رواية «سرير الأسرار» (دار الآداب، ط1، 2008، بيروت، لبنان)، هي باكورة الروائي المغربي البشير الدامون، ومن جملة الروايات التي اتخذت من مدينة تطوان فضاء تنهل من أمكنته العابقة بأريج التاريخ والفتنة. للكتابة عن تطوان أو بوحي منها سحر خاص ولا شك. لعل هذا ما دفع كتابا عديدين من أبناء المدينة إلى جعلها الفضاء الأثير لإبداعهم؛ نذكر من هؤلاء محمد أنقار بروايتيه «المصري» و»باريو مالقة» وأقلعي بروايته «أطياف البيت القديم» وكذلك هشام مشبال وروايته «الطائر الحر» وغيرهم. ومن الأكيد أن «سرير الأسرار» واقعة هي الأخرى في ذاك السحر. تدور أحداث الرواية في مدينة تطوان، للنص كلف خاص بدروب المدينة وحواريها إلى درجة أن ظهر الغلاف الذي وضعته «دار الآداب» للرواية تضمن عبارة تشدد على هذا البعد المكاني، إنها »تحكي تاريخا اجتماعيا للمدينة والأنوثة«. وعندما نتحدث عن التاريخ نتحدث عن الذاكرة؛ الرواية في جميع الأحوال محاولة من الإنسان لرتق ثقوب الذاكرة الإنسانية وجمع شتاتها وملء الفراغات التي يحدثها النسيان من أجل خلق كل قابل للفهم. سؤال الذاكرة ملح في الكتابة السردية، ورواية البشير الدامون وضعت يدها على هذه الإشكالية الجوهرية. لكن الحديث عن الذاكرة ليس بالبداهة التي يمكن تصورها، يكفي أن نعرف أن »الطريق الأكثر أصالة التي يكون فيها الماضي موجودا لا تتمثل في الذاكرة إنما في النسيان« كما يقول هيدغر (طرق هيدغر، هانز جورج غادامير، ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط1،2007، طرابلس، ليبيا، ص 105). قد يكون الطريق الأفضل لاستعادة الماضي هو النسيان نفسه، على الأقل لأن النسيان يتيح للإنسان الاتصال مباشرة بموضوعه من دون حقائق زائفة أو أوهام مضللة أو ثقل ثقافي لا يستمد شرعيته من قوله حقيقة ما، بقدر ما يستمدها من إرادة القوة كما يقول نيتشه. في البحث عن الذاكرة والنسيان »أن تنسى، مهمة صعبة الإتقان« (ص 5)، بهذه العبارة تستهل رواية «سرير الأسرار». الباحث عن النسيان فتاة صغيرة على لسانها يجري السارد أحداث النص. صحيح أن النسيان مهمة صعبة الإتقان، لكن الغريب أن الإنسان سمي كذلك لنسيانه، يصبح النسيان فعلا وجوديا بهذا المعنى. هل لأن النسيان يخلص الإنسان من الوهم؟ قد يكون كذلك، خصوصا وأن الوهم في الرواية ليس شيئا آخر سوى تلك الخطيئة التي ورثتها هذه البنت من أبويها اللذين أنجباها في إطار علاقة غير شرعية، لتتلقفها في النهاية «مما زاهية» التي تدير دارا للدعارة في أحد أحياء تطوان. النسيان في الرواية محاولة لمحو الخطيئة وتجاوزها، وإعادة اكتشاف الذات من دون هذا الثقل الثقافي الذي اغتال براءة الطفلة، وجعل الأطفال الآخرين يحجمون عن اللعب معها، »لكنه صعب أن يغتال فيك الفرح وأنت طفلة« (ص7). إن الطفولة مرحلة لم تثقلها الذاكرة بأوجاعها، تكون فيها الحياة قريبة من الفطرة، وقريبة من تجربة العيش الأصيلة التي تمارس فيه الذات وجودها على النحو الذي تريد، هي مرحلة يحضر فيها الفطري الأصيل، لكن سرعان ما يأتي الثقافي الدخيل ليملي شروطه وأحكامه، فيقع التحول الكبير. والتحول الكبير في النص » بدأ يوم نهر ابن جيراننا يوسف أخته سعيدة مانعا عنها اللعب معي. لا تلعبي معها، إنها بنت عاهرة« (ص7). إنه الاكتشاف المهول الذي يدفع الذات إلى معرفة حقيقة وجودها الثقافي المدنس بالخطيئة الموروثة، بعدما كانت تعي فقط حقيقة وجودها الفطري الذي تختصره كلمة الطفولة، وتصفه كلمة البراءة. الانتقال من الفطري إلى الثقافي يعني الانتقال من النسيان إلى الذاكرة، يعني الانتقال من تجربة وجودية أصيلة تنعم باليقين المشرق إلى تجربة وجودية جديدة بدأت تخيم عليها ظلال من الشكوك الملونة بعتمة الليل. النسيان في «سرير الأسرار» وعلى عكس ما يتبادر إلى الذهن، يعني التجلي والكشف، أما الذاكرة فهي الشك والتيه. سؤال الذاكرة والنسيان سؤال روائي بامتياز، لم لا والسرد هو ترميم الغياب الذي يلف مخزون الذاكرة كما يعرفه عبد الرحيم جيران (في النظرية السردية، رواية الحي اللاتيني، مقاربة جديدة، أفريقيا الشرق، 2006، الدارالبيضاء). هذا السؤال ليس جديدا على الرواية المغربية، تحضر في هذا السياق كتابات الروائي المغربي محمد برادة، فلها ولع خاص بهذا الموضوع. العودة إلى الذاكرة عند محمد برادة تتحقق بنوع من الحنين والشوق اللذين يخفيان حبا جارفا للماضي ولزمن الطفولة. هناك نوع من الرومانسية في أثناء استعادة الذاكرة عند محمد برادة لأنها تعني عنده فرصة جديدة لفهم ما كان بعد أن ولى وزال. الأمر يختلف في «سرير الأسرار « حيث الذاكرة مملوءة بعناء الخطيئة، واستعادة الطفولة تأتي بإيقاع من الوجع الذي لا تمحوه سوى بعض الصور الشحيحة للحظات فرح مسروقة من أفراح الآخرين، أو لحظات تعيش فيها الذات طفولتها بتجرد مطلق وبانفصال تام عن المجتمع. »وحدها الأشياء التي لا تفتأ تؤلمنا تبقى في الذاكرة« كما يقول نيتشه (جنيالوجيا الأخلاق، فريديريك نيتشه، ترجمة وتقديم محمد الناجي، أفريقيا الشرق، 2006، الدارالبيضاء، ص 52). إنها ذاكرة مبتلاة بالعناء أحرى أن تنسى من أن تستعاد وتسترجع. صور لذاكرة معذبة استرجاع الذاكرة يتحقق في النص من خلال استعادة الصور. لذلك جاءت الرواية عبارة عن مقاطع تصويرية هي أقرب ما تكون إلى حكايات يمكن أن تقرأ منفصلة. لكن هناك خيطا رفيعا يربط بين هذه الصور. »صور ضبابية تنتشر مشتتة في ذاكرتي. يقترب مني ذاك الشتات بحدة يلفني« (ص5). وذاك الخيط الرفيع الذي يربط بين صور النص ويجعلها قابلة للتعقل والفهم هي الحبكة السردية التي استطاع السارد من خلالها أن يؤلف بين ذاكرتين معذبتين؛ ذاكرة الأنثى/الطفلة وذاكرة المكان/تطوان. جميع الصور التي رسمتها حكايا النص تحضر فيها هاتان الذاكرتان في تماه تام يعكس تجذر المكان في خلق كل ذاكرة إنسانية، وأن صورة المكان ليست شيئا آخر غير تجليات هذا الأخير في الوعي. الصورة في النهاية هي تجلي الموضوع في الوعي. والصورة، كما تجلت في وعي الطفلة، وكما رسمتها الحكاية في النص، قائمة على الإحساس بوجود شيء ضائع ينبغي البحث عنه في حيز ما. لكن هذا البحث يصطدم بسواد الظلام والعتمة اللذين يغشيان كل شيء. إنها صورة ممزقة بين الإحساس بالألفة داخل المكان بوصفه مربع الطفولة وحافظ أسرارها، والإحساس بالغربة ضمن فضاءاته المثقلة بالجراح والألم والأسئلة المقلقة. »تعود بي ذاكرتي إلى دار طفولتي الكبيرة. يرتسم لي نفق مضيء أتسلل منه إلى تفاصيل وبدايات زهو أنوثتي. يدفعني إلى تذكر صباي. صبا، بقدر ما كان فضاء ممتعا لسعادة طفلة بريئة، قدر ما كان مرتع تساؤلات مثيرة« (ص85). عندما تبحث الأنثى عن صورة المكان في الذاكرة تتبادر إلى الذهن أطياف صورة الطفولة، خليط من حالات الفرح والقلق، يتراءى من بعيد جلال المكان بعبقه وسحره، لكنه مدثر أيضا بالمعاناة التي كابدتها الذات في مواجهة مصيرها، والتي ورثت خطيئة لم ترتكبها، فجعلت طفولتها تصطدم بعادات المكان وتقاليده. لاحظت الذات تناقض صورة المكان في وعي الأنثى وفي وجوده الخاص نفسه، »تداخل أبنيتكم، تشابكها ببعضها، أقواسها المتعددة، دروبها الضيقة، سمك جدرانها، شبابيكها التي لا تطل إلا على الداخل، الأسقف العارية لفناءاتها، والتي تجعل ساكنيها لا يرون إلا السماء...ما هو إلا معمار خططه رجالكم من أجل المرأة، خوفا عليها من أعين المتلصصين ورغبة في الاحتفاظ بها لؤلؤة مصونة، وما ذلك إلا تقدير للمرأة عندكم وصون لكرامتها« ص (137). هكذا قدر للمكان أن يكون، كتب له أن يكون حارس الأنثى وضامن طهارتها، لكن شتان بين الحلم والواقع، المكان في الرواية أصبح بمثابة المتربص الذي ينصب أفخاخه للنيل منها، ولنا في «الدار الكبيرة» مثال على ذلك. بل قد يتحول المكان إلى سجن للأنثى نفسها، »وأي تكريم لامرأة مسجونة؟كأنك تكرم عصفورة بوضعها في قفص من فضة« (ص 137). تعكس الرواية بحذق كبير الصورة المشتركة للطفولة والمكان، والقدَر الذي يؤلف بينها. الأصل في المكان أن يكون ملاذا للحياة، وعونا على نبلها، كذلك الطفولة هي المرحلة الأصيلة في حياة الإنسان حيث يعيش طهر الحياة ونبلها. لكن الطفولة في سرير الأسرار اغتصبتها خطيئة لم تقترفها الذات، وكذلك المكان أفرغ من نبله، وقدر له أن يؤدي وظيفة عكسية لما خلق له. كل من المكان والطفولة تحول إلى نوع من السجن للذات، بعدما كان الجنة المنشودة التي تبحث عنها الذات لإعادة ترميم الذاكرة والتخلص من الذاكرة المعذبة من أجل الوصول في النهاية إلى ذاكرة عادلة بتعبير بول ريكور (الذاكرة، التاريخ، النسيان، ترجمة وتعليق وتقديم جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد، ط1، 2009، طرابلس، ليبيا)..لكن الحلم ضاع.. عن الذنب و ضياع الغفران بدأت الرواية على إيقاعات الخسارة وانتهت على إيقاعاتها أيضا، وكأن قدر الأنثى أن تحمل عقدة الذنب إلى الأبد. بدأت الرواية بالبحث عن النسيان لعله يساعد في اكتشاف الأنثى ذاتها اكتشافا مباشرا لا وجود فيه لتوسطات الأوهام والحقائق الزائفة، لكنها لم تفلح، لأن الذاكرة أقوى من النسيان بالنسبة إلى الذوات المعذبة. بحثت الأنثى عن ذاكرة عادلة من خلال ترميم صور التماهي بين المكان والطفولة، لتكتشف القدر المشترك بينهما وفجيعتهما بعد أن سقط كلاهما في براثن ذنب لم يقترفه أي منهما. كانت الأنثى تبحث عن بصيص من نور يدفعها إلى تحقيق الغفران والظفر بصفاء النفس وطهرها، وعوض أن تحقق الغفران الذي ينبع من أهمية النسيان وإمكانيته، لا تختتم الرواية إلا بذلك الإحساس الأزلي بالذنب. وهي هنا تعيد الذنب الأول الموغل في القدم الذي تمثله مسؤولية الأنثى/حواء في إغواء الرجل/آدم ودفعه إلى إتيان سلوك كان سببا في الخروج من الجنة. تأتي هذه النهاية عندما تسببت الغيرة التي أصابت قلب «علي» في دخوله معركة خاسرة فقد على إثرها عينه اليسرى وجمال وجهه، ما دفعه إلى ترك حقوله/جنته التي بذل أيامه في سبيل استصلاحها، وهاجر إلى البحر ليصبح حارسا للمنار الذي يهدي السفن إلى بر الأمان. هي نفسها عقدة الذنب السرمدي تظل لصيقة بالمرأة وهذا قدرها. هي كانت تبحث عن النسيان لعلها تسامح من قذفها إلى هذا العالم حاملة خطيئة لم ترتكبها، ابنة غير شرعية لعلاقة انساقت وراء الطبيعي في إلحاحه ولذته متناسية الثقافي الحاكم الناهي بأمره. لقد حملت الذات/الأنثى نفسها مسؤولية ما حدث رغم أن لا ذنب لها في ذلك، وكأن المرأة هي صانعة خطيئتها الخاصة ومسوغة عقدة الذنب التي تحرص على أن تعيد إنتاجها. في النهاية خاطبت الفتاة «عليا» قائلة: »ارفع رأسك عاليا إلى السماء، وجل بتلك العين الوحيدة الباقية حول ما هو مترام أمامك، لتتفتح لك البصيرة فتعانق وجدانك في روق، ولينقشع لي ولك الطريق في ليالي حيّنا البهيمة« (ص 222). عادت الحاجة إلى البحث عن ذاك الشيء الضائع من جديد، بنور البصيرة هذه المرة، وليس بنور الذاكرة أو النسيان، لكن سديم ليالي المكان لم ينقشع بعد...