البعض يريد أن يجعل من نقطة العتبة في الانتخابات المقبلة تتحول إلى عقبة في طريقها، وهنا يلتقي النقيضان..فمن جهة هناك من يحاول رفع العتبة إلى نسب غير مقبولة ديمقراطيا، ومن جهة أخرى هناك من يطالب بتخفيضها إلى الحد الذي لا يعود لها تأثير، بل البعض يطالب صراحة بإلغاء العتبة بصفة كاملة..هذا النقاش تخوضه الأحزاب مرفوقة بنعوت الكبيرة والصغيرة، حيث تميل الأحزاب الكبيرة بصورة طبيعية للرفع من العتبة، بينما تميل الأحزاب الصغرى إلى تخفيضها ما أمكن أو إلغائها... العتبة ليست بدعة مغربية، بل هي جزء لا يتجزأ من المنظومة الانتخابية الداخلية لعدد من بلدان العالم، وهي تبدأ ب 2 % وتبلغ 10 % في التجربة التركية كأعلى نسبة بالنسبة للعتبة في الدول الديمقراطية، لكن في المتوسط فإن نسبة 5% هي المعدل الموجود في أغلب البلدان الديمقراطية ..العتبة في الأصل هي لترشيد العمل التشريعي ولفسح إمكانية لتشكيل حكومات ومعارضات منسجمة، وبكل تأكيد فإن استقرار الحكومات لا يتحقق سوى بوجود أحزاب قليلة في تركيبتها، وعلى العكس من ذلك فإن غياب العتبة المترافق مع مرونة شديدة في تأسيس الأحزاب، يقود بشكل مباشر إلى بلقنة المؤسسات التشريعية مما يصعب إلى درجة الاستحالة تشكيل حكومات منسجمة، وغالبا ما يؤثر هذا الوضع على الاستقرار العام للدولة ووضوح سياساتها سواء بالنسبة للداخل أو الخارج. اليوم في المغرب هناك من يحاول نسف مبدأ العتبة بالقول أن منطق العتبة يتناقض مع الديمقراطية وذلك دون أن يكلف نفسه عناء الكشف عن موضع هذا التناقض، بل البعض يقول بأن الهدف هو القضاء على الأحزاب الصغرى...الأمر بكل تأكيد يحتاج إلى توضيح، فوجود تعددية حزبية لا يعني بالضرورة وجود أحزاب بكل معنى الكلمة كما هي موجودة في الأنظمة المقارنة، بل نحن في غالبية الحالات أمام أحزاب/أشخاص، أسسوا أحزابهم في سياقات شخصية تتعلق بطموحات سياسية غير محققة في ظل أحزاب قائمة الذات من الأحزاب التي تصنف كبرى، أو أحزاب أشبه بجمعيات ونوادي للتفكير تأسست بناء على تضخم كبير على مستوى تحليل وتشخيص الواقع السياسي لكن مع عجز مزمن على العمل داخل هذا الواقع واكتساب امتدادات شعبية داخله، وهذه حالة تنطبق على الأحزاب اليسارية الصغرى، وهناك فئة ثالثة من الأحزاب الصغرى هي باختصار «بريستيج» لبعض الأثرياء ورجال الأعمال إكتشفوا داخلهم فجأة رغبة في العمل السياسي ودون مقدمات ودون رغبة في إنتظار رضى الأحزاب الكبرى حيث راهن هؤلاء على إمكانياتهم المالية الشخصية، وقد عرف المغرب هذه الظاهرة خاصة في الانتخابات التشريعية لسنة 2002...إجمالا يمكن القول بأن هذه الأحزاب فشلت فشلا ذريعا في التموقع داخل الخريطة الانتخابية، وتعي جيدا أن رفع العتبة إلى نسب كبيرة سيحكم عليها بالإعدام السياسي، وسيحرم بعض رؤسائها من حضور إجتماعات الداخلية وبعض الولائم الرسمية... نعم الأمر بهذه الصورة الكاريكاتورية وأكثر، فوضعية حزب ما كحزب صغير لا ترتبط بموقعه في المعارضة أو الأغلبية، فنحن نجد ومنذ زمان أحزابا كبرى في المعارضة ونفس الشيء في الأغلبية الحكومية، لذا فإنه لا يمكن أن نخفي الفشل الشخصي بشعارات غير قابلة للتصديق وتتسم بانعدام الجدية، المغرب اليوم بحاجة إلى استقرار كبير وانسجام بين تركيبتي المعارضة والأغلبية، فلا يمكن تصور البرلمان المغربي يضم 36 حزبا.. وهذا الأمر غير موجود في أكبر الديمقراطيات الغربية، لهذا يجب الكف عن التوظيف السياسوي السخيف لموضوع العتبة وأعتقد أن ما هو مطروح اليوم في مشروع القانون التنظيمي لمجلس النواب قد يكون معقولا إذا تم توحيد العتبة بين اللائحة الوطنية واللوائح المحلية في 6 %، على اعتبار أن التمثيلية في البرلمان هي تمثيلية للأمة ككل وليس لمدينة أو إقليم، وبالتالي فالانتخابات التشريعية كما في جميع دول العالم هي انتخابات سياسية بامتياز وهي فرصة لتقييم برامج الأحزاب السياسية على المستوى الوطني وليس المحلي، وبالتالي فإنه يجب قياس شعبية ومصداقية كل حزب على المستوى الوطني، ولعل نظام الاقتراع المزدوج الذي سيكرسه المغرب والمتمثل في اللائحة الوطنية من جهة واللوائح المحلية من جهة أخرى، يمنحنا من خلال العتبة فرصة لقياس هذه الشعبية والمصداقية.