحايا (الهواوي) المتسلط،وكثرت نزواته الفجورية ،وبالمقابل هو الضعيف الذي يخاف على سمعته،ومكانته من التشهير ،ويخاف على قيمته الرمزية كما يراها هو رمزية ، ،ويخاف من اليسار السياسي، ويخاف من معارضيه.ومن المبررات التي يسوغ بها تطليق النساء من أزواجهن هو (رد الأمور إلى نصابها) بعد أن وجد خللا كبيرا بين جمال (عبلة)،وقبح زوجها (فرزوز)،فتأهب لحماية المظلومين والمظلومات،وبسخرية لاذعة أنانية يتساءل : (كيف يعقل أن تتزوج سلحفاة بغزالة؟)،أو يجد (غزالة متزوجة بقنفد).
هذه هي السيرة التي كتب بها أحمد الطيب العلج هذه المسرحية الشعبية الكوميدية التي كانت تحكيها نساء فاس في جلساتهن الخاصة ،وكن يرفهن بها عن أنفسهنّ،ويكشفن عن عورات الحاكم،ويُسفهن سلوكه، ويلامسن بمحكياتهن،وغنائهن،وتشخيصهن لبعض الأدوار المضحكة المجتمع النسائي المغلق في البيوتات التقليدية،وكان هدفهن هو الوعظ بما يقدمن لتعليم النساء العفيفات المنتميات إلى العادات والتقاليد المحافظة دروسا في الأخلاق والمحافظة على الأصول،وكن يحذرنهن من مغبة السقوط في حبائل شهوات القايد.
من هنا انطلق أحمد الطيب العلج من هذه المحكيات،و من شخصيتها المحورية (القايد) ليجعل الكتابة الدرامية بعد إضافة شخوص أخرى مستمدة من الواقع السياسي و الاجتماعي المعيش عبارة عن تداعيات لحكاية تتوالد منها الحكايات التي لم تعد تتحدث عن نزوات شخص،أو تحكي عن تسلطه،أو تسرد تراكم الرغبات الجنسية المغلفة بغلاف السلطة،وإنما صارت تتحدث عما أفرزه سلوكه المختل من مفارقات أوصلت أحداث النص إلى تناول قضايا دينية شائكة مثلتها شخصية (الفقيه مولاي نوح)وشخصيتا (الغالي) (بنعيسى الجراري)، و(مصباح) (سعيد آيت باجا)،والتطرق إلى اختلالات سياسية فاضحة، ،وأخلاقية مثلتها شخوص تحمل مواقفها الانتهازية معها مثل (عيروض) (محمد الحوضي) ،و(العريفة أمّ الخير) (حسناء الطمطاوي)إما تأييدا للقائد،وإما رفضا لسلوكه،وسيبدأ التغير في سير الأحداث بعد الانقلاب الحياتي في حياة (القايد الهواوي زغنون) حين وضعته الظروف أمام امتحان عسير صار يختبر به ما بلغته سلطته من نفوذ وهيمنة على البلاد والعباد فصارت المعارضة تزيد،والرفض يتقوى،والمعيقات تقف أمام تحقيق ما يريد،وشخصيته تضعه أمام الموانع التي تجهض أحلامه في كل لحظة من لحظات الصراع،على الرغم من أنه وضع معارضيه في السجن،وهي كتابة أرادها الكاتب أحمد الطيب العلج أن تكون صالحة لكل زمان ومكان لأنها تتحدث عن كل أشكال ومظاهر الخلل في حياة الإنسان وعلاقة الحاكم المتسلط بالمحكومين.
أول امتحان سيفضي بهذا (القايد) إلى الاصطدام بالواقع العنيد هو عناد (عبلة) (سكينة الفضايلي) وزوجها (فرزوز) المرتبطين بعضهما ببعض ،ورفضهما كل إغراءات (القايد)،هذا الزوج الأحدب (عزيز العلوي) الذي حضر في هذا النص الكوميدي كأحدب نوتردام كرجل معاق ذي خلقة مشوهة يمثل بحدبته نقيض الجمال والحسن والبهاء الذي تتصف به (عبلة) المرأة الوفية، المصونة، التي ترتبط به،و بقيم العائلة المحافظة على أصول الشرف فطوال النص كانت تدافع على ارتباطها بفرزوز زوجها الأحدب.الذي يقول: (أرى راسي مرفوع،ويبقى كلامي مسموع).
هذا ما تريد قوله هذه المسرحية الشعبية الكوميدية بأسلوب شعبي ساخر بدأت بالحديث عن نزوات (القايد)،وطمعه في نساء المدينة لتصل إلى ما يعرفه المجتمع من صراع حول أمور سياسية قدمها الكاتب بسخرية لاذعة،وصريحة،ومباشرة أساسها اللغة الشعبية ذات الذاكرة اللغوية المغربية بكل بلاغتها،وحكمها،وقوافيها.
لكن الإخراج المسرحي سيقوم بإعادة تقديم قراءته لكل ما يقدمه هذا النص بمبررات دعم بها المخرج مسعود بوحسين اختياره لنص كلاسيكي ينتمي إلى الكتابة التقليدية في المسرح المغربي بهدف تطويع ما هو كلاسيكي مع تقنيات وأساليب المناهج الحديثة في الإخراج المسرحي،و تبني هذا التوجه في برنامجه و في كل تجاربه الإخراجية السابقة يعني انفتاحه على كل التجارب المسرحية الغربية،وفي نفس الآن تجريب كتابة بعض النصوص التي يجد فيها إمكانات تسخير خبرته في إبداع العرض المسرحي،فقد أخرج (قصة حديقة الحيوان)لإدوارد ألبي،و(المستقبل في البيض) ليوجين يونيسكو،و(حلم ليلة صيف) لوليم شكسبير،وكتب مسرحية (كونطرادا)و(طاح اللويز)،وقام بإخراج المسرحية الكوميدية الشعبية (النشبة) التي كتبها أحمد الطيب العلج سنة 1973 وقدمتها فرقة القناع الصغير،وفي سنة 2006 عاد المخرج مسعود بوحسين إلى إعادة إخراجها لأن موضوعها الذي يتناول الرشوة المستشرية في المجتمع المغربي لايزال موضوعا قابلا لنقد السياقات التي تعمل على استثمار هذه الآفة من أجل تغطية الاستغلال الذي تمارسه الطبقات الطفيلية في المجتمع،وهو المنحى نفسه الذي قدم به مسرحية (الهواوي قايد النسا)تجريبا لإخراج نص كلاسيكي برؤية جديدة.
وبإعادة تقديم هذا النص الكلاسيكي يريد المخرج مسعود بوحسين أن يكون وفيا للخط الذي رسمه لتجربته الإخراجية في إحياء التراث المسرحي المغربي الذي صنعه الرواد،ويكون تنظيم الفرجة ركحيا يسير وفق منظومة إخراجية جديدة تراعي طبيعة التعبيرات التي طرأت على الإنتاجية الفرجوية في المغرب،وتراعي بشكل دقيق المنحى التعليمي للعرض بالمفهوم البريختي للتعليمية.
ومع (فرقة طقوس 4) قام هذا المخرج بإعادة كتابة هذا النص الكوميدي و تركيبه وفق منهج بريختي في كتابة مشاهد العرض حيث كل مشهد كان مستقلا بموضوعه،وكان مستقلا بشكل اللعب فيه،فما من حكاية إلا وتصبح حكاية مكتفية ببنيتها ودلالاتها،دون المس بجوهر الكتابة الكوميدية التي وثقت صلات البناء اللغوي ببناء الأحداث ،وربطت ربطا عضويا ما بين الشخوص وحضورها المناقض لحضور (القايد) لتعميق التشويق،والفكاهة التي تنتقد غطرسة السلطة،وتثير موضوع الجنس،والرشوة،والقبح والجمال،وينتج كل المساهمين في صناعة الاستبداد،والرفاهية الورقية التي يتحصن بها (القايد) الذي يتوفر على كل مؤهلات الصعلكة والتحرش الجنسي التي يرتكب بها كل الموبقات.
لقد كانت الهندسة المعمارية لفضاءات اللعب المسرحي مقسمة إلى مستويات وضعت لتسهيل البناء المشهدي لكل مشهد،وكان كل مستوى من هذه المستويات محددا بمكان وجود الشخصية،ولعبها فالأرجوحة تدل على تأرجح الحاكم بين أهوائه،ونزواته،وتلاعباته ،والسلالم ترمز إلى التسلق الطبقي،وإلى صعود وهبوط سماسرة و وسطاء من يتحكم في مصيرهم كما يتحكم في مصير من عارضه،أو خالفه الرأي من هنا فمصباح و الغالي كما وصفهما النص (يمثلان عكاكيز الشيطان القايد) أحدهم جاسوس القايد،والآخر رئيس قسم الغراميات الخاص بسيادة القايد،والآخر (سمسار الهوى)،أما المرتفعات الخاصة باللعب المسرحي فهي واجهة للقصر،و هي حجرات السجن،وهي أسرّة المسجونين فرزوز،والفقيه،وعيروض، الذي سيتحول من خارج على القانون سخره القايد للقضاء على الفقيه المعارض إلى مناضل جاهل لا يعرف في أمور الدين أي شيئ،ولا يعرف شيئا في أمور السياسية لكنه صار منظرا للتغيير بعد أن تم اعتقاله بعد أن فشل في مهمة تصفية الفقيه.
لقد قدّم الإخراج التصور المغاير في أداء الممثلين،وتشخيصهم لأدوارهم،ولعبهم الذي يجب أن يكون قريبا من الخط الكوميدي للنص،وأن يقترب أكثر من الإمكانات الصوتية،والجسدية،والتعبيرية للممثلين ليكون منسجما مع فضاء العرض ولا يناقض الديكور الرمزي الذي ملأ فراغات الركح،وهي الرهانات التي قربت لغة نص مباشر بخطابه الواقعي المباشر من علامات مجردة في ديكور تجريدي كان يساعد حركة الممثلين على إبلاغ ما يقوله النص،قبل إبلاغ ما يريد أن يبلغه بناء العلامات التجريدية التي لا يعود لوجودها أي مبرر إلا أثناء وجود كل ممثل مع الإضاءة ليعطيها معناها ووظيفتها الدلالية .
لقد توزعت وظائف الشخصيات حسب وجودها في النص الكوميدي وحدّدها تقسيم الركح إلى مستويات للعب المسرحي الدال على وظيفة المكان في علاقته بكل شخصية:
- المستوى الأول الذي يحدد مكان وجود القائد.
- المستوى الثاني هو السجن الذي تحيل عليه علامات الزي كلباس للمعتقلين،وهو مكان حلم عبلة(سكينة الفضايلي) الذي يظهر في حلم زوجها السجين،وهو لباس الفقيه مولاي نوح (عبد النبي البنّيوي)،ولباس عيروض (محمد الحوضي).
- المستوى الثالث هو الباحة الموجودة أمام إقامة القايد وهو عبارة عن ساحة تمثل حلقة اللعب المسرحي،ومكان تقدم فيه المشاهد الساخرة التي يلتقي فيها الفعل الدرامي بوجود الشخصين الأكثر حضورا في زمن الفرجة ،مصباح (سعيد آيت باجا)،والغالي (بنعيسى الجراري) اللذين انسجما انسجاما كان يزيل الحدود بينهما أحيانا ليصيرا شخصية واحدة تصل بلعبها إلى حالة الخروج من الاندماج المطلق مع الدور إلى الارتجال الذي يسخر الوعي بالدور عبر الوعي بالمسافة الموجودة بين ما هو حقيقي بلغة النص ومتخيله بلغة التشخيص لتحقيق الانفصال عن الدور أحيانا .
- الرابط بين كل هذه المستويات هما (عبد القادر بوزيد) القائد لهواوي زغنون،والعريفة أم الخير (حسناء طمطوي).وفرزوز (عزيز العلوي).
أما الرابط بين هذه المشاهد هو النص الموسيقي الذي يخفي حضور الجوقة،لكن ما تقوله هو الذي يقدم ملخصا للحدث،ويقدم موعظته،وهو النص الموسيقي الذي وضع ألحانه محمد الدرهم،ويبقى السؤال الأكثر حضورا بعد تلقي هذا النص الكوميدي هو كيف تمكن المخرج من تطويع لغة قائمة على السرد لكتابة سرد العرض بالوسائل الفنية؟ هذا ما أراد الإجابة عنه نص العرض بعد أن أعاد تفكيك بنية النص ليقوم بإعادة تركيبه وفق ما أراد له أن يكون لكن لغة الطيب العلج ظلت ممسكة بكل أحداث النص،وصار المخرج يعمل على رسم حدود بينه وبين المؤلف لكن المفارقة تبقى حاضرة بين نص كلاسيكي وإخراج أراد أن يقدم نص الهواوي برؤية جديدة.
قدمت مسرحية (الهواوي قايد النسا) في عمان ضمن المسابقة الرسمية للدورة الرابعة في مهرجان المسرح الذي نظمته الهيئة العربية للمسرح من 10 إلى 16 يناير 2012 بالمملكة الأردنية الهاشمية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.