ما وقع في تونس يعتبر تأسيسا لمنهج جديد في التغيير في العالم العربي والإسلامي، حيث لأول مرة تنتفض الشعوب دون قيادة ولا تأطير ومع ذلك تستطيع أن تصنع ما عجزت عنه العديد من القوى السياسية والحقوقية التي قدمت تضحيات كبيرة ..في تونس استطاع نظام بن علي أن يعزل نضالات المعارضة الجذرية ويجعلها تغرد خارج السرب بل أصبحت مقاومتها المتكررة والتي اعتمدت الإضراب عن الطعام كسلاح سلمي في مواجهة الدولة البوليسية السابقة ..علامة تونسية بامتياز، ويمكن القول إن منهج القمع التونسي نجح إلى حد بعيد في بناء هوة سحيقة بين القيادات المعارضة وبين الشعب التونسي، الذي من المفترض أنها تدافع عن مصالحه ، كما لم يفت نظام بن علي اللعب على ورقة الإسلاميين لتبرير القبضة الحديدية بمباركة من الدول الغربية التي تقدر اليوم عاليا شجاعة الشعب التونسي لأنها ببساطة كانت تعرف جشاعة النظام السابق ...أول أمس تساءلت في هذه الزاوية ، عن دور الجيش في حال إستمرار حالة الشك، وتساءلت عن إمكانية دخول المعارضة المنقسمة سياسيا وإيديولوجية والمعزولة قياداتها عن الشعب لسنوات طويلة في إنتخابات بعد 60 يوما في إطار إعمال نفس الدستور الذي حكم به بن علي لمدة 23 سنة ؟ الواقع اليوم بعد إعلان الحكومة الانتقالية أن ملامح المرحلة المقبلة بدأت تظهر كما يريد البعض أن يصورها، ومن أبرزها أن الثورة لم تكن ضد النظام بل كانت فقط ...ضد بن علي كشخص ، وعائلة زوجته ليلى الطرابلسي وما دون ذلك فلا مشكلة، وربما يعتبر الهروب الكبير ل بن علي يوم 14 يناير هو نتيجة تفاهمات كبيرة داخل النظام نفسه ، تقرر أن يقفز بنعلي من السفينة لتركها تمضي مع توفير كل أشكال الأمان له ولأسرته، وبكل تأكيد أن دول كبيرة وازنة كانت ضمن الضامنين لهذا الاتفاق، الذي يقول بصراحة أن النظام باقي وأن بعض أكباش الفداء يمكن أن يضحى بهم لكي يستمر هذا النظام، والحكومة الجديدة وجه من وجوه الاستمرارية وليس وجها من وجوه القطيعة التي كانت هي أمل كل التونسيين الذين خرجوا بصدور عارية لمواجهة الرصاص وهواية القتل لدى جهاز أمني كان فوق كل الأجهزة في الدولة .. اليوم يجب الاعتراف بصراحة وبساطة، أن البعض هو بصدد سرقة ثورة الشعب التونسي كيف ذلك؟ باستمرار نفس وجوه المرحلة السابقة وباختصار النظام في بنعلي وزجته وأصهاره وبعض من رجال الأمن الرئاسي، فإن هذا الأمر يذكرنا بما جرى مع « المجاهد « بورقيبة، حيث قاد بن علي انقلابا أبيضا من داخل النظام وذلك كضربة استباقية من انقلاب كان في الأفق، الصورة اليوم مختلفة قليلا لكنها لا تتناقض مع سيناريو 1987، حيث أن ما يجري اليوم هو أيضا استباق لانقلاب قد يقود الجيش إلى السلطة ولو مؤقتا، من قبل أقطاب النظام السابق، الذين واصلوا بكل «شجاعة» تدبير أمور الدولة وتنفيذ بنود الدستور، بما يخدم الأجندة الخفية ، وهي إعادتهم للسلطة علانية لكن باعتبارهم هذه المرة نتيجة لثورة الشعب ، هكذا يطلق السيد الغنوشي الوزير الأول عبارات عن المجرمين والذين أطلقوا الرصاص والذين قمعوا الشعب وكأنه كان في المنفى ، كما أن استمرار فريعة كوزير للداخلية ورغم ما يقال عن نزاهة الرجل، والذي كان من آخر تعيينات بنعلي ، يعتبر نوعا من الضحك على الذقون وسرقة موصوفة لحلم التغيير الذي عبر عنه الشعب التونسي .. ويبقى السؤال.. كيف قبلت المعارضة الرسمية التونسية هذه اللعبة؟ هل تخشى من المعارضة الجذرية أن تتجاوزها أم تخشى من أن استمرار حركية الشارع سيأتي بقوى جديدة تتفوق عليها وتزيحها من الحسابات؟ أم ببساطة لأنها بلا خبرة في مناورات الحكم ودسائسه؟ كيف يمكن الاعتقاد بأن الشعب التونسي الذي لم يعد له ما يخسره سوى قيوده وما تبقى منها أن يقبل باستغفاله وسرقة ثورته، وهو ما بدأ صبيحة البارحة من خلال المظاهرات الرافضة للحكومة الجديدة ، فهل ستعمد هذه الحكومة من جديد إلى قمع الشعب وإطلاق الرصاص؟ تونس اليوم بحاجة إلى مجلس انتقالي يجمد كل مؤسسات العهد السابق يتشكل من المعارضة وبعض الشخصيات الوطنية المستقلة وقائد الجيش ، ويتكفل الجيش بإدارة الأمن وحماية الدولة والمسار المقبل للتغيير، ويتم إعلان أجندة لانتخاب مجلس تأسيسي برعاية أممية لوضع دستور جديد للبلاد ومن تم انتخاب برلمان ورئيس للدولة في فترة لا تتجاوز ثلاثة أشهر، وأن يُعقد مؤتمر استثنائي لحزب التجمع الدستوري لانتخاب قيادة جديدة وطرد كل الأسماء التي لا يمكن سياسيا وأخلاقيا أن تستمر في الحديث باسم هذا الحزب في المرحلة المقبلة، والذي يجب أن يخضع لعملية «نقص الوزن» قد ينتج عنها حزبان أو أكثر مع وجوب تغيير اسمه مراعاة للجوانب المعنوية بالنسبة لعدد كبير من التونسيين، ويتكفل البرلمان بإصدار عفو عام مستثنيا كل من تورط في جرائم القتل والتعذيب وسرقة مقدرات الأمة بما في ذلك الرئيس السابق وعائلته وتقديمهم للمحاكمة في إطار محاكمة عادلة وليس انتقامية .. إن أي تأخير في بدأ هذه العملية وأي رهان على تعب الشعب التونسي و إمكانية قبوله «باللي كَاينْ» فإنها سوف تكون طريقا لسيناريوهين لا ثالث لهما: الأول : دخول الجيش على الخط علانية وإعلان مجلس عسكري ووقف كل المؤسسات وتعطيل الدستور ، وهذا السيناريو قد يُفضي إلى التجربة الموريتانية مع الجنرال محمد فال الذي سلم السلطة للمدنيين بعد انتخابات رئاسية وبرلمانية نزيهة سرعان ما عرفت مسارا آخر، وإما سوف نكون أما قيادة عسكرية تستمر في حكم البلاد وقد تغيير في الطريق زيها العسكري لتلبس زيا مدنيا على شاكلة عدد من الأنظمة العسكرية التي تحكم العالم العربي ، وقد تدفع قوى إقليمية ودولية في هذا الاتجاه تارة من باب الخوف من الديمقراطية وتارة أخرى من باب سد الطريق على الإسلاميين والإرهابيين الذي يوجدون على بعد خطوات في الساحل والصحراء. ثانيا : نموذج الصومال حيث تنهار الدولة ويفسح الطريق لمجموعات وتكتلات في إطار صراع مسلح وخاصة أن المؤسسة الأمنية لا يمكن أن تفرط في إمبراطوريتها هكذا دون مقاومة ، وأن يقاد قادتها كأكباش فداء في محاكمات فُرجوية يقودها المدنيون أو الجيش، وهذا السيناريو سيفسح المجال واسعا للقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي لكي تتحول إلى لاعب رئيسي وبالتالي دخول تونس في اتجاه المجهول. إن الأيام الأربعة المقبلة سوف تكون حاسمة بالنسبة لمستقبل تونس وشعبها ...وللمنطقة ككل. [email protected]