الأضواء تخترق سمك الظلام ، تبيده .. كما تبيد الشمس القاهرة كتل الضباب ، وكلاهما ، الضوء والشمس ، يسعى لإثبات قوته ، وإجلاء ضعيف .. لكل غرض ومراد. الأضواء جبارة . لم يرها أحمد بمثل هذه الجبروت قط .. ماذا حدث .. ؟ إنهم يبحثون عن مجرم حسب تصنيفاتهم القانونية ، كل مجرم .. مكبرات الصوت تعني ذلك . أحمد ليس مجرما ، ولم يولد ليكونه .. رغم ذلك فكر جادا في الهروب بجلده قبل أن يسلخ ، بروحه قبل أن تفزع ، تطلع .. إني خائف .. لماذا ومما أخاف .. ؟ منهم طبعا .. لو أمسكوا بي متسكعا في ظلمة العالم المنسي ، في هذا الوقت المتأخر من الليل الذي لا ينجلي ، سيوقفونني .. سيلقون علي القبض كما يلقى القبض على القطط والكلاب المتشردة ، بأشراك وأفخاخ ، في حملة تنظيف الدروب من الأوساخ .. لكني بريء .. وبين أيديهم سأغدو متهما ، ثم مجرما متضلعا في الجريمة ، ثم بسرعة ملقى وراء القضبان .. هل أنا وأمثالي ميكروبات يخاف انتقال عدواهم إلى الآخرين .. ولا آخرون إلا هم .. فنطارد ، ونقبض ، ونودع مخازن الإنسان المهان ، أو نعرف الموت البطيء ، السريع .. لكنني طاهر كماء الزهر ، كالندى الذي يقطر في صباح جميل .. وفي حقولهم المتسعرة سأغدو متسخا كالجنابة بعينها ، سيحولونني إلى قرد يرقص حسب إشاراتهم ، ويعترف حسب أهوائهم .. وأتبول وأقعي فوق المسرح المعد لي ، وأوضع في قفص ضيق .. وكيفما كان القفص وهندسته ، وشكله ، وفضاؤه ، فأنا قرد سجين وحزين ، ولن تذهب عني حرقة السجن والحزن إلا حريتي .. أحمد : لقد نجحت المظاهرة في أداء رسالتها . أفزعت الخونة ، وجعلتهم كالعصافير الموتورة .. عاش النضال .. حريتي المسلوبة . هل أنا طالب معجزة ، أو ما اصطلح عليه باللاممكن .. ؟ لا .. إن أنصفتم وعدلتم .. ونعم .. إن أكننتم لعبد الرحمان الكواكبي عداوة .. مزيدا من العداوة .. أحمد ملغى إن ظننتموه واحدا ، وحيدا ، وهو بصيغة الجمع المتشرذم .. يتألم . يحرم . يضطهد كالأوبئة والجرذان الطاعونية .. وهو ، يا المهدي المقطوع نفسك ، والمتواصل ذكرك وفكرك .. هل أتاك حديث الأحياء ، وكيف يرزقون .. ؟ أستسمح فريد الأطرش ، وأغني : عش أنت ، إني مت قبلك ، بعدك .. الأمر سيان .. وحاول أن يختفي أو يهرب ، لكن الأضواء كانت أقوى منه ، فكشفته ، عرته ، كالداء في جسم سليم .. أو سائر نحو السلامة ، حسب بلاغ الأطباء الحكوميين .. وكالدواء يتسرب إلى جسم عليل .. هزيل .. على حد اعترافه بينه وبين نفسه الصابرة ، وهو محتسب حياته كلها إلى الله .. الله يعلم ما بالسرائر وإليه الرجوع .. وساقوه أمامهم كبهيمة أخطأت المرعى ، كصيد ثمين .. هل هو عزيز ومهم لدرجة أن يحشد له كل الليل والضوء والبنزين .. ؟ الأمر هو أن كل المصاريف الداخلة حسابات الليلة مدفوعة منه إليه ، لكي يذلوه .. ربما ساقوه لمجرد مداراة خواء جرابهم في جلسة حساب . عقاب .. ونقط سوداء في ملفات الموعز إليهم بتنقية الظلام من الخفافيش .. لا بد من طريدة بعد دورية .. واصل السير في صمت إجباري ، يلعن حظه التعس ، ويستخف بالليل الهاوي تحت سطوع أضوائهم ، يدعي القوة . فما استطاع أن يخفيه عن الأنظار .. هذا الليل طالما تبدى له جبارا .. ما أتفهه .. وما أصغره حين عجز عن تبديده ، في جوفه .. هو الطلب للتبديد .. ما أضيقه .. كأنه تآمر معهم ، وضاق في لحظة هشة ، ليوقعه في أياديهم القاسية .. ما أضيقه .. وقد جرب فيه الهروب من أوغاد الدنيا لاحقوه ، أو يلاحقونه .. والملاحقة مستمرة كذاك الظل الذي يجليه كل ضوء ، أخفت ضوء .. ضعيف ، أنت أيها الليل عن حمايتي ، عن احتوائي مهزوما بلا نصير .. هي النقطة التافهة ، هي النقطة السريعة التلاشي ، وسط العباب الحالك .. بعد الوصول إلى نقطة النهاية ، ثم المرجع .. أدلى ببطاقته الشخصية .. عربي .. عقله يحوي فكرا عربيا ، ووجدانه موزع هنا وهناك . اعتمد البيان ، ودع جانبا اللف والدوران : أحلم بالورد والخبز ، والزيت ، وكتب الحب ، والنار .. الرقم : أي نسمة من نسمات مليونية ، تدب بين الحدود ، لها تاريخ عريق ، وتقاليد ، ودين .. وتتوق لدنيا تسري بينها دماء تتلفع بالقداسة ، وتؤمن بالوعود .. من لقنك مثل هذه الأجوبة الجحيمية في ذواتنا .. ؟ من قال إن بطاقتك الشخصية هي كما تنطقها في مكاتبنا، وتتلوها على مسمع منا .. ؟ « أيها الناس .. إنه لا ينطق عن الهوى . التاريخ حي ينبض رغم سنواتكم التي ضاعت في محاولاتكم قلبه ، وطمس جواهره ، بالعكس حملاتكم عليه : الصليبية ، وما يحدث الآن بكل شراسة ، وقصد رديء .. وهجماتكم في صميمه ما زادته إلا رسوخا .. راسخون لأنهم مؤمنون بأنهم على الحق ، وأن لا قوة .. أي قوة .. تقدر على إبادتهم ، على العكس هي تساهم في تدعيمه ، في تكثيره .. في تبيانه على أنه الحق الحق .. زادته رسوخا كما تزيد النار من وهج الذهب .. وتأكيد أنه نفيس وجيد .. وما ازددنا نحن إلا تمسكا ، وتعلقا ، بهذا الطود الذي لا ينهدم . التاريخ اليقظ .. إنه ينطق في مسامعكم التي تتعمد الصمم ، من وراء تاريخ متجذر .. فهل هناك مانع .. ؟ ولن تمنعوه ، ولو كنتم تقدرون .. ؟ ومن مثله له ماض ممجد يحق له أن يفخر ، وينطق فخرا .. ويجيب على تهكماتهم التساؤلية فخرا ، فخرا لا يوقفه حيث هو .. إنما يدفعه إلى الأمام .. كوادي هادر ليس في خرائطكم المتوقعة .. أنا عربي . هكذا أتمنى أن تنادوني .. أحمد عربي .. عند الحاجة .. رقمي .. نسمة من الملايين العربية ، المحصية ، المتزايدة .. المتماوجة من محيط إلى خليج .. كفى ، كفى .. المهنة .. ما زلت أحلم بالعيد ، وطالع سعيد .. في العيد أبيع الحلويات للأطفال ، وبالطالع السعيد أفتخر بأني حققت خطوة .. أي عيد تعني أيتها الزبلة الضائعة ، وسط زبد الحقائق السوداء ، المتلاطمة ، حقائق ليست في صالحك ، ولن تكون .. احتقاركم لنا ، واستخفافكم بوجودنا ، هو بطاقة واضحة لانتصارنا ، هل أدرك أذكياؤكم هذا الضعف فيكم .. ؟ أرجوكم .. ضاعفوا من غبائكم .. أمل في العيد ينبض ، يعيش ، يعمر كالتاريخ المذكور في الأسفار ، ولا يشيخ أبدا حين يحقن .. في فرح غامر يحتفل المنهزم بمفهوم هزيمته .. وفي أسف يحتفل المنتصر بمفهوم انتصاره .. حقنة الإستمرارية في مصحة عربية .. أنت تهيم . ويجب أن نتفق أنه محرم عليك الهيام في إداراتنا ، في حضرتنا ، في حواراتنا .. معذرة .. فلقد زغت عن تعليمات لا وجود لها ، ولا يجب أن توجد بتاتا . أو لستم أنتم الحاملون لرايات الحريات العامة ، والخاصة ، والمنادون بشعارات الديمقراطية الشاملة . كم كنت أشك في مظاهركم الثعلبية .. والآن صدق الشك فيكم .. والذين لم يمروا من هذه الطريق ، المصفوفة أياديكم المتوحشة على قارعتيه ، المتناوبة على ضرب أقفية الناس ، لا يزالون مخدوعين في ادعاءاتكم .. لا وجود لدمقراطية على مقاس أمة ، بل لدمقراطية مساوية .. وما بعد هذا المفهوم مضيعة للوقت وتعميق الفراغ .. متى تنقرض عقلية العنف .. ؟ متى تتوقف أزمنة القمع .. ؟ ويتضح تاريخ النوايا الحسنة .. ؟ متى يفهم ويعي الكل أنكم لا تعدون سوى ذئاب وثعالب..؟ وأي حيوان ماكر .. ؟ ومن أجل هذا الجواب ، وكل الأجوية المتشابهة أنا موجود في قبضاتكم ، كما وجد غيري قبلي ، وسيستمر هذا النوع من الوجود . ماذا كنت تفعل في زمانك ، ومكاننا .. ؟ كنت أشم الهواء ، وأنتظر أن يمر بائع سجائر بالتقسيط .. أبتاع من عنده آخر سيجارة . إني مدمن على التدخين .. قدم له مستجوبه سيجارة ، لا عفى الله عنه . قبلها في لهفة وسرعة تؤكد الإحساس العاري ، المفصح عنه ، المبرر ، المقدم له .. سيسكت بها مخاوفه واضطراباته ، أكثر من صراخ خلايا تعيش على اللعنة .. نعم اللعنة .. موقف يبتلع موقفا ، كما الماضي يبتلع الحاضر ، ويتطاول على غيب المستقبل .. هناك تأسيس فرضي لمفهوم الشفافية .. والحلم بالوضوح .. وظرف يلغي ظرفا ، كما التاريخ يلغي أحداثا ، ويثبت مقاصيدها إثباتا في اليقين ، لا يمحى ولا يبلى .. وهكذا الأيام كما يقول المستضعفون .. إن ، كان مسموحا ، هم الآخرون كريمون .. أو ، هكذا ، تتصنع الحاتمية لشئ في نفس يعقوب .. على أي كرمه يستدرجك إلى نوع من الصراحة التي تعني الإعتراف بالآخر ، وحقه في أن يكون .. كما يحب أن يكون .. ويبعث فيك الطمأنينة ، ويضطرك إلى الإعتراف بما لم تفعله .. طيلة الوجود .. كاعتراف بالجميل .. ويحرق صدرك ، وبعدها ترى عذابك يكشر أنيابه ، وينفث سمومه الدفينة ، ويفح كالأفاعي في عز القيظ .. ترى العذاب وتتحمله .. آه من عاقبتك .. آه .. كنت ترى فوق ، وتنقم كما لو كنت مهدي البشرية المنتظر .. وترى تحت ، وتتحسر كما لو كنت تحمل هموم الدنيا .. وتحلم .. وتخامر نفسك الأماني والعواطف المنبوذة في عالمنا .. وكنت تصيح كخروف مسكين يواسي القطيع ، في واقع يعج بالذئاب .. - فلذة من نص طويل