تُرانا نفهم زمننا الذي نعيشه أو يعيشنا؟؛ سؤال ما فتئ يحترث وجوهنا بتجاعيد الحيرة، وينطرح على بطنه البيضوي كهذه الأرض التي تدور بأعمارنا إلى حيث القبر، من فرط قهقهته السوداء الساخرة؛ فهل حقا نفهم عصرنا...؟؛ ذلكم الذهب ما استخلصته ألمعياً من النار الحارقة، لدراسة من عيار العقل الثقيل، للفيلسوف والكاتب «بيرنار ستيغلير» المنشورة بصحيفة «لومند ديبلوماتيك» عام 2004؛ وقد رصعت سقف عنوانها بسؤال من ذات الجِبلّة؛ أي كيف تدمر الصناعة الثقافية الفرد؟؛ ثمة خرافة هيمنت بحكايتها الأسطورية في العقود الأخيرة؛ كما سرت كالسُّم الزعاف في جزء كبير من الفكر السياسي والفلسفي، وتحديدا بعد 1968، تريدنا الإعتقاد أنَّا ولجنا في عصر الزمن الحر؛ زمن الإباحية والمرونة والبنيوية الإجتماعية؛ أو باختصار؛ ولجنا مجتمع أوقات الفراغ والفردانية؛ وقد تم التنظير لكل هذه التوصيفات، باسم: «المجتمع المابعد صناعي»؛ وكان أن أسرت هذه الحكاية أو الخرافة في ربقة فتنتها، فلسفة «ما بعد الحداثة»، كما ألهمت المجتمعات الديمقراطية، مدَّعية أنَّا عبرنا من عصر الطبقات الكادحة المُستهلِكة، والعصر الصناعي، إلى زمن الطبقات المتوسطة؛ أي أن البروليتاريا في طريقها إلى التلاشي؛ لكن الحقيقة التي ليست فقط أرقاما في اليد، أن المستخدمين ما فتئوا يزدادون بروليتارية في العالم؛ بينما أُفْقِرت الطبقات المتوسطة؛ لا مراء أنه سيتمخض عن كوننا ننتج وننسق الأشياء بالصناعات الثقافية والبرامج، ما أسماه المفكر الفرنسي «جيل دولوز»، بمجتمعات الرقابة؛ وهذا ما يُطور هذه الرأسمالية الثقافية، والمصالح التي تصنع من كل جزء، أنماط الحياة؛ ناهيك عن تغيُّر الحياة اليومية في اتجاه الفوائد السريعة؛ وقياس الكينونات الإنسانية بالخط المنحرف لمفهوم الماركوتينغ؛ كذا هي قيمة الحياة، التي تُحدد القيمة الاقتصادية المحسوبة لزمنية حياة الفرد ، حيث القيمة الجوهرية تُلغي الأحادية والفردانية؛ لقد غدا الماركوتينع (التسويق) ، حسب جيل دولوز، أداة رقابة اجتماعية؛ لننتهي إلى أن المجتمع الذي زعموا زوراً أنه ما بعد صناعي، إنما أصبح صناعياً بإفراط؛ لنقل إن عصرنا الأنأى عن توصيف هيمنة الفردانية، أصبح يتبدَّى قطيعياً في السلوك، فاقداً للفرادة المطلقة؛ إن ضياع الفرادة الذي صاغه الفيلسوف «جلبير سيموندون»، يفصح عمَّا كان يحدث في القرن التاسع عشر، للعامل الخاضع لخدمة الآلة؛ لقد ضيَّع درايته، وفي ذات الآن فردانيته؛ولكن المستهلك ، هو الذي سيخضع في المستقبل، للقياس في سلوكه عن طريق التكوين والإنتاج الإصطناعي لرغائبه المكظومة؛ سيفقد آدابه في السلوك؛ أي إمكانياته في الوجود!؛ وما كل هذا التمزق بدداً، إلا لأنه عوَّض تلكم الآداب، بنماذج من ماركات الموضة، حسب ما قال الشاعر الفرنسي العميق «ملارمي» في مجلة «الموضة الأخيرة»؛ يبدو أن خرافة العصر الما بعد صناعي، ليس تفهم أن قوة الرأسمالية المعاصرة، تستند على الرقابة المتزامنة للإنتاج والاستهلاك اللذين ينظمان أعمال الطبقات؛ كما تعرج على الفكرة الزائفة التي مفاد عكازها، أن الفرد هو من يعارض الجماعة؛ لكن «سيموندون» أوضح بالمقابل جلياً، أن فرداً أو إجراءً، لا يستنكف أن يصبح ما هو عليه؛ أو إذا صَحَّ التعبير؛ لا يَتَفرْدَنُ نفسياً إلا جماعياً؛ المحتوم أنه جاء الوقت الذي يجدر فيه أن يستيقظ المواطنون وممثلوهم من الغفلة؛ ذلك أن سؤال الفردانية، قد أصبح أساسياً؛ إذ لا وجود لسياسة مستقبلية، ليست بسياسة للفردانيات؛ وإلا كيف يمكن أن نصنع الرغبة الإنسانية في مجتمع الغد الصناعي جداً؟؛ مما يستدعي، حتى من السياسات، أن تكون مثالية في إنتاج الرغبة الإنسانية؛ حقاً، لقد كانت الفلسفة التي حدَّد بتنويرها أرسطو، العلاقة بين المواطنين، ثمرة غاية في النقاء، بذرها بأناة، اقتصاد لا يخلو من لذة قد تصل في غلمتها، إلى ذرى الشبقية؛ ولا يجدر أن تتيه الأصابع عن القلم، لتكتب جزماً، أن الرغائب الاجتماعية، تتبلور حول أسئلة وثيقة الوشائج بالثقافة وشظف البحث؛ ذلكم أن السؤال الثقافي ليس طُرفة أو نادرة سياسية؛ إنما هو القلب النابض للسياسي؛ فالثقافة هي أيضا ذلكم الشبق الإنساني الذي يحاول النشاط الصناعي، كبته في الأنفس!؛ يجدر بالسياسات أن تكون بدءاً ، سياسات ثقافية، بحيث تنتهج نقدها المستشرس، لحدود الرأسمالية التي من فرط صناعيتها، دمرت مؤسسات المجتمع المدني الثقافية، علما أن هذه الأخيرة هي ما يُطَوِّر الفرادة النفسية والجمعية للأمم؛ فمتى يصير الفرد إنساناً بكامل قواه النفسية المستشعرة للحياة، وليس مجرد عجلة في قاطرة التنمية...؟.