بداية فصل جديد من المواجهة المواجهة الأخيرة بين القاهرةوواشنطن انطلقت يوم الخميس 29 ديسمبر 2011 حين قامت قوات من الجيش والشرطة المصرية بناء على أمر قضائي بتفتيش مقار 17 منظمة غير حكومية مصرية وأجنبية. وقال بيان أصدره قضاة التحقيق ان «فريقا من محققي النيابة العامة قام بعملية التفتيش تنفيذا للأمر الصادر من قضاة التحقيق المنتدبين من وزير العدل. واوضح القضاة أن أمر تفتيش هذه المقرات جاء «بناء على ما توافر بالتحقيقات من دلائل جدية على قيامها بممارسة أنشطة مخالفة للقوانين المصرية ذات الصلة وثبوت عدم حصول أي منها على أية تراخيص أو موافقات من وزارة الخارجية المصرية ووزارة التضامن الاجتماعي على فتح فروع لها في مصر، وما يرتبط بذلك من جرائم أخرى مخالفة لقانون العقوبات وقانون الجمعيات الأهلية». وذكرت وكالة فرانس برس في حينها أن قوات الجيش والشرطة قامت بإخراج صناديق كبيرة داخلها ملفات وأجهزة كمبيوتر من مقر منظمتين أمريكيتين. من ضمن المؤسسات التي تم تفتيشها مكاتب المعهد الجمهوري الأمريكي والمعهد الديمقراطي الوطني ومؤسسة كونراد اديناور ومنظمتين مصريتين هما «المركز العربي لاستقلال القضاء والمهن القانونية»، و»مرصد حقوق الإنسان والميزانية»، ومنظمة «فريدوم هاوس». نشاط الجمعيات غير الحكومية في مصر ينظمه القانون رقم 84 لسنة 2002 الذي يبتغي الشفافية وهو يشابه العديد من التشريعات في دول أخرى سواء في أوروبا أو الأمريكتين وغيرها. يقول د. صلاح الدين فهمي محمود، أستاذ الإقتصاد بكلية التجارة جامعة الأزهر ان الأصل هو أن منظمات المجتمع المدني تعتمد علي التبرعات سواء من الأعضاء أو القائمين عليها أو ممن يتوافقون فكريا مع السياسات والأهداف التي تسعي إليها هذه المنظمة كما أنه في الدول المتقدمة، تقوم الحكومات بتقديم المساعدات لهذه المنظمات دعما لها. وقد تكون من أحد وأهم هذه المصادر هي التحويلات والمنح الدولية لهذه المنظمات من الهيئات العالمية. وحتي تكون هناك محددات واضحة وبدون أي إتهام لأحد لا بد أن تقوم كل منظمة من منظمات المجتمع المدني بالإفصاح والشفافية عن مصادر دخلها ومصادر الإنفاق وعرضها علي المجتمع للتحقق والتأكد من صدق نوايا هذه المنظمات المدنية. كما أن على الدولة من خلال وزارة التضامن الإجتماعي والجهاز المركزي للمحاسبات مراجعة حسابات هذه الجمعيات وإخضاعها للرقابة والمتابعة.. وعلي الدولة أيضا التواصل مع هذه الجمعيات بأي شكل لتحديد هويتها. في بداية سنة 2011 بلغ عدد الجمعيات الأهلية والمدنية في مصر 34 ألف جمعية وبعد أحداث 25 يناير2011 تم تسجيل ثلاثة آلاف جمعية جديدة خلال أربعة أشهر فقط وأصبح العدد يقارب 37 ألف جمعية، إما عاملة في مجال العمل التطوعي الخيري أو تندرج تحت بند المنظمات الحقوقية والسياسية المدنية. أسلوب الاملاءات مباشرة بعد عملية التفتيش، لم تتصرف واشنطن بالطرق المعتادة أي طلب التحقق من مخالفة المنظمات للتشريعات القائمة، بل أخذت تملي وجهة نظرها، وهكذا قالت المتحدثة باسم الخارجية الامريكية فيكتوريا نولاند ان «هذا العمل يتناقض مع التعاون الثنائي» القائم بين الولاياتالمتحدة ومصر منذ أعوام. وأضافت «نطلب من الحكومة المصرية ان تضع حدا فوريا لترهيب فرق المنظمات غير الحكومية وان تعيد كل الممتلكات المصادرة وتعالج هذه المشكلة فورا». واوضحت المتحدثة ان السفيرة الامريكية في القاهرة «آن باترسون» نقلت القلق الأمريكي إلى رئيس الوزراء المصري فيما قامت الخارجية الأمريكية بابلاغ السفير المصري في واشنطن بالرسالة نفسها. يوم الجمعة 30 ديسمبر 2011 اعلن البنتاغون ان وزير الدفاع الامريكي ليون بانيتا نقل للقائد الاعلى للقوات المسلحة المصرية المشير حسين طنطاوي «بالغ القلق» لدى واشنطن ازاء المداهمات. من جانبه أعرب جون ماكين السيناتور الجمهوري الذي يرأس المعهد الجمهوري الدولي عن الانزعاج والغضب مما سماه بتحول جديد مثير للقلق يشمل حظر سفر سام لحود مدير مكتب المعهد في مصر ونجل وزير النقل الأمريكي راي لحود. وقال ماكين: أدعو الحكومة المصرية والمجلس الأعلى للقوات المسلحة إلي وقف المضايقات والتحقيقات غير المبررة مع المنظمات غير الحكومية الأمريكية العاملة في مصر. وأضاف: تصاعدت هذه الأزمة لدرجة أنها تعرض الآن حياة مواطنين أمريكيين للخطر، وقد تتسبب في انتكاسة لعلاقة المشاركة طويلة الأمد بين الولاياتالمتحدة ومصر. من جانبه اعتبر كينيث وولاك رئيس المعهد الجمهوري المعروف أنه جزء من المركب السياسي الضخم الموالي لإسرائيل في واشنطن، في بيان ان «قمع منظمات هدفها دعم العملية الديمقراطية خلال المرحلة الانتقالية التاريخية في مصر ينطوي على إشارة تثير القلق». ويرتبط المعهد الوطني الديمقراطي والمعهد الجمهوري الدولي بالحزبين الديمقراطي والجمهوري في الولاياتالمتحدة ويحصلان على تمويل من الحكومة الأمريكية. في واشنطن هناك رأيان حول أسلوب التعامل مع الأزمة، غير أنه يسجل أن دبلوماسيين أمريكيين يطالبون بإلتزام الحيطة ويتحدثون أن سلطات القاهرة أجرت اتصالات مع موسكو من أجل معرفة موقفها خاصة في الأممالمتحدة إذا ما وصلت علاقات المجلس العسكري الأعلى مع البيت الأبيض إلى مرحلة توتر كبيرة. ففي مصر يقدر عدد من أصحاب القرار أن الولاياتالمتحدة تسعى لركوب حركة التطور في مصر وتحويلها إلى فوضى خلاقة حسب مصطلحات المحافظين الجدد في نطاق رسم خارطة الشرق الأوسط الجديد الممزق إلى 54 أو 56 دويلة متنازعة. عودة إلى الخلف في خضم هذا الجدل بين القاهرةوواشنطن عادت العديد من وسائل الإعلام إلى التذكير بأحداث مشبوهة تتعلق بتدخل أطراف ثالثة وعملها على زيادة التوتر والمواجهات. فيوم الاربعاء 21 ديسمبر 2011 وعلى أمواج شبكة «سي إن إن» الأمريكية اتهم نشطاء وسياسيون مصريون «طرفاً ثالثا» بإحداث «الوقيعة» بين قوات الأمن والمتظاهرين في ميدان التحرير. ورجح الأمين العام للمجلس الوطني المصري، ممدوح حمزة، قيام «طرف ثالث»، لم يحدده، بإطلاق طلقات «الخرطوش» على الشرطة والمعتصمين في وقت واحد، بينما كانت بعض «اللجان الشعبية»، المدعومة برموز وشخصيات سياسية، تحاول الفصل بين الجانبين في الشوارع المحيطة بوزارة الداخلية. وكشف حمزة، عن أنه طلب من وزير الداخلية بالحكومة، وقف إطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع على المتظاهرين، إلا أن الشرطة تذرعت بأن قواتها تتعرض لهجمات متلاحقة باستخدام طلقات الخرطوش. وأشار حمزة إلى أنه في كل مرة يتم فيها فض الاشتباكات بين قوات الأمن والمتظاهرين، تقوم «أطراف مجهولة» بإطلاق أعيرة «الخرطوش» على أي من الجانبين، مما يؤدي إلى اندلاع المواجهات مرة أخرى. في نفس التوقيت نقل عن أحد المعتصمين في ميدان التحرير، قوله أنه قام بمساعدة آخرين، بالقبض على ثلاثة أجانب وبحوزتهم زجاجات المولوتوف قرب وزارة الداخلية، وتم تسليمهم إلى الشرطة. وقد أجرت النيابة المصرية تحقيقات وتبين أن الأمر يتعلق بثلاثة أمريكيين، ووجهت لهم تهمة رشق قوات الأمن بزجاجات «المولوتوف» والتحريض على أعمال العنف. الخارجية الأمريكية وأقارب الأمريكيين الثلاثة أكدت نبأ اعتقالهم، وعلقت نيكول سويني، والتي يوجد شقيقها ديريك سويني بين المعتقلين، على نشر التلفزيون المصري لصورته بقولها: «لا أذكر أنني رأيت وجهه على هذا الحال من قبل»، وأضافت: «إنه يبدو مذعوراً للغاية». الجامعة الأمريكيةبالقاهرة قالت أن الأمر يتعلق بطلاب، وهم سويني البالغ من العمر 19 عاما، طالب بجامعة «جورج تاون»، ويعيش في مدينة «جيفرسون» بولاية ميسوري، وغريغوري بورتر، 19 عاما، من «غلينسايد» بولاية بنسلفانيا، ويدرس بجامعة «دريكسل» في فيلادلفيا، بالإضافة إلى لوك غيتس، 21 عاما، من «بلومنغتون» بولاية إنديانا، ويدرس بجامعة الولاية. وذكرت الجامعة الأمريكية أن الطلاب الثلاثة، يقضون الفصل الدراسي الحالي في القاهرة، ضمن برنامج للتعليم بالخارج، الذي تطبقه بعض الجامعات الأمريكية. سقطة غير محسوبة التحقيق في التمويل الخارجي إنطلق عمليا في يوليو2011 بعد سقطة غير محسوبة على ما يظهر للسفيرة الأمريكية في القاهرة «آن باترسون» التي أعترفت بأن بلادها وزعت 40 مليون دولار على منظمات أهلية منذ بداية السنة مما أثار امتعاضا واسعا وتنديدا في مصر. وأججت هذه التصريحات وغيرها شكوك الشارع في وجود مخططات تخريب أجنبية، ووجود أصابع خارجية في تمويل المنظمات ونشر الفوضى، وقد طلبت العديد من القوى السياسية والحقوقية فتح تحقيقات، والضرب بقوة على يد كل المتلاعبين بأمن البلاد واستقرارها. وفي ذلك الحين وبعد التنديد بالتدخل الأجنبي، أعلن الدكتور رفيق حبيب نائب رئيس حزب الحرية والعدالة، المنبثق عن جماعة الإخوان المسلمين رفضه التام كذلك لما أعلنته السفارة الأمريكيةبالقاهرة عبر موقعها على شبكه الإنترنت، عن فتح الباب للراغبين من منظمات المجتمع المدني في مصر وتونس، وبقية دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا للحصول على منح بموجب برنامج مبادرة الشراكة في الشرق الأوسط «مابي». وقال حبيب إن الأصل أن تكون الأنشطة السياسة والقضايا الخاصة بعملية التحول الديمقراطي خالية من أي تمويل أجنبي لضمان عدم انحياز الجهة الممولة لأي ضغوط أجنبية. وأضاف أن الإدارة الأمريكية غالبا ما تكون منحازة، وبالتالي فإن حصول بعض منظمات المجتمع المدني على دعم أمريكي لدعم التحول الديمقراطي يعني بالضرورة مساندة طرف على حساب الآخر، فيصبح بذلك مالا سياسيا بامتياز». وشدد حبيب على أهمية تمويل منظمات المجتمع المدني من أموال الشعب المصري لضمان حيادية هذه المنظمات، وعدم خضوعها لأي ضغوط حكومية أو خارجية، خاصة أن مراقبة الانتخابات وتوعية المواطنين لا تحتاج إلى أموال كثيرة. خلال شهر أغسطس 2011 فتحت السلطات المصرية تحقيقا حول التمويل غير المشروع لمنظمات غير حكومية مصرية من جهات اجنبية، وذلك في وقت حذر فيه المجلس العسكري، في أكثر من بيان من ان اطرافا ثالثة «تحاول الوقيعة بين الجيش والشعب وبتدبير مؤامرات لإثارة الفتن في البلاد وإسقاط الدولة». ولمح المجلس العسكري إلى أن أشخاصا «مندسين» يتحملون مسؤولية سقوط نحو ستين قتيلا من المتظاهرين خلال الاشتباكات التي وقعت بين قوات الجيش والأمن من جهة والمتظاهرين من جهة أخرى خلال نوفمبر وديسمبر 2011. بعد عمليات التفتيش بأيام قليلة منعت السلطات المصرية ابن وزير النقل الحكومة الأمريكية راي لاهود وخمسة امريكيين اخرين من مغادرة الاراضي المصرية، حتى أستكمال التحقيقات في مسألة تمويل المنظمات غير حكومية. القرار أثار عاصفة في واشنطن، وقال مايكل بوزنر، مساعد الخارجية ان «للكونغرس صلاحية القول ان معوناتنا العسكرية المستقبلية ستعتمد على الانتقال نحو الديمقراطية». واضاف ان قضية حرية الجمعيات وعمليات اقتحام المنظمات غير الحكومية «جزء مؤكد من تلك الصفقة. ومن المؤكد ان أي إجراء يؤدي إلى توتر مع حكومتنا يجعل الصفقة برمتها أكثر صعوبة». قفزة تجسسية سجلت مصادر رصد أجنبية أنه منذ يناير 2011 تم الكشف عن عدة شبكات تجسس وتخريب في مصر وهو ما شكل تصعيدا لم يسجل منذ سنوات. وهكذا تم ضبط قضايا تجسس عديدة لمصلحة المخابرات الإسرائيلية وغيرها من بينها قضية استغلال شبكة الاتصالات، والتي تم فيها التحقيق مع أشخاص في شركة موبينيل، وإحالة مهندس الاتصالات الأردني بشار إبراهيم في الشركة، وضابط في جهاز المخابرات الإسرائيلية للمحاكمة الجنائية. ويوم 5 يناير أكد مسئول في النيابة العامة بمصر ان مصالحه أحالت أربعة موظفين في شركة «موبينيل» للاتصالات الى المحكمة بعد اتهامهم بتمرير شفرات قنوات إتصال سمحت بمتابعة مكالمات هاتفية خدمة مصالح إسرائيل. في توقيت متقارب ألقت سلطات مطار القاهرة القبض على راكبين يخفيان 47 جهاز تجسس داخل حقائبهما لدى وصولهما من الإمارات والسودان. ومن ضمن المحجوزات 11 ساعة مزودة بكاميرا تجسس و 5 أجهزة تجسس للإتصال المشفر عبر الانترنت في شكل صور عادية و 10 قلما مزودا بكاميرات لإلتقاط صور وإدخال رسائل مشفرة ضمنها. خلال النصف الأول من شهر يناير 2012 اعلن عن نجاح أجهزة الأمن المصرية في القبض على شبكتي تجسس جديدتين، بلغ عدد المتهمين فيهما إلى 38 شخصا. وذكرت تقارير إخبارية أن الأجهزة المصرية تدرس إمكانية الإعلان عن القضيتين، وأسماء المتهمين فيهما، الذين تم توقيفهم خلال شهر ديسمبر 2011 قبل إحالتهم للمحاكمة. ونقلت التقارير على لسان مصادر أمنية قولها إن أجهزة الأمن تمكنت من ضبط الشبكة الأولى، التي تضم 31 متهما ينتمون لدول عربية، وبحوزتهم أجهزة تنصت دقيقة، إضافة إلى مبالغ مالية كبيرة، فيما تم توقيف الشبكة الثانية بعد أيام من سقوط الأولى، وهي تضم 7 أعضاء من 5 دول مجاورة، نجحوا في دخول البلاد وبحوزتهم أجهزة تنصت، حيث ترجح السلطات الأمنية أن هذه الشبكة تعمل لمصلحة إحدى الدول الأوروبية. وقالت المصادر إن السلطات المصرية ترصد حاليا عددا من الشخصيات التي كانت على علاقة بالمتهمين، ومن بينهم نواب في البرلمان الجديد، مشيرة إلى أن الأمر لم يحسم بعد، حول ما إذا كانت أجهزة التحقيق ستتولى الإعلان عن أسماء هؤلاء وإحالتهم للتحقيق أم لا، بعد الانتهاء من جمع أدلة الإدانة ضدهم. وفي 28 ديسمبر 2011 أمر النائب العام المصري بإحالة أربعة أشخاص، بينهم نمساوي وآخر ألماني، إلى محكمة جنايات أمن الدولة العليا طوارىء بتهمة تهريب أسلحة. والمتهمان الألماني والنمساوي يعملان مع شركة أمن خاصة محتجزان منذ نوفمبر مع مصري آخر في حين سيحاكم مصري رابع هارب من العدالة غيابيا. 16 وكالة تراقب العالم تمتلك الولاياتالمتحدة 16 وكالة أمنية أو تجسسية، ويتداخل عمل هذه الوكالات فيما بينها كما أنها تتناوب في تحقيق المهام التي تكلف بها. وهذه الوكالات على علاقة بشكل أو بآخر مع مختلف أفرع الحكومة الأمريكية. وقد تم الكشف عشرات المرات أو بالأحرى مئات المرات كيف أن المخابرات المركزية الأمريكية وعبرها وكالة الأمن القومي، عملت تحت غطاء مؤسسات ومنظمات مدنية أمريكية وكذلك منظمات أجنبية غير حكومية للنفاذ إلى بلدان في قارات العالم الخمس. جاء في تقرير للخبير نيكي هاغر تحت عنوان في قلب الاستخبارات الأمريكية نشرته مجلة لوموند ديبلوماتيك في عددها لشهر نوفمبر 2011: إن الطاقات الأمريكية للاستخبارات الالكترونية التي أنشئت لمواجهة قوات المحور، ثم الاتحاد السوفياتي في ما بعد، جرى دمجها في إطار وكالة الأمن القومي. وكل ما كان يحيط بهذه الوكالة ظل مجهولاً إلى ان نشر في العام 1982 كتاب «قصر الألغاز»، وفيه يصف الصحافي الأمريكي جيمس بامفورد طريقة عملها. وفي كتابه الجديد «بنية الأسرار» يكشف النقاب عن جوانب جديدة من هذه القصة السرية. وأوضح ان الموازنة السنوية لوكالة الأمن القومي تتعدى السبعة مليارات دولار وذلك من دون احتساب المبالغ المخصصة لأقمار التجسس الاصطناعية. وهي تستخدم ما يزيد على 60000 شخص، أي ما يفوق عدد العاملين في وكالة الاستخبارات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي مجتمعَين. وبما أن قضايا العالم باتت أكثر فأكثر تعالج من طريق الاتصالات الالكترونية بواسطة الراديو ثم بواسطة الانترنت، فان مراقبة هذه المبادلات باتت أمرا جوهريا، وقد كلفت وكالة الاستخبارات المركزية أمر «الاستخبار عن هذه الرسائل المرمزة» عرفت ب»سيغلنت» مقابل «هيوملنت» الخاصة بالاستخبار عن البشر، وذلك بالتعاون الوثيق مع نظيراتها، وما يرتبط بها، من الأجهزة البريطانية والكندية والاسترالية والنيوزيلندية، وقد شكلت معاً تحالف «أوكوزا». ولخص مديرها السابق وليم ستودمن دورها على الشكل الآتي: دعم العمليات العسكرية هو «أمر أساسي، كما بات هناك إحساس أكبر بضرورة الدخول على الاتصالات الالكترونية في شكل أوسع على مستوى العالم. وعلى هذين العملين يجب ان تستند وكالة الأمن القومي بقوة». لكن رغم أن أنظمة المراقبة المعتمدة في وكالة الأمن القومي متقنة جداً وقوية الا أنها برهنت عن محدوديتها في العديد من الحالات. ويؤكد بامفورد أن «وكالة الأمن القومي» كانت تتنصت بانتظام على المكالمات المشفرة التي كان يمررها أسامة بن لادن عبر شبكة الأقمار الصناعية «إنمارست». ومن أجل التأثير على زائري شبكتها كانت احيانا تمرر لهم مكالمات ابن لادن مع والدته. وهذا كان يعلم ان الولاياتالمتحدة تتنصت على اتصالاته الدولية لكن يبدو أنه ما كان يعبأ بالأمر» لغز آخر حول القاعدة وأمريكا. وفي استعادته تاريخ هذه الرقابة الالكترونية الكونية، يبدو جيمس بامفورد مقنعا في قوله إنها لم توضع موضع التنفيذ بناء على مهمتها الأولى القائمة على حماية الولاياتالمتحدة من التهديدات الخارجية، بل في الغالب من أجل جمع المعلومات المساعدة كأداة سياسية، في خوض الحروب ومن أجل ضرب «الحقوق الأساسية» لبقية البلدان. بعد الحرب الثانية مباشرة كان البحث يدور في مقر الأممالمتحدة، المحشو بأجهزة التنصت، في تقسيم فلسطين، وهو الإجراء الذي حول منذ ذلك التاريخ المنطقة لإحدى أهم بؤر التفجر والعنف السياسي في العالم. وقد مارست الولاياتالمتحدة ضغوطا رهيبة من أجل إقرار مشروع التقسيم، وألقت بكل ثقلها كي تجبر ثلاث دول هي تحديدا ليبيريا وهايتي والفيليبين، على تغيير موقفها عشية التصويت النهائي. وفي تلك الحقبة كتب جيمس فورستال، وزير الدفاع الأمريكي آنذاك، في يومياته أن «وسائل الإكراه التي مورست على هذه البلدان تبلغ حد الفضيحة». إثر فشل الهجوم على نظام كاسترو في عملية خليج الخنازير، في أبريل عام 1961، حاك قادة الأركان في الجيش الأمريكي مشروعاً مستغربا. فقد قامت الخطة، التي كشف بامفورد النقاب عنها، على إطلاق حملة من الإرهاب في صفوف المواطنين الأمريكيين وإلصاق التهمة بكوبا بغية تبرير الاجتياح الشامل للجزيرة. وأورد احد التقارير أن «نشر لائحة بأسماء الضحايا في الصحف الأمريكية سيثير في البلاد موجة من السخط يمكن استثمارها». وبموجب هذا المخطط الذي حمل اسم «عملية نورثوود» كان من المفترض القيام بعمليات خطف طائرات وهجومات بالقنابل في مياميوواشنطن. وحددت الوثائق التحضيرية أن من المفترض «أن يصور للعالم وكأن الحكومة الكوبية تمثل تهديدا خطيرا خفيا على السلام في النصف الغربي من الكرة الأرضية». لم توافق إدارة كينيدي على «عملية نورثوود»، لكن بعد سنتين وقع حادث «مشابه» ومختلق في خليج تونكين، أدى إلى توسيع نطاق حرب فيتنام. البدائل لصالح الحلفاء في يناير 2005 كتب ثييري ميسان رئيس تحرير موقع «فولتير» الالكتروني تحت عنوان «المنظمات غير الحكومية، الذراع الدبلوماسي الأمريكي»: كان من الخطأ وصف الأحداث في جورجيا و أوكرانيا بال»ثورات»: لأنها لم تكن تعتني بتغيير المجتمعات، لكنها كانت تعتني فقط بإثارة البدائل لصالح حلفاء الولاياتالمتحدة. الاعتراضات وحركات الشوارع، كانت مؤطرة من قِبل منظمات غير حكومية، ممولة مباشرة أو بشكل غير مباشر ومسيرة أيضا من قبل واشنطن وفق مخطط جسدته سنة 2004 الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في تقرير رسمي. في غضون سنوات قليلة، صارت المنظمات غير الحكومية منسلخة كأحصنة طروادة من مكتب العمليات لمكتب المخابرات المركزية الأمريكية. وفي مقال لاحق يكشف ثييري ميسان عن طرق الأجهزة الأمريكية للتدخل على أساس ما سمي بالأسلوب الناعم في دول تعتبرها واشنطن ذات أنظمة معادية. ويضيف إن «السي آي إي» تبنت هذا التوجه منذ سنة 1990، لقلب أنظمة الحكومات المتمردة دون أن يثير ذلك سخط في المجتمع الدولي. وحتى يتسنى لها فعل ذلك، يتوفر جهاز المخابرات السالف الذكر على عدة واجهات إديولوجية من أهمها «مؤسسة ألبرت أينشتاين» لصاحبها الفيلسوف «جين شارب»، الذي لعب دورا مهما من العراق إلى ليتوانيا مرورا بفنزويلا وأوكرانيا. بعد أن فشل الإنقلاب الذي نظمته «السي آي إي» في فنزويلا في أبريل 2002، استنجدت وزارة الخارجية الأمريكية ب «مؤسسة ألبرت أينشتاين»، التي لم تبخل بنصائحها لأرباب العمل وأصحاب رؤوس الأموال، وخاصة دعوتهم إلى تنظيم استفتاء لإلغاء فوز الرئيس «هيغو تشافيز». كما تكفل «جين شارب» وفريقه بتأطير قادة جمعية « سيمايت» خلال مظاهرات أغسطس من العام 2004. وحسب إحدى التقنيات التي أصبحت كلاسيكية في يومنا هذا، فإن أولئك القادة كانوا مدعوون إلى التشكيك في الإنتخابات والقول بأنها مزورة، ثم المطالبة برحيل الرئيس الشرعي للبلاد. ولقد نجحوا في إنزال الطبقة البرجوازية في كاراكاس إلى الشوارع، إلا أن الدعم الشعبي الكبير للنظام حال دون ذلك. فلم يبق أمام المراقبين الدوليين من خيار سوى الإعتراف بمشروعية الإنتصار الذي حققه «هيغو تشافيز». لكن «جين شارب»، فشل في تكرار المحاولة في بيلروسيا والزمبابوي. والسبب في إخفاقه على ما يبدو هو التأخر في تجنيد وتكوين العدد الكافي من المتظاهرين والمعارضين للنظام القائم في كلا البلدين. الكذب المستمر كتب محلل ألماني كان سابقا في جهاز المخابرات ويعمل حاليا لحساب شركة تحديد المخاطر تقدم المشورة للشركات حول الاستثمارات: النفي الأمريكي المتلاحق لتدخلاها في المنطقة العربية والسعي لركوب حركات التطور لا تجد من يصدقها لكثرة الأمثلة التي أكدت كذب إدارة واشنطن. ومن آخر هذه الأمثلة ما نشر يوم 28 يناير في واشنطن عن قلق البيت الأبيض على مصير مخبر باكستاني قاد واشنطن إلى بن لادن. فقد عبر وزير الدفاع الأمريكي ليون بانيتا عن «قلقه البالغ» على مصير طبيب باكستاني، متهم بالخيانة في بلده. وقال بانيتا، في المقابلة التي أجريت في برنامج 60 دقيقة على قناة «سي بي اس نيوز» التلفزيونية، إن هذا الطبيب، واسمه شيكال افريدي وهو موقوف في باكستان، كان في الواقع يعمل لحساب الاستخبارات الأمريكية تحت غطاء إجراء تحقيقات حول الوضع الصحي في ابوت اباد، ويدير مؤسسة تقدم خدمات صحية وأدوية. واشنطن تحاول تجنب أخطاء الماضي السقطات التي ألمت بالتحركات السرية للأجهزة الأمريكية، دفعت بالبيت الأبيض إلى وضع أسس تتصور أنها ستكون ناجحة في منع تكرر مزيد من الأخطاء. فيوم الخميس 26 يناير 2012 أعلن مدير الاستخبارات الأمريكية جيمس كلابر انه سيتم إجراء «تغييرات حقيقية» خلال السنوات الخميس المقبلة للحؤول دون تكرار تسريب معلومات سرية على غرار ما حصل مع موقع ويكيليكس وغيره. وكلابر، الذي يشرف على جميع وكالات الاستخبارات في الولاياتالمتحدة وهو بالتالي اكبر مستشاري الرئيس باراك اوباما في هذا المجال، وصف قضية ويكيليكس بأنها «حادث رهيب» دفع بالسلطات الأمريكية إلى «إدخال تغييرات» في مراقبة وسائل الإعلام. وأضاف «يجب علينا أن نبذل المزيد من اجل حماية المعطيات وان نتأكد أننا نتقاسمها مع أشخاص مصرح لهم الاطلاع عليها». وفي كلمة القاها بواشنطن في مركز الأبحاث الاستراتيجية الدولية (سي.اس.اي.اس) اوضح ان الاصلاحات قد بدأت من اجل «تحسين تصنيف وتوصيف ورصد المعطيات» لمتابعتها ومعرفة من يتقاسمها. وذكر مدير الاستخبارات الأمريكية «اننا نتوقع تغييرات حقيقية وواضحة خلال السنوات الخمس المقبلة». وأضاف أنها «هيكلية جديدة» تهدف إلى «منع وقوع حادث جديد مثل ويكيليكس ذلك الموقع الالكتروني الذي نشر الاف الوثائق الامريكية السرية والتي اتهم بتسريبها الجندي برادلي مانينغ الذي كان محلل استخبارات في العراق. وقال كلابر ان الاصلاح يهدف «في آن واحد إلى تعزيز الأمن وترقية تقاسم» المعلومات، موضحا «اذا علمت أين تذهب المعطيات ومع من تتقاسمها فان بإمكانك ان تمضي قدما»، معتبرا ان ذلك سيسمح للسلطات بان تكون «أكثر سرعة وفعالية». وأكد ان «الهدف هو التوصل إلى الصيغة الأمثل ما بين مسؤولية تقاسم المعلومات وحمايتها». وتابع «بصراحة كنا دائما نتحمل مسؤولية رصد المخاطر الداخلية ... لكن ويكيليكس زاد من حساسيتنا في هذا المجال». غير ان كلابر قال في الوقت ذاته ان المسئولين الامريكيين يحرصون على ضمان انتشار المعلومات المقصود بثها دون فرض المزيد من العراقيل الضخمة أمام ذلك. واشار المسؤول الى ان الاجراءات الجديدة تهدف إلى حماية الأسرار الأمريكية ليس من أعداء في الخارج فحسب بل أيضا من عناصر في داخل المنظومة ليس مصرحا لها توزيع برقيات او ملفات أمريكية حساسة. وكان موقع ويكيليكس قد بدأ في نشر وثائق عسكرية أمريكية في يوليو 2010، ثم كشف عن الأرشيف الكامل للوثائق الدبلوماسية في سبتمبر 2011، مما تسبب في حرج هائل لواشنطن. ومما اثار الجدل على خلفية تسريبات ويكيليكس كيف ان مانينغ، وهو مجرد جندي امريكي، اتيح له الوصول إلى كل هذا الكم من المعلومات الحساسة، ما أثار تساؤلات عن المدى الذي بلغته عمليات تقاسم البيانات بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر. وكانت الهيئات الاستخبارية قد اتهمت في وقت الهجمات انها حجبت معلومات عن بعضها البعض وانها لو كانت تشاطرتها بحرية لكان ذلك حال دون وقوع الهجمات على نيويوركوواشنطن. وادى هذا الأمر إلى جعل المعلومات السرية متاحة على مساحة مشتركة اكبر بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001. غير أن كورين ستون مساعد مدير الاستخبارات الوطنية للسياسة والاستراتيجية قال ان فضيحة ويكيليكس «خرقت بالأساس الثقة في كفاءة مجتمع الاستخبارات، وبات يتعين تعزيز أمن تقاسم المعلومات من أجل استعادة تلك الثقة». يوم 6 يوليو 2011 تفاخر الرئيس الأمريكي باراك اوباما بالابقاء على المساعدات التي تقدمها الولاياتالمتحدة إلى الخارج، معتبراً ان «مبلغا زهيدا يؤدي إلى نتائج كبيرة»، واضاف «من الذكاء قيام الولاياتالمتحدة بعمل متواضع في المساعدة إلى الخارج، اذا أرادت أن تكون زعيمة العالم وتتمتع بنفوذ».