تعيش الساحة السياسية التونسية هذه الأيام أحداثا متتالية تعمل على تغيير ملامح الخريطة السياسية التونسية حالا ومستقبلا، فقد أظهرت الأجواء العامة السائدة في تونس منذ أمد غير قصير رغبة الرئيس التونسي زين العابدين بن علي في تجاوز إحدى قواعد اللعبة السياسية التي قام بنفسه خلال السنوات الثلاثة الأولى لحكمه على تثبيتها وإرسائها وطبعها بالطابع القانوني والدستوري، ذلك أن إلغاء الرئاسة مدى الحياة. من خلال حصر عدد الولايات الرئاسية التي يحق لأي رئيس تونسي أن يباشرها في ثلاث ولايات فقط لم يكن شعارا ثانويا رفعته تونس في عهدها الجديد، عهد زين العابدين بن علي، بل كان أهم المصادر التي نال بها نظام بن علي الشرعية الشعبية. فكيف عمل هذا الأخير على التحضير لولاية رئاسية رابعة بعدما كانت محصورة في ثلاث فقط وهو من أقرها؟ وكيف استقبل المجتمع التونسي هذه الخطوة؟ إجراءات وتدابير مبيتة سعى الرئيس التونسي ومنذ أن اقتنع هو نفسه بضرورة ولاية رابعة يصفها بعض الخبراء السياسيين "بالولاية الرابعة غير الدستورية" إلى اعتماد خطة من خمس مراحل لتطبيق قناعته وترجمتها واقعا وهي: أولا: نهج الرئيس بن علي سياسة الإقصاء على مستوى الحكومة وحزبه الحاكم التجمع الدستوري للقضاء على كل شخصية سياسية فاعلة وقوية تظهر عليها ملامح القيادة السياسية للبلاد والقدرة على منافسة بن علي ولربما تجاوزه في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وذلك ما حصل فعلا مع الهادي البكوش والحبيب عمار ومحمد جغام الذين تم إبعادهم وتكميم أفواههم. ثانيا، عمل أنصار الحزب ومريدوه وقواعده في مختلف أرجاء تونس، ومنذ دخول بن علي في ولايته الثالثة وهي الأخيرة مبدئيا، على إشاعة فتن وإشارات توحي بالرغبة في تجديد ولاية بن علي ضمانا للأمن والاستقرار اللذين أصبحت تنعم بهما تونس وكل ذلك كان بهدف أولا جس نبض الشارع التونسي وثانيا لتحويل ما يعتقد أنه تجاوز سافر وفاضح للدستور في حالة حدوثه إلى مسألة طبيعية ومقبولة مراعاة لمصلحة البلاد. ثالثا: اعتماد الرئيس بن علي نفسه التلميح بدل التصريح من خلال إعلانه في خطبه بأن تغييرا دستوريا سيحدث في المستقبل القريب كما في خطابه ليوم 2001-11-7. وحتى إذا ما تم تخيل هذا التغيير الدستوري مع ما يشاع من حاجة البلاد إلى فترة رئاسية رابعة لابن علي كان أمر الإعلان عنه مستساغا ومقبولا. رابعا، الاقدام على تغيير الدستور وإلغاء الفقرة الواردة في الفصل 39 من الدستور التي تحرم بن علي من فترة رئاسية جديدة في انتخابات 2004. وقصد ذر الرماد في العيون وطبع التغيير بمصداقية أكثر عمل النظام التونسي على تغيير دستوري آخر قد يطال العديد من الفصول من قبيل اعتماد مجلس نيابي من غرفتين بدلا من مجلس بغرفة واحدة كما الشأن حاليا. خامسا وأخيرا إجراء انتخابات رئاسية متعددة شكلا وأحادية مفردة مضمونا يفوز فيها الرئيس بن علي وكالعادة بنسبة لا تقل عن %99. والمتأمل في مسار الخطة المعتمدة لمنح الرئيس بن علي ولاية جديدة رابعة يدرك مدى قدرة النظام التونسي على فرض إرادته على مؤسسات الدولة وتسخيرها لخدمة أهدافه وطروحاته، لكن الدارس لذلك يدرك في الوجه الآخر، عودة البلاد إلى الأجواء المشحونة والصعبة التي عاشتها تونس منذ إعلان الرئيس الراحل لحبيب بورقيبة تنصيب نفسه رئيسا لتونس مدى الحياة سنة 1974 وهو ما أدخل البلاد في تجارب واضطرابات شعبية كانت سببا في وضع حد له بشكل مهين. ويظهر أن المتتبع للمسار السياسي لزين العابدين بن علي يدرك أن هذا الأخير بنى مشروعه السياسي في بدايته الأولى على أنقاض ما ورثه من الحبيب بورقيبة وكان ذكيا جدا بحيث أنه استطاع أن يساير الشعب التونسي ويميل إلى حيث مال، فقرر منذ البداية إلغاء ما دعا إليه لحبيب بورقيبة من رئاسة أبدية وحصرها في ثلاث ولايات فقط مدة كل واحدة خمس سنوات، وكان كل ذلك مما أوحى لأطراف الحياة السياسية في الداخل والخارج بأن تونس تسير في خطى ثابتة نحو الديموقراطية والتعددية خاصة إذا ما أرفق ذلك الاختيار السياسي بعدة إجراءات وقوانين منها الإفراج على السجناء السياسيين وتنظيم أول انتخابات تشريعية تعددية. الإسلاميون واليسار: معارضة متراصة وشعارات موحدة لم يدم الأمر طويلا، فمع مطلع تسعينات القرن الماضي بدأت شرعية النظام التونسي تتآكل بعد قرار النظام التونسي الدخول في حرب مفتوحة ولا هوادة فيها مع حركة النهضة الإسلامية أفضت مع مرور الزمن إلى اتخاذ نظام الرئيس بن علي حلة أمنية متوحشة صودرت معها الحريات العامة وانتهكت من خلالها حقوق الإنسان وملئت بها السجون التونسية بآلاف المناضلين من مختلف التوجهات والمشارب الفكرية. ولئن بدت مواجهة الرئيس بن علي مقتصرة بداية على الإسلاميين فإنها اتسعت لاحقا لتشمل جميع النشطاء السياسيين، وبذلك أصبحت المعارضة في تونس تجمع الإسلاميين واليساريين والقوميين العرب والليبراليين ونقابيي ونشطاء حقوق الإنسان وطلبة وغيرهم كثير، والذي يضفي على هذه المعارضة التونسية طابع القوة والقدرة على التأثير أنها تحولت إلى حركة رفض جماعي شاملة أفرزت إلى الوجود تيارات وأحزاب معارضة أخرى داخل البلاد أو خارجها ومن هذه التيارات >حزب المؤتمر من أجل الجمهورية< الذي يقوده المنصف المرزوقي الرئيس السابق للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان. كما أن الذي يزيد من قوة وتماسك المعارضة التونسية كونها ترفع شعارات وتعمل على برامج تكاد تكون موحدة من أهمها: سن عفو تشريعي عام يمنح كافة السجناء السياسيين الحرية ويعيد لهم الاعتبار. عدم السماح للرئيس بن علي بالترشيح الجديد للولاية الرابعة غير الدستورية. عدم القبول بتغيير الدستور ضمن المعادلة السياسية الحالية. تحرير وسائل الإعلام من سيطرة ووصاية الدولة. تحرير السلطة القضائية من هيمنة السلطة التنفيذية. وتجدر الإشارة إلى أن إقرار مجلس النواب التونسي مؤخرا مشروع تعديل الدستور التونسي والسماح للرئيس بن علي بولاية رئاسية رابعة ورفع السن القصوى للترشيح لمنصب الرئيس من 70 سنة إلى 75 سنة مما يعني إتاحة الفرصة للرئيس بن علي البالغ من العمر 65 سنة للترشح لمنصب رئاستين إضافيتين، كل ذلك قلت شكل عنصر تراص وتلاحم بين صفوف المعارضة، فقد طالبت عدة أحزاب بسحب المشروع قبل أن يمر إلى البرلمان التونسي للتصويت عليه كالحزب الديموقراطي التقدمي أما مصطفى بن جعفر الذي يتزعم المنتدى الديموقراطي للعمل والحريات فاعتبر المشروع بمثابة استفزاز وليس مشروعا إصلاحيا. ومن جهة أخرى فإن ما يثير قلقا بالغا وسط المجتمع التونسي والمهتمين بالشأن التونسي عموما ارتهان المستقبل السياسي لتونس بين الولاياتالمتحدةالأمريكيةوفرنسا. ذلك أن تعرض البشير الصيد نقيب المحامين التونسيين والمعارض السياسي المعروف واقتحام رجال المخابرات التونسية لمكتبه بعد اجتماعه مع السفير الفرنسي بتونس والتصريحات الفرنسية التي أعربت عن قلق باريز حيال مستقبل تونس ورغبتها في حدوث تغيير هادئ يعزز الديموقراطية في البلاد ويضمن استقرارها وأيضا تعرض رجل الأعمال التونسي >كمال الطيف< لاعتداء من قبل رجال الأمن التونسي بعد لقائه بالسفير الأمريكي في تونس وبعدد من رجال الدبلوماسية الغربيين وحينها قيل إن أنباء ترددت أبانت عن رغبة أمريكية في إحداث تغير سياسي في تونس يضمن استقرارها وهدوءها، فكل ذلك إذا يدل على إمكانية وجود رغبة أمريكية فرنسية مشتركة في تدارك أمر انزلاق تونس إلى حالة متقلبة لا تخدم مصالح فرنسا ولا أمريكا في تونس وذلك مما يذكي ويزكي وحدة المعارضة. حادث جربة بين التدبير والعرضية في ظل ما تعرفه تونس مؤخرا وهي لم تلملم جراحها بعد من قرار مصادقة البرلمان التونسي على إعطاء ولاية رابعة للرئيس التونسي بن علي، تعرضت جزيرة جربة التونسية يوم الخميس 11 أبريل 2002 إلى حادث انفجار في صهريج ينقل الغاز أمام معبد الغريبة اليهودي وحينها قالت التصريحات التونسية إن الحادث عرضي واستبعدت أن يكون الحادث اعتداء مدبرا، وكان حادث الانفجار خلف 16 قتيلا بينهم 11 ألمانيا علما أن جربة موطن لأكثر من 1000 يهودي تونسي من مجموع 3000 يهودي يعيشون في تونس. وفي هذا الوقت بالذات حيث الحرب على الإرهاب!! ذهبت ألمانيا إلى الاعتقاد بأن الانفجار ناتج عن هجوم متعمد وليس عرضيا كما ذهبت إلى ذلك الحكومة التونسية. فقال وزير الداخلية الألماني أو توشيلي وهنا مكمن الإشكالية، إلى أنه وفق نظرية أحدث معلومات، توصلت الحكومتان التونسية والألمانية إلى أن الانفجار الذي وقع بجربة يبدو أنه كان مدبرا، وفي هذا تناقض وارتباك في الموقف التونسي من الحدث خاصة بعدما ظهرت توجهات تقول بأن أفرادا من القاعدة هم من كان وراء التفجير. ويزداد الأمر تعقيدا عندما ندرك أن جربة هي موطن ثلث اليهود القاطنين بتونس فهل للأمر صلة بما تعرفه تونس من قهر وظلم، ذلك ما قد تكشف عنه الأيام القليلة القادمة. عبد الرحمان الخالدي