شكل النظام التونسي السابق أحد أكبر الأنظمة الديكتاتورية التي زاوجت بين ملامح الستالينية والحكم الليبرالي , فكل البنية التنظيمية لحزب التجمع والمؤسسات الأمنية للدولة كانت تشبه بنية الدول الشيوعية المنغلقة , لكن نظام بنعلي نجح في سياسة للعلاقات العامة جعلت العديد من الدول الغربية تصم آذانها وعيونها عن تجاوزات نظامه وعن صرخات معارضيه , يسارييهم وإسلامييهم. تونس كانت من آخر البلدان التي كان يمكن توقع حدوث الثورة فيها , فمن جهة كان النظام يحكم قبضته على كل القضايا والجوانب الأمنية ونجح في تجفيف البلاد من المعارضين وكان هؤولاء ينقسمون فيما بينهم بشكل يجعل توقع توحدهم ضد بنعلي مسألة دونها الأحلام ، كما نجح ذات النظام في فرض الصمت على حلافائه الغربيين إتجاه خرقات حقوق الإنسان والفساد الإقتصادي ، حيث برع نظام بنعلي في لعبة المؤشرات الإقتصادية التي كانت تبوء تونس مكانة مرموقة في تصنيفات التنمية البشرية والتنافسية الإقتصادية ، وهو ما ساهم في تقوية نظام بنعلي، وإضعاف معارضيه ، بل إن نفس الأكاذيب السابقة لازالت تنطلي على كبريات المنتديات الإقتصادية في العالم , فالتقرير الأخير لمنتدى دافوس الإقتصادي حول التنافسية الإقتصادية لسنة 2011يضع تونس في مرتبة لا تتجاوز 40 ضمن 139 دولة , علما أن تونس ومنذ الفرار الشهير لبنعلي تعرف حالة من الجمود الكبير والإرتباك الواضح في تدبير شؤون الدولة وخاصة التحديات الأمنية التي تجعل الجيش والحكومة المؤقتة لرجل قادم من زمن بورقيبة , تعلن بين الفينة والأخرة حالة الطوارئ في عدد من الأقاليم حيث أصبحت المواجهات القبلية ملمحا عاديا...فكيف يكون إقتصاد بلد غارق في الفوضى يملك تنافسية تتجاوز دول تعيش الإستقرار الكامل , فالمغرب رغم الإستقرار تم ترتيبه في الصف 73... من مفارقات ما جرى في تونس هو أن القوى المعارضة لم يكن لها دور في قلب النظام السابق , ولم تكن هناك مقدمات للتحول الكبير الذي جرى ، وإتخدت الشرارة التي أنتجت التغيير شكل فعل سلبي منبوذ إجتماعيا ودينيا وهو فعل الإنتحار ، فكان أن النار التي إلتهمت البوعزيزي كفعل سلبي لا ينحوا نحو المواجهة بل يختار حرق الذات كدلالة على اليأس العميق , هذا اليأس شائت الظروف والتراكمات والأخطاء أن يتحول إلى مؤشر للأمل بالنسبة للتونسيين ، فكان أن تطورت الإنتفاضات الشعبية المحلية والحلقية إلى إنتفاضة بنسق واحد ولو بدون قيادة سياسية ، فكان الغضب والتعب من نظام أصبح عالة على أصحابه هو القيادة الفعلية التي جعلت الناس تتجرأ على رفع شعار « إرحل « فما كان من نظام بنعلي الذي هزته سرعة تحول الأحداث بشكل غير منتظر , بعد أن إعتقد أنه إستطاع تدجين الشعب وإستيعاب النخب...سوى أن شهد إنهيارا سريعا فاجأ الجميع , لكن هذا الإنهيار السريع منح زخما للإنتفاضات الشعبية في بلدان أخرى. فكان هذا واحدا من دروس الإنتفاضة التونسية وخلاصته هو أن العديد من الأنظمة تظهر نفسها في صورة أسد , لكنها في الحقيقة مجرد قطط جبانة... اليوم تعيش تونس مخاضا لم تكن مستعدة ولا مهيئة له، وبدأت تدريجيا تظهر على السطح كل الخلافات العميقة بين الفرقاء السياسيين , وهي خلافات سوف تأتي على كل الأحلام التي رافقت سقوط نظام بنعلي , ويبدوا أن الشعب التونسي لم يكن متحمسا لكل ما جرى أو على الأقل لم يجد نفسه في القوى التي تجسد قيم إنتفاضته علما أن عدد الأحزاب التي تم تأسيسها إلى اليوم فاق 105 حزبا في ظرف ثمانية أشهر , ويبدوا أن الأمر لازال قابلا للتوسع , وكل ذلك لم يمنع من تقديم حوالي 620 لا ئحة مستقلة لإنتخابات المجلس الوطني التأسيسي لوضع الدستور الجديد وخريطة الطريقلتونسالجديدة ما بعد بنعلي , وإمتناع نصف المواطنين من التسجيل في اللوائح الإنتخابية وإرتفاع غير مسبوق للهجرة السرية , وكلها وقائع تشير إلى أن هناك أشياء لا تسير على ما يرام في تونس الخضراء...