عندما يحتويك عالم الدنمرك لأول مرة، تظهر أمام عينيك صورة لمجتمع وكأنه يعيش جنته، حياة هادئة مطمئنة، نظام وتناسق بديع بين الطبيعة ويد الإنسان، شوارع تنعم بالراحة في أغلب الأوقات، وجوه صبوحة لا لجمالها، وإنما لما يفعله أحيانا سحر البياض في كثير من النفوس حتى غدا عند البعض سببا لعنصرية فظة من بيض وسود على السواء. وما أن ترتاد مرفقا من المرافق العمومية أو الخاصة حتى تشدك بساطة المحيط مع نظافة وأناقة مذهلة، ألف بينها عقل متمكن مما يفعل، ويد طيعة تحول الموجود تحتها إلى صور رائعة الجمال، إذ لا مكان للمبالغات في مظهر أو ملبس أو مأكل، وإنما للذوق وجلب العين والإغراء والاستقطاب. وهكذا تنتابك راحة شاملة وأنت تقضي مآربك، فالكل مستعد لمساعدتك بل ونصحك، وقد علت الوجوه ابتسامة الرضا والترحاب، إضافة لما تجده من يسر التنقل والبحث عن المبتغى. تأخذك الدهشة والإعجاب وأنت تزور المتاحف المتعددة والمتناثرة عبر المدينة، بل القطر كله، مما احتوته من كنوز ترجع لعقود مضت، ومن آثار تنم عن حضارات عاشتها هذه الأمة، ونضال مستميت من أجل البقاء. يشد حفيظتك النظام الاجتماعي، فهو نظام تكافلي تام، تقوم الدولة بالعناية بالمواطن وبتقديم كل الخدمات منذ أن يُخلق علقة في بطن أمه، إلى أن يمسي شيخا ثم يغادر هذه الحياة الفانية. كل المجتمع يمول هذا النظام باهظ التكاليف من خلال ضرائب تصاعدية بحسب مداخيل كل فرد والتي أصبحت تشكل عبئا على الطبقة ذات الدخل المرتفع. تفاجأ أيضا من التنظيم الإداري الجاري به العمل. فكل بلدية إلا وهي مسؤولة مسؤولية كاملة عن المواطنين الذين يسكنون ضمن حدودها الجغرافية. فهي تضمن لهم كل مرافق الحياة، ولا يسمح لأحد أن يستفيد من أي من الخدمات المقدمة من بلدية أخرى، بل حتى الانتقال للسكن في حي يقع ضمن بلدية أخرى غير مسموح به، إلا إذا أثبت أنه انتقل للعمل ضمن حدود تلك البلدية. كل هذا جميل ورائع، إلا أن خلف هذه المميزات مجتمع غريب النظريات والمسلمات والبديهيات؛ عالم يقطع الصلات بين أجياله، فكل يغني على ليلاه، وليس هناك من رباط قوي يجمع بينها بدعوى الحرية واكتساب الشخص بذاته الخبرة من الحياة والاحتكاك بالمشاكل، فهم يرفضون أي تدخل وتحت أي مظلة في تصرفات الفرد، واكتسبت هذه الحرية الشخصية قدسية يحرم المساس بها من قريب أو بعيد، بل ويعاقب القانون كل من سولت له نفسه العبث بها أو التطفل عليها. وعلى هذا الأساس تتعامل المدارس مع أولياء التلاميذ، وعلى هذا الأساس يتعامل الآباء مع الأبناء عندما يبلغون السادسة عشرة من العمر، ولا يبقى للعجائز سوى الملاجئ لقضاء بقية العمر الذي أصبح مديدا نتيجة الرقي الاجتماعي، مما حجب عن هذا المجتمع عواطف نبيلة مرهفة تواكب حياته اليومية، والتي أضحت عبارة عن بحث مستمر للحصول على المال والتكيف مع متطلبات تتعذر وتتمنع بفعل التطور المعقد إن صح التعبير. وهكذا فلا تستغرب عندما تصادف مجموعة من الشباب من فتيان وفتيات وهم شبه عُراة، أو لونوا شعرهم بألوان الملابس من برتقالي وأزرق وأخضر وهلم جرا، أو وضعوا أقراطا بالشفة والأنف والسرة، أما الأذن فحدث ولا حرج. كما أنك لا تستغرب عندما يطرق أذنيك حديث عن الزواج وأنه أصبح آخر ما يفكر فيه الشباب؛ فالعلاقة بين الجنسين لا تخدش حياء ولا يتبعها لوم أو خوف من فضيحة، حتى وإن أثمرت ذرية، والقانون يضمن للجميع حقوقه واختياراته الشخصية، ما دام المعني بالأمر راضيا عما يفعل، مقتنعا باختياره، وبالتالي فلن يزعجه أحد بتعليق أو نصح أو إرشاد. ثم إنك لتشعر بالأسى والحزن عندما تعلم بأن الدانمركي قد يتوجه طواعية لدور العجزة قبل أن يحمله أبناؤه إليها، لأن دوره في الأسرة قد انتهى، وأما بقاؤه بالبيت فعبء في عرف الأبناء . كما أنك لتشعر بالأسى والحزن عندما تعرف أن نسبة لا بأس بها من شباب البلاد وشاباتها محبطو الهمة، تائهون في دوامة الحياة، يتعاطون للمشروبات الكحولية الرديئة والرخيصة، مدمنون على كل أنواع المخدرات، ونسبة إقدامهم على الانتحار في تزايد مستمر ( أعلى نسبة انتحار في العالم توجد في الدول الاسكندينافية، ومن بينها الدانمرك طبعا ). في الحقيقة أتساءل مع كثيرين ممن يشاطرونني الرأي عن الاسم الذي يليق بهذا النموذج من الحياة، ففيه إقدام وتهور، وفيه ديمقراطية ودكتاتورية، وفيه عصامية وتفسخ، ومواقف دون حصر تثير الاهتمام وتحتاج لتحليل وإقناع. ولعل هذا ما أوقع بكثير من أفراد الجاليات المهاجرة لهذا البلد في متاهات الضياع والتفسخ أو الانزواء، وأقلق فئات من المواطنين والمستوطنين على السواء.