المعارضة التونسية وموانع الجبهة الوطنية الموحدة هذا المقال يدرج نفسه في إطار جدل موجود وقائم حول واقع المعارضة التونسية والعلاقة بين مكوناتها المختلفة، وحول مستقبل تونس ومستقبل أجيالها، الذي يصنع في حاضرنا. ويأمل صاحب هذا المقال أن يثير مقاله المزيد من الحوار حول الإشكالات المطروحة, باعتبار أن مستقبل بلادنا يعنينا جميعا, وأن الصمت على الرداءة والعجز هو أسوأ خدمة يسديها التونسيون لبلادهم. قدمت بعض القوى والشخصيات السياسية التونسية في الفترة الأخيرة، وهي قوى وشخصيات تنطلق من مواقع مختلفة، ويجمع بينها الميراث اليساري، أجوبة عن سؤال يطرحه الواقع التونسي بإلحاح، وهو لماذا لا تتوحد قوى المعارضة التونسية، بإسلامييها ويسارييها.. ليبرالييها وقومييها، في إطار جبهة موحدة، قادرة على مقارعة دكتاتورية ابن علي، ونظامه الفاسد, وإحداث تحول ديمقراطي في تونس، ينهي مرحلة الحكم الكئيب، المرشحة للاستمرار، في ظل الانقسام والتذرر، الذي تعاني منه المعارضة التونسية؟ وقد تباينت الأجوبة على هذا السؤال، بين من يرى أن الوقت غير مناسب لطرح موضوع الجبهة الوطنية الموحدة، وبين من يعتبر أن اللقاء مع الإسلاميين غير مطروح على الأجندة أصلا، وأن اللقاء معهم أقرب إلى المستحيل، ومن يرى أن اللقاء معهم مشروط بإحداث تغييرات جوهرية في فكر وعقلية التيار الإسلامي، بما يجعله يتبنى الخيار العلماني بشكل صريح، قبل تشكيل هذه الجبهة، بحجة أن التغيير المنشود من وراء تشكيلها لا بد أن يكون مبلورا واضح المعالم من الآن.. فما الأسباب التي تجعل اللقاء بين قوى المعارضة التونسية عسيرا إلى هذا الحد؟ وهل يمكن الوصول إلى قاعدة للقاء يجتمع عليها مختلف الفرقاء في المعارضة التونسية؟ توصيف الواقع التونسي قبل الخوض في غمار هذا الموضوع لابد من محاولة تقديم توصيف للواقع التونسي الحالي. وبشيء من الاختزال نقول إن الواقع التونسي يمكن تحديد ملامحه الكبرى على النحو التالي: 1 - سلطة تحكم قبضتها على البلاد بآلة أمنية عاتية، تمكنها من إحصاء الأنفاس، وشل العمل المعارض في الداخل, أو إرهاقه على الأقل، وتبذل قصارى جهدها لمحاصرة العمل المعارض في الخارج. وتشيع الفساد بكل معانيه الأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد، وهي تلقى حماية ودعما خارجيا يقوى أحيانا، ويضعف أحيانا أخرى، وتسلط عليها بعض الضغوط الخارجية أحيانا أخرى، من دون أن يمثل ذلك مصدر قلق للنظام، بالنظر لقدرته على ضمان حد مقبول دوليا من الاستقرار الداخلي، حتى الآن، وبالنظر أيضا للأهمية الاستراتيجية لتونس في محيطها، وبالنظر للحاجة الأمنية المتزايدة للقوى الدولية الكبرى لهذا الموقع الاستراتيجي، الذي تحتله بلادنا. 2 - معارضة مشتتة وضعيفة يمكن تقسيمها إلى التالي: أ - معارضة معترف بها هشة وفاقدة للمصداقية في أغلبها، تلقى التجاهل من الشعب، والاحتقار من السلطة. وقد رضيت بالفتات، الذي يلقيه لها النظام، وهو ما يكاد يخرجها جملة من الحياة السياسية التونسية، ويحيلها إلى دائرة النسيان، إلا في بعض المناسبات القليلة, التي تأتي مرة كل خمسة أعوام، مثل المناسبات الانتخابية. ب - معارضة يسارية وليبرالية وقومية، غير معترف بها في الأغلب، وهي معارضة نخبوية مشتتة وضعيفة ومتنابذة، وما يفرق بينها أكثر مما يجمع. وباستثناء تجربة "الوفاق الديمقراطي"، التي عجزت حتى الآن عن أن تمثل بديلا حقيقا لواقع التشتت، وقوة سياسية حقيقية في البلاد، فإن الطابع العام، (وله استثناءات قليلة بالطبع)، ظل الانقسام والتذرر في هذه القوى، وما حصل في حركة الديمقراطيين الاشتراكيين، التي صارت حركات، أبرز مثال على ذلك. ومما يبدو لي فإن هذه القوى لا يلاحظ لها فعل معارض حقيقي على الأرض، ومعظم حضورها في الساحة حضور إعلامي، من خلال التغطيات الإعلامية المحسوبة في كثير من الأحيان، التي يعطيها لها الإعلام الخارجي. وتحاول السلطة التعامل مع هذه الأطراف من خلال سياسة الإرهاق المتواصل، وشغلها عن العمل السياسي، الذي يساهم في التأثير في الواقع، وإنضاج ظروف التغيير، وإلهائها بالقضايا الحقوقية الجزئية، مثل المطالبة بإطلاق سراح بعض الشخصيات، التي يجري اعتقالها، أو المطالبة باسترجاع جوازات سفر، والتمكين من السفر للخارج، أو استرجاع بعض الحقوق، التي تعاود السلطة الالتفاف عليها من جديد بعد فترة، حتى تبقي حركة تلك الأطراف في حدود ضيقة، وهي حدود لا يبدو أنها تتجاوز في الأغلب دائرة العاصمة تونس، في حين تظل "تونس العميقة" بعيدة عنها وعن تأثيرها. ت - التيار الإسلامي، وتحديدا جسمه الرئيسي ممثلا في حركة النهضة، مشتت بين السجون والمنافي، وعاجز، في ظل تركيز الآلة الأمنية عليه منذ أكثر من عقد، عن القيام بجهد معارض من شأنه أن يمثل تحد حقيقي للنظام. ومعظم جهد هذا التيار ينصبغ بصبغة المعارضة السلبية في الأغلب، ولم ينجح حتى الآن إلا قليلا في الانتقال إلى دائرة المعارضة الإيجابية، ويحمد له خطه السياسي الرافض لإعطاء شرعية للدكتاتورية وللفساد وحكم العصابات. ث - جمعيات حقوقية ومدنية وشخصيات مستقلة فاعلة ومزعجة للنظام التونسي، تتنامي جرأتها في توصيف الوضع التونسي على حقيقته. ويمثل دور المجلس الوطني للحريات، والجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيين، ومركز تونس لاستقلال القضاء والمحاماة, وإلى حد ما الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، والهيئة الوطنية للمحامين وجمعية المحامين الشبان، وجمعية الصحافيين التونسيين، وبعض الجمعيات الأخرى، دورا متقدما على دور الكثير من الأحزاب السياسية التونسية. ج - جامعة تبحث عن نفسها وعن دور لها في الحركة الوطنية المعارضة. وقد مثلت حالة الانقسام، التي يعيشها الاتحاد العام لطلبة تونس، وجها ساطعا من وجوه معاناة الحركة الطلابية، التي غلب عليها الهم الحزبي الضيق، وشغلتها الصراعات الحادة بين رفاق الدرب عن القيام بدورها، الذي عرفت به طيلة فترة طويلة من تاريخها، وتحاول استعادته الآن، ربما من خارج الأطر الشرعية الموجودة. ح - جبهة اقتصادية واجتماعية تعرف الكثير من القلق والغليان، في ظل تزايد الفقر والبطالة وإفلاس المؤسسات، والرغبة الجارفة في الهجرة من البلاد، لكن ذلك القلق لا يزال مكتوما، وقد عجزت طلائع المجتمع، ممثلة في القوى السياسية، والمؤسسات المهنية والاجتماعية، بسبب حالة الضعف والفرقة والتشرذم، عن أن تمثل الصاعق, الذي يفجر ذلك القلق والغضب، ويجعل منه رصيدا قويا في دعم معركة التغيير. جبهة سياسية أم إيديولوجية؟ أصاب الأستاذ عبد الرؤوف العيادي الكاتب العام لحزب المؤتمر من أجل الجمهورية، كبد الحقيقة، في رده على مقال للأستاذ أحمد نجيب الشابي الأمين العام للحزب الديمقراطي التقدمي، تحدث فيه عن "الموقف من الإسلاميين" وإمكانية التحالف معهم، حين ألح الأستاذ العيادي على أن ما يعيق توحيد المعارضة إنما هو الرؤية الإيديولوجية، لموضوع العلاقة مع الإسلاميين، بالرغم من التوافق السياسي بين مختلف القوى العلمانية والإسلامية، في توصيف الواقع، وتوافقها بالنسبة للمطالب السياسية، إذ مطالب الجميع متقاربة إلى حد بعيد: العفو التشريعي العام، وإيجاد مناخ مناسب من الحرية للعمل السياسي والعمل العام، ووقف احتكار السلطة للفضاء العمومي. ولكن هذا التشابه الكبير في المطالب السياسية، لم يسمح للمعارضة بالالتقاء في إطار جبهة موحدة، رغم حديث الجميع عن واقع التشتت، وضيق الكل به، وذلك راجع بدرجة أساسية, في تقديرنا, إلى الطابع الإيديولجي لتفكير كثير من القوى، التي تصف نفسها بالديمقراطية. فلنأخذ السيد نجيب الشابي مثلا، فبالرغم من حديثه الكثير، عقب تغيير حزبه لاسمه من "التجمع الاشتراكي التقدمي" إلى "الحزب الديمقراطي التقدمي"، عن أن التغيير الذي حصل في الحزب، ودخول فئات جديدة إليه، هو تعبير عن الارتقاء من مستوى اللقاء الإيديولوجي إلى مستوى اللقاء السياسي، بما جعل الحزب يقبل بوجود "تيارات" داخله، إلا أننا نرى أن ذلك قد وقف عند حد معين، لم يستطع الحزب أن يتجاوزه، إذ قبل بالانفتاح على بعض الأشباه والنظائر، لكنه عجز، وعجز غيره من الأحزاب المشابهة، عن الانفتاح على المغاير إيديولوجيا: التيار الإسلامي. ولا نقصد بالانفتاح هنا التماهي والاندماج، ولكن التحالف واللقاء، وذلك باستثناء حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، الذي يدعو إلى إقامة جبهة واسعة, تضم الجميع, ولا تقصي إلا من يقصي نفسه عنها. فالتفكير الإيديولوجي ضيق الأفق، عند البعض، والخوف من السلطة، والوقوف عند الإشارات الضوئية، التي تضعها لتنظيم عملية السير السياسي، والارتهان للخارج في بعض القضايا الحساسة، وخاصة الملف الإسلامي، عند البعض الآخر، هو في نظرنا سبب تشتت المعارضة. وتشتت المعارضة يسمح للسلطة بإبقاء سيطرتها على الجميع.. - فالمعارضون "الديمقراطيون"(1) لا يمثلون تحديا حقيقيا للنظام، وعملية ترويضهم ليست صعبة المنال، وقد نجحت فيها السلطة إلى حد بعيد في الأعوام الماضية، إذ لم تسمح لهم بأن يكونوا أكثر من أصوات مبحوحة، تحضر حينا، وتغيب أحيانا، في الإعلام الخارجي.. وإذا حضروا في الداخل ففي العاصمة تونس في أحسن الأحوال، أو تحديدا في بعض أحيائها.. أما تونس العميقة، بل الأحياء البعيدة بعض الشيء في العاصمة فهم غائبون عنها كل الغياب إلا قليلا. - والإسلاميون في مرمى النيران منذ أكثر من عقد.. وهمّ السلطة الأساسي خلق إجماع على تجريمهم, وفرض الحصار عليهم، وعزلهم عن باقي مكونات الحياة السياسية، للإبقاء عليهم في وضع أشبه بوضع الشلل. وقد تطوع عدد من "الديمقراطيين" للعمل على زيادة فعالية الحصار والعزل. ويذكر الجميع جيدا الأصوات المتباكية والمحذرة من "انهيار سور الصين" المضروب على الإسلاميين، حين وقّع الشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة بيانا مشتركا مع الدكتور محمد مواعدة الرئيس السابق لحركة الديمقراطيين الاشتراكيين. وهكذا قرأنا في ذلك التاريخ سيلا من المقالات، من بعض إخواننا "الديمقراطيين"، تستنكر تلك الخطوة، وقرأنا مقالات أخرى، كانت أقل حدة، على صعيد اللفظ، لكنها لم تبتعد كثيرا على صعيد المضمون.. وظل أفضل "الديمقراطيين" يتحدث عن استعدادهم للدفاع عن الإسلاميين، ولكن باعتبارهم قضية حقوقية لا أكثر.. وقد كشف القاضي مختار اليحياوي مؤخرا، لمن لا يعرف، أن ذلك الدفاع لم يكن حائزا على ما يكفي من النزاهة والمصداقية من قبل أولئك "الديمقراطيين" جوهر المشكل لماذا يصر كثير من "الديمقراطيين" التونسيين على تغليب النظرة الإيديولوجية على السياسية، في التعاطي مع موضوع التحالف وتوحيد المعارضة، رغم أن تونس تحتاج بشكل ملح إلى تقوية صفوف قوى التغيير، الضعيفة والمشتتة، لإنقاذ البلاد من الوضع، الذي يسير إلى التعفن بشكل متسارع؟ وهل صحيح أن تلك القوى تنشد التغيير؟، أم إن الحفاظ على الوضع الراهن، أفضل لها، إذا كان التغيير سيعيد من جديد "البعبع الإسلامي"؟ الحقيقة أن العديد من القوى "الديمقراطية" التونسية والعربية عموما، لا تثق في قدرتها على إدارة صراع متكافئ مع التيار الإسلامي، في أجواء من الديمقراطية الحقيقية, والتنافس النزيه.. ولذلك فإن بعضها يفضل الوضع الحالي، باعتباره قد أتاح إقصاء الإسلاميين من الساحة بالعنف.. ومن إيجابيات ذلك العنف أن لم يتورط فيه "الديمقراطيون" أنفسهم، وإنما أقدم عليه جنرال طالع من المؤسسة الأمنية، وهو ما يبرئهم من التهمة، ويحقق لهم الهدف المنشود في نفس الوقت.. ولذلك يذكر الجميع أن بعض تلك القوى أبدت سعادتها بما حصل في مطلع التسعينيات للإسلاميين وأيدت السلطة فيه.. أما تلك التي كانت تحتفظ لنفسها بهامش من الحركة تجاه النظام، فإنها كانت (وبعضها مازال) تردد أن العنف وحده لا يكفي. وأن المطلوب إجراءات انفتاح، وقدر أدنى من حياة ديمقراطية، حتى لا تتخلق أجواء تسمح بعودة "التطرف والأصولية". وسمعنا في الخارج اعتراضات على توجه النظام لاستهداف القوى العلمانية التونيسية مع نهاية التسعينيات (بيان صادر عن الاتحاد الأوروبي) تقول إن السلطة، التي ترفع شعار محاربة الأصولية، صارت تستهدف الجهات المؤهلة أكثر من غيرها لمجابهة "الأصولية" فكريا وسياسيا. وهكذا فإن من يشغله همه الإيديولوجي من بعض "الديمقراطيين" التونسيين، مستعد لكي تفقأ عينه، إذا كان ذلك يعني أن يصاب التيار الإسلامي بالعمى. وهكذا قرأنا مؤخرا للسيد الطاهر بن حسين وبكل صراحة, أو لعلها الوقاحة, أن بقاء النظام الحالي، بالرغم من كل الكوارث, التي يسببها للبلاد ولمستقبلها ولأجيالها القادمة، أفضل من عودة الإسلاميين. وأكثر "الديمقراطيين" غير مستعد بعدُ للقاء سياسي موسع، يجمع قوى متباينة إيديولوجيا، من أجل تحقيق برنامج سياسي محدد. وذلك بالرغم من إلحاحية ذلك اللقاء، وحاجة البلاد الشديدة إليه. ومن المؤسف أن تظل القوى "الديمقراطية" تفكر، في ظل عجز مقيم عن إدراك حقيقة الواقع، في تقوية جانبها التنظيمي، حتى تكون قوة ثالثة، بين السلطة والتيار الإسلامي.. فذلك لا يتحقق بالرغبات وحدها، وإنما (إيجابيا) بجهد عظيم، وتضحيات كبيرة، لا تبدو تلك الأطراف مهيأة لها، وكذلك (سلبيا) بعدم مصادمة الشعب في أقدس مقدساته وثوابته، ثم انتظار تأييده وتهليله، فهذا نقيض ذلك، لو كانوا يعلمون. إن السيد ابن حسين والسيد صالح الزغيدي ومن يسير على نهجهما، وكثير من "الديمقراطيين"، ممن يغضون نظرهم عن واقع الخراب العام, الذي تعاني منه البلاد، ولا يفكرون إلا في تقوية جبهتهم الثالثة الموهومة, ويرفضون بإصرار توحيد المعارضة، بسبب هواجسهم ومخاوفهم الزائفة من الإسلاميين، مسؤولون بشكل كبير على استمرار الواقع المر في البلاد، ومسؤولون عن تواصل تدهور معيشة التونسيين، وانخرام عامة أوضاعهم.. إنهم مسؤولون تاريخيا أمام شعبنا، كلما طالت مأساته، ومسؤولون بالقدر الذي تعشش فيه الرداءة في بلادنا وتفرّخ. إن اللقاء بين مختلف قوى المعارضة، مهما تناقضت رؤاها الإيديولوجية ضرورة اليوم لرفع كابوس الظلم والانحطاط والخراب العام عن كاهل تونس. ومن يحول دون ذلك بأي مبرر، مهما كان وجيها لدى صاحبه، هو عائق من عوائق التغيير، وهو بالتالي مسؤول عن استمرار الوضع البائس، الذي تعاني منه البلاد. إن اللقاء بين مختلف قوى المعارضة ليس مطلبا يستجدى من هذا الطرف أو ذاك.. إنه ضرورة وفريضة على مختلف التونسيين، وأن من يتسبب في تعويقه سيحاسبه التاريخ حسابا عسيرا. ومن وجوه حساب التاريخ فرض المزيد من العزلة على أولئك "الديمقراطيين" المعزولين واقعا عن نبض شعبهم، الذين يخوّفون الناس من خطر الإسلاميين المفترض، ويغمضون عيونهم, في بلاهة لامتناهية, عن الخطر الواقعي، الذي تعاني منه تونس.. خطر نظام ابن علي، الذي يتحول تدريجيا إلى عصابة ستدمر البلاد، وتحطم كل مكاسبها، وتنشر فيها الرداءة والتطرف والعنف (2). إن القاعدة التي يفترض أن يلتقي حولها كل أبناء تونس الشرفاء, يجب أن تكون إنقاذ البلاد من المأساة, التي تعاني منها, والكارثة، التي تتقدم كل يوم نحوها خطوة جديدة. والمطلوب في المقابل أن تُقدم لإخواننا "الديمقراطيين" ضمانات بأن لا يكون الوضع, الذي سينشأ عن تغيير النظام الحالي الفاسد على حسابهم، وأن يجدوا في الوضع الجديد موقعا يليق بهم.. ولكن ذلك لا يمكن أن يتم إلا بالحوار، وفي ظل اللقاء والتقارب بين قوى المعارضة المختلفة، من أجل الاتفاق على أسس وقواعد لتنظيم التعايش بينها، بعد رحيل النظام الفاسد. إن تونس بدأت تعرف تشكلا تدريجيا لمعارضة مناضلة، متجردة من الحسابات الحزبية، وضيق الأفق الإيديولوجي. وبالرغم من أنها لم تتبلور بعد في إطار تكوينات حزبية في الأغلب (باستثناء حزب المؤتمر من أجل الجمهورية)، ولا تزال تتمثل في شخصيات وطنية مستقلة، مكافحة وجريئة، فإن تأثيرها سيكبر مع الوقت، بما يؤدي إلى تهميش كل الكيانات الأسيرة لنظرتها الحزبية والإيديولوجية المحدودة، والمصابة بقصر النظر السياسي (3). ويجب أن يعلم إخواننا "الديمقراطيون" أن البلاد لن تتوقف في انتظار رضاهم, أو رضا أي طرف آخر مهما كان تاريخه وعطاؤه.. إن وضع البلاد يحتاج إلى تغيير عاجل.. فالتغيير اليوم ضرورة, وهو لابد أن يتحقق على أيديهم، بالاشتراك بينهم وبين باقي قوى المعارضة، أو على أيدي غيرهم, وساعتها سيجري تهميشهم، وتهميش كل الذين ينشغلون عن المشكلات الحقيقية للبلاد بمشكلات وهمية وزائفة.. لأن الطبيعة تأبى الفراغ، والقرآن الكريم يقول "وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم". صدق الله العظيم. هوامش 1- يحلو لبعض المعارضين العلمانيين وصف أنفسهم بأنهم ديمقراطيون، ويتهمون من خالفهم بأنهم أعداء للديمقراطية. وصرنا نلاحظ في الفترة الأخيرة أن وصف "ديمقراطي" صار يشمل كل من هو علماني, بالرغم من أن كثيرا من هؤلاء، الذين يحاولون احتكار صفة الديمقراطية كانوا إلى وقت قريب يؤمنون بدكتاتورية البروليتاريا، وبعضهم لايزال كذلك، وآخرين كانوا خدما للدكتاتورية السمجة، حتى إذا طردتهم من "جنتها"، قفزوا لمعسكر "الديمقراطيين" وتربعوا على عرشه، وبعضهم الآخر يسعى لفرض الليبرالية في الحياة الخاصة, لكنه لا يقبل بها على صعيد الحياة العامة. 2- عجيب جدا أمر بعض العلمانيين العرب، فهم بالرغم من كل الواقع المؤلم، وحالة الانحطاط الشاملة، التي تعاني منها دولنا, فإنهم يكادون يغمضون أعينهم عن هذا الخراب العميم، ولا يرون من خطر إلا في الحركة الإسلامية.. العالم العربي المحكوم بأنظمة لا تحتكم للدين، وبعضها يحاربه, مثلما هو الشأن في تونس، هو اليوم في أسفل السلم في مجالات التنمية والحريات.. الخ في العالم، لكن ذلك النفر من العلمانيين لا يرون هذا، ولا يتصدون له, ويتصدون للتخويف من خطر التيار الإسلامي، وهو تخويف موهوم، فالعرب وصلوا حضيضا لا حضيض بعده.. ومع الحركة الإسلامية لن يكون الشأن، في تقديرنا، مهما ساء، أسوأ مما هو موجود، بل ربما كان أفضل بكثير مما هو واقع اليوم, وهذا ما نعتقد. 3- عرفت تونس في الفترة الأخيرة تحركات قام بها نفر من تلك الشخصيات المناضلة، أحرجت بشكل بالغ الأطراف "الديمقراطية"، التي لا تزال تفضل أن تتعامل مع موضوع المساجين السياسيين من موقع الحسابات الحزبية والإيديولوجية الضيقة. ونظن أن الاتجاه الذي تمثله تلك الشخصيات المناضلة سيتسع مع الوقت، لأن خيارها صحيح، يعبر عن حاجة واقعية في تونس اليوم، و"لا يصح إلا الصحيح"، كما يقال. نور الدين العويديدي رئيس تحرير مجلة "أقلام أون لاين" www.aqlamonline.com