بدأت القصة في إسرائيل مساء يوم 11 أبريل 1971 . ففي ذلك اليوم، وفي ساعات المساء، حطّت في مطار اللد، طائرة فرنسية تابعة لشركة «اير فرانس». فنزلت منها نادية برادلي 26 عاما التي تحمل جواز سفر فرنسيا مزورا باسم «هيلين مارتين» برفقة شقيقتها مرلين، التي تصغرها بخمس سنوات. تقول نادية: «عندما نزلت من الطائرة، شعرت بيدٍ تمتد إلى كتفي، وإذا برجل طويل القامة يقف إلى جانبي، قائلا لي بهدوء: «الآن أنت ستأتين معنا». ولم أكد أكلّم شقيقتي وأقول لها «لقد انكشفنا» حتى انتهى كل شيء. وفجأة شعرت براحة كبيرة، وكأنني سررت، لأنهم ألقوا القبض علي. ومن ثم أخذوني للتحقيق، حيث كانوا «مؤدبين معي ولطفاء». لقد عثر في أمتعة نادية وشقيقتها، على مئات الغرامات من بودرة متفجرات شديدة الانفجار، وبطاريات لأجهزة التفجير، كانت مخبأة داخل شهادات معدّة بصورة جيدة، وداخل أكعاب أحذية، وضمن مساحيق تجميل. كما أن ملابسهما كانت تفضح برائحة المتفجرات التي كانت مخبأة داخل «صداري» وحواشي فساتين وداخل طيّات تنانير ومعاطف. وقد أُعدت كل هذه المتفجرات ليتم تفجيرها في غرف داخل تسعة فنادق كبيرة في القدس، تل أبيب وحيفا. لقد تعاونت نادية مع محققيها برغبتها، ودون أي ضغط، وهي تقول: «لم يعذبوني، ولم يهددوني، ولم يخدروني»، ومنعت بذلك وقوع كارثة. وقد سلمت، على الفور، رفاقها في الخلية، وأدلت بمعلومات مفصلة عن الشبكة المسلحة. ورفاقها في الخلية التي أطلق عليها فيما بعد إسم «كوماندو الفصح» هم: أفلين برغه، التي وصلت إلى إسرائيل في اليوم الثاني من اعتقال نادية، وأوديت وبيير بوخهلتر، الطاعنان في السن واللذان كانا يقيمان في إسرائيل. وتحدثت نادية عن مرسليها في باريس، وهم من منظمة «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» التي يتزعمها الدكتور جورج حبش؛ وهما محمد بودَيَّة المخرج المسرحي، ومدير المسرح هناك، والمسؤول المباشر عن إرسالها إلى إسرائيل محمد بلمنصور، والذي يحمل الاسم السري «مهدي». كذلك أدلت بمعلومات عن رفاق ومجندين آخرين في المنظمة في كل من باريس والمغرب. ويذكر أن محمد بوديّة قتل بعد ذلك بسنة واحدة، في باريس، لدى تفجير سيارته. ولدت نادية عام 1945، وهي تنتمي إلى أسرة عريقة وغنية ومعروفة في كزبلانكا في المغرب. والدها عربي مسلم، وثري، يستقر قليلا في بيته، بسبب أعماله الواسعة. أما أمها فهي من أصل إسباني، كاثوليكية، عمدت بناتها للمسيحية، ومنحتهن ثقافة فرنسية. وقد سبب لها أصلها المختلط «مشاكل» كثيرة، فقد عانت ورفضت من قبل الفرنسيين والعرب على السواء. وكانت صديقتها الوحيدة في طفولتها يهودية من أصل بولوني. في سن الثامنة عشرة، أرسلت إلى باريس، حيث درست الفلسفة والآداب في جامعة السوربون. كانت معزولة في باريس، وبعد سنة من دراستها هناك، توفي والدها، وتشك أسرتها بأنه قتل. ومع وفاة والدها، وبحكم أن القوانين السائدة في المغرب، المتعلقة بورثة الزوجين وأنجالهم غير المسلمين، فقد صودرت أملاك الأسرة، وعادت نادية إلى المغرب. وقد ساعد صديق والدها الحميم «رضا غديرة» ، الذي كان وزيرا للداخلية في المغرب، ساعد الأسرة في ضائقتها وتحول إلي محب أول لنادية. وقام باستئجار بيت جميل لها على ساحل البحر في كازابلانكا. وكان هذا الوزير يتردد على بيت الأسرة باستمرار. وتقول نادية، إن هذا البيت الجميل «كان بمثابة قفص من ذهب» وتضيف قائلة: «إن (غديرة) ، لم يدعها تتحرك بدونه، فقد سجنني في حبه. وقد تمزقتُ بين مشاعر الشكر والخوف من الانعزال والنقص». ولم تجرؤ على الانفصال عنه، إلا بعد عدة سنوات فقط. نادية.. والمقاومة في صيف عام 1970، عادت نادية إلى باريس، لمواصلة دراستها، إلا أن غديرة، عشيقها ، واصل اقتفاء أثرها. وقد حاولت أن تنتحر في خضم العزلة واليأس، حيث تناولت كمية من أقراص منوّمة . ولم تنج من الموت إلا بفضل طالب لبناني، كان يسكن في نفس البناء، جاء لزيارتها صدفة، فأنقذ حياتها. وقد نشأت بينهما صداقة، حيث اصطحبها ذات يوم الى منزل محمد بوديّة ، وهو مدير مسرح مهم في باريس، وشخصية مركزية في حياة البوهيميا (الحياة التي لا تتقيد بالعادات والتقاليد). ومع الأيام اتضح أنه يرأس المكتب الأوروبي «للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». غير أن نادية لم تكن تعرف ذلك بعد. وقد استمتعت الشابة الحسناء الذكية، باللقاءات الجماعية في منزله. كما أن جورج موستاكي، عشيق نادية الجديد، زارها هناك. كانت الأحاديث في هذه اللقاءات تنصب حول ما يتعرض له الفدائيون من مشاكل في الوطن العربي. وكان من بين جماعة بوديّة، شخص يدعى مهدي، الذي أصبح صديقا لنادية. وأخذ يحدثها أثناء لقاءاتهما في المقاهي الواقعي في الحي اللاتيني في باريس، عن مصير الفلسطينيين المر. وكيف يقوم الإسرائيليون في المناطق المحتلة باغتصاب النساء وذبح الأطفال». وعندما طلب منها أن تساعد في «شيء ما إنساني، يحدث ضجة دون أن يكون مرتبطا بسفك دماء» وافقت على ذلك، من خلال رغبتها في أن تشعر بأنها «رغم أصلها المختلط، وعدم شعورها بالارتياح في أي مكان » تساوي شيئا ما في هذا العالم وأن تساهم.. في الحلقة الرابعة: من دراسة الفلسفة في السربون إلى العمل الفدائي في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين