لست أعرف التوصيف الاستعاري الذي يناغم التحولات المسخية التي أمسى يعرفها حمار واقعنا العالمي الحرون.. والعربي تحديداً؛ ثمة انتقام يسري بالسم الزعاف في أوصال المجتمعات العربية التي لا تكاد ترفع الرأس لمزيد من التأسيس الحداثي لدولها ولو بطيئاً، حتى تؤوب لحضيض أنفاق سحيقة من التخلف والإنكسار؛ لن نجترح بالعزف في ذات الوتر المنشرخ بمراثي الربيع العربي، فقط ننتثر بِمزَق السؤال: لماذا بالتحديد تمخض كل هذا التشرذم العربي دفعة واحدة ، مباشرة بعد الأزمة المالية المنذرة بالانهيار الاقتصادي في العالم الغربي، الذي ليس يوقفه اليوم على عكاز، سوى الكبرياء الأرستقراطي الموهوم بالقوة؟؛ أليس شعوره البئيس بالفقر ما وفّزه لأن يُدبر لغريمه الأزلي الذي يخشى نهضته دائماً، هذا المقلب الويكيليكسي، حتى يبقى دونه أكثر فقراً؟؛ تلكم إذاً الحيلة السياسية الأنجع للبقاء على سُدة الأقوى، جعلت العالم العربي يتحول إلى عيادات إيديولوجية ليس لقلع الأسنان، وإنما لتسويس الإنسان؛ هكذا أخلخل الجمجمة بالتفكير اليوم في عالمنا الذي يقلب مجمر اِلمجن بشرائع الحرائق، ولا أجيد شيئاً أو ألتمس فيئاً، سوى أن أهرع إلى كائن من فرط رهافة القلب استشعر دون عوز للمجسات الطبية، أن العالم دائما ً في خطر، فلم يجد لهذا العُضال من حيلة أو حِلْية، إلا الشعر؛ إنه الشاعر الفرنسي الكبير «إيف بونفوا» الذي يجزم أن أي اعتراف بحدود قد تنتصب حاجزاً أمام القول الإبداعي، إنما هو خيانة للشعر، لأن المحتوم أن عمل الشاعر بمثابة كتابة وفكر يكتنفان ذات الإحتدام؛ فالكتابة تستفيض مدراراً بالمقاربة التصورية للأشياء، بينما يبتري الفكر بملاحظة الحالة أو الموقف، في محاولة للانعتاق بالدروب في هذا الفضاء بين تمثلات لا تني اختراقاً للعالم، وحضورات مازال يعوزها العيش بامتلاء؛ من هنا تأتي الذاتية الشخصية للقصائد، ما دام يكمن في الذات الأكثر فردانية، حظ الكوني في العود الإبداعي؛ إن الشعر فكر، ليس فقط بسبب العبارات التي يهبها في النصوص، إنما لتأمليته الموتورة في ذات الوقت الذي يكتسي فيه شكلا؛ ولنا أن نسَّاءل؛ هل محتوم أن نصيخ العقل لهذا الفكر حيث ينوجد.. في الأعمال الإبداعية؛ شعراً أو نثراً أو حتى رسماً؛ ثم نكتب تمثيلا لا حصراً عن جياكوميتي، وغويا، وآخرين (...) للعثور دون تعثر، على كل مشاكل العصر التي كشف عن نوائبها الفادحة، هؤلاء الشعراء الذين يطالبون العالم شعرياً، بردم حفرها العطنة بالموتى؛ ليس بالهروب من الحقل الشعري يقول إيف بونفوا بل بالإلماح إلى أن كل الفكر المُهراق ثرّا في المجتمع، يجب أن ينتبذ مكاناً في الشعر، بما في ذلك نصائح العلم والجدل السياسي أيضاً؛ إن ما يرومه الشعر، هو إعادة تشكيل الإيديولوجيات بأن ينصب بالإشتغال في حقلها الملغوم حد التفجير؛ ذلك أن هذه الإيديولوجيات ليست وبالا على الشعر كما تسري بالثبور في العلاقات الإنسانية؛ إنها تلكم الحداثة التي حسب جورج باطاي يجاور فيها الواقع المستحيل؛ ولنعترف أنَّا لم نتسنم هذه الأراضي الشعرية، إلا بالعبور ولو سرنمة أو تخييلا من المسامِّ الرمزية لهائل من الأسماء صُنَّاع الخلق؛ ويجزم الشاعر الفرنسي الكبير «إيف بونفوا» ، أنه لا يعدم استئناساً وجدانياً غامراً بأمثال «جورج باطاي» وكثافاته اللاذعة، تماماً كما صنع الفنان «غويا» في ما يُسمى ب «الرسومات السوداء»، حيث ينجلي ذلكم الخارج في المكان الإنساني، هذا الليل في الحيوات الشبه فانية من أجل لا شيء، في مهوى المادة أو العدم؛ ولكن الخوف من هذا الخارج، يعتبر ناجعاً بالنظر إلى الشخصية التي هي نحن، أو ما نعتقد أننا سنكونها؛ أليست نتيجة هذا التوظيف للكلمات، هي البحث عن معرفة الأشياء في تجلياتها الشمولية؛ يحتاج الشاعر إذاً إلى العناية الرؤوم بذلكم التعبير الفجري المنقشع من نظرة الطفولة، كي يكتب العالم ليس فقط بالكلمات، إنما بجَرْسها الجوهري كما يتحشرج طبيعياً في الذات؛ إنه جَرْس بعيد، صدى يلتئم في اللغة، ونكتنفه في أرواحنا بإيقاعات ترتقي الأجساد، أي الرغبة ليس في الامتلاك، إنما في الكينونة؛ بهذا النشيد إذاً، استتب الخلق الإنساني على الأرض، منذ الخطوات الأولى للغة؛ هذا النشيد الذي يجدد الكلمات، والذي نتوق جميعا أن لا يستنكف أبدا عن الاندغام باللحظات القلقة لقراراتنا الإنسانية الكبرى؛ ما زلنا نتوق لأن ينقذ الشعر العالم...!