مقلوب يومي مبيانك منحناه كلما علا يتناوبه الانكسار، ومرمى نظرك إلى الأفق، إنك تفترض دوما أن هناك تلتقي كل المتوازيات. يطغى على روعك أن هذا الخط هو للقاء والتلاشي في آن. المستوى غير محدود أبدا في دروب فضائك، وأنت تمر صباحا مستقيما بين نقطتين وحيدتين، في الغدو كما في الرواح. نقطتاك لا تعينان سوى مستقيم واحد بين المستقيمات بأسرها هو أنت. تتلمس أطرافك، وتتحسس أدواتك، وترنو لأفقك الطافي بالأشكال والأجسام، دون أن تأبه للكلام المشحون من حولك. تهفو، وتهفو فقط إلى أين تنشد مسلماتك. ولو أنها مرستك كثيرا؛ لا زلت تحاورها: أحلم هي أم حقيقة؟ منطق أم رياضة يومية؟. ها أنت الآن في المفترق عند نقط الانحراف. قلبك معلق، والحق لا يؤخذ، والواجب لا يتوقف. في المفترق تراوح بين الخطوط كلها، إلا أنك تكتفي بقطعتك محددة الطرفين. وشغلك الشاغل أن تبحث عن نقطة ارتكازها لتعميد توازنك كل يوم. أنت من لا ينشد غير هذا التوازن، به قطعا تستطيع أن تفكك العمل اليومي إلى عوامله الأولية، فتوحد مقاماتك، وتغير ترتيب حدودك، وتسجل مقلوبك اليومي بسطه على مقامه. هذا السالب، وهذا الموجب. من وضع هذه الثنائية أصلا؟!. لماذا شغلوا الناس منذ البدء بهذه الثنائيات؟. تسأل، وتواصل. تواصل لعبة الإشارات.... ثنائيات ثنائيات. فكيف تقبل أن أي سالبين في هذا الكون يولدان الموجب؟ !. إحساسك بالوهن إذ ينتابك؛ تبحث له عن أساس قوة تتعبأ بها. مزيدا من الطاقة إذن، وتشرع تنشر علاماتك نشرا أمام الأعين الناهبة. تتولاها بالتعميل والتجميع إلى أن تحصل على متساويتك المقبولة، فتحس ببعض الأمان. وإذا هم أضافوا شيئا إلى طرفيها، ها أنت في معترك آخر. وهكذا دواليك. حيرة إثر أخرى، وقفزة تلو القفزة قد تنتهي بك طبعا إلى معادلة. كل يوم معادلة جديدة، فأين الحل؟. تنفس الصعداء. إنه عملك اليومي في مستودع الأسرار عن المجهول كما تقول. مجهول الماضي، ومجهول الآن، ومجهول الآتي الغامض. برهان رجعي لما تريد البحث عن القاسم المشترك كبيرا كان أم صغيرا مع مجموعاتك المعتادة الأصلية منها والفرعية؛ جدير بك للغاية أن تبسط أمامها مسلماتك تماما، ثم تسأل عن رموز الانتماء والتضمين. وفي نهاية المطاف تتمكن ببداهتك أن تمسك على الأقل بكائن واحد مشترك وحقيقي. تجادل في تفكيكه إلى أن تؤطره في قيمة نسبية معينة؛ تعيش في حالة اطمئنان إليها لفترة ما، غالبا ما تكون قصيرة. بعدها تختلي تتقصى حوامل القضايا إلى خط الأفق، فتقيم البرهان مركبا الواحد تلو الآخر: بما أن.... نعلم أن .... ولدينا .... وبالتالي ... إذن.... وبما أن أخرى .... فإنه خط أفقي عند انتهاء النظر؛ تتقاطع عنده حتما جميع الخطوط المتوازية على نقاط هي المسماة نقاط التلاشي. تقف مشدوها: مذهل. مذهل!. عقبه تصدر تلك الآااااه. آه فرحانة وأليمة معا. هكذا تسمع، وهي تصدر من أعماقك. بحثك ممتد لا يتوقف. صدقك تزعم أنه لا يتزعزع، كأي باحث لا يتردد في التقدم اطرادا بحكم حذر عقلاني حاد؛ اكتسبه من التدليل الذي لا يأتيه الباطل من يساره، ولا من يمينه. لكنك تتقطر حزنا لما تتذكر ما تعلمه جيدا. قناعتك أن السير في هذا الاتجاه لا متمم له، إذ هو بمحاذاة متاهات؛ سبلها شبه منحرفة، غير متوازية، ولا متساوية أيضا. فعند التوازي، أو التساوي يسهل التقدم، وتتيسر البرهنة. ومن أجل تلافي الضياع على تخوم ومنعطفات هذا التيه؛ غدوت تتفنن في المراوغة، وتحسن التخلص، حتى لا يبقى ميزانك خاسرا طول الوقت، رغم أن الربح والخسارة في هذا المضمار سيان حسب بعض الظرفاء من زملائك النافضين لأيديهم. من حرصك الشديد دحضت يقينك إلى أن أصبح نسبيا جدا جدا. لذلك عدت ترفض أن تقامر برهاناتك المتبقية. نقطة التلاشي لتفادي حيص بيص كما يقولون، تأتي عليك لحظات، تجلس للتأكد من سلامة طويتك، فتخلو لنفسك تحاسبها حدا بحد، أو على الأصح فأنت تحاججها في لماذا وكيف. يأخذك البرهان الرجعي مطولا. وعند الإشراف على إنهائه يتجلى لك أمر صاحبك في غاية الوضوح. فلو خلا لنفسه هو أيضا، لزحزح بالتدريج محور خيلائه حيث يدور مذ كان، ويتماثل كما أنه مجموعة النقط الوحيدة في هذا العالم ذات المركز الدائم، والشعاع الأطول، والقطر الذي تتطابق على ضفتيه كل أشكال الوجود. فعلا لو قوض مبيانه القطبي، لعاد معولا عليه في سرائها وضرائها، وأنقذ الوشائج التي أصبحت على شفا الحافة. فالفرصة متاحة أمام هذا القطب- وأمام أي قطب شبيه كما تسميه- ليستنبط شكلا لهمته، أو يتقوم في انبنائه على الأقل، كأن يصوغ المسافة الطبيعية بدون إفراط أو تفريط بالنسبة للآخرين، ويقايس خطه مضبوطا ليتقاطع وخطوطهم. فليجهد جهده في الأمر إن شاء. هذا هو القاسم المشترك الأكبر. أتيت على هذا الاستنتاج، ثم أخذت تضع في مستوى جديد نقطا متباعدة ومتقاربة. هي منطلقات نتجت عنها زوايا متفاوتة للكائنات. كائنات ملآنة كما يكون الامتلاء عند البعض، وقائمة بالنسبة للقيمين الدائمين، ومستقيمة للمتفانين، ومتساوية للعادلين، ومحدبة للمعقدين، ومنفرجة للطيبين الطيبين، ومتكاملة للمتعاونين، ومتحاذية للمتشاركين، ومنعدمة للفارغين، وغير مسماة للمغلوبين. بعد ذلك انبريت رفقتهم تستدل عن الأبعاد، فداهم الجميع مشكل واحد. هو مشكل القياس وطرق تحصيله. فلكل كوسه، وهناك من يحسب الملآن منعدما، والمنفرج محدبا، فهل هذا تضليل؟. قلت: لا، إنها دوامة معايير في حلقات. فالأزمة العظمى في هذا العالم الخاسر هي أزمة معايير حقيقة. أجل أزمة معايير، وهي في أسها أزمة صدق. كثيرون من يتفقون حول هذا، حتى من هم على طرفي نقيض. صرت إذن في منطقة الريبة مشوشا، فما عليك إلا أن تختار. وقد اخترت فعلا ما يناسبك، ما يناسب جوهرك فقط، حقلك الخصيب من فرضياتك في جل الأمور. إنه ما تشير إليه وأنت تشيد مركز ثقلك. منه طففت تصوب متجهاتك. أما هو فقد تركته يضع نعيم أشكاله فوق خط الأفق، أو عنده، أو تحته. وكعادتك حذرته من أن الفوق ليس سماء (بعض أصحاب الفوق بعد أن استراحوا كثيرا، هاهم يطالبون بصحوة الضمير)، والتحت ليس قبوا (بعض أصحاب التحت لا يطالبون إلا بحقوقهم)، والعند أو البين بين ليست برزخا. بل هي وضعيات رأيته ما من مرة يقيم لها احتمالات، وينجزها بدوال متوالية؛ خطوطها متوازية لا تتعامد البتة، وبذلك تتجه حتما بلا شك إلى نقطة واحدة، هي نقطة التلاشي. برهان مضاد لم تصدق يوما ذاك الذي قال أن الماشي عكس التيار يصل. هذا ما أضحى من الأوليات لديك. إنه يصل إلى النقطة الوحيدة التي أخذت منك عمرا طويلا في البرهنة. وقليل من يدرك أنها مثل خلية تنمو بنمو الكائنات، لتعلن عن تلاشيها في وقت مناسب. ومن افترض عكس القضية، فليأخذ وقته في تحرير البرهان بالخلف. حسمت الأمر، إذن فليأتوا ببرهانهم إن كانوا صادقين. ببداهتك تكتشف يوما بعد آخر أنه إلى الأحسن دوما مهمة المضي باتجاه الأفق. هذا مفروغ منه، ولو أنك سعيا لتحصيل المعلوم؛ ترتاد الكثير من المجهول، كما فعلت حين فرطت في كائنات لا يداخلك ريب في كونها من صلبك، واشتعل حنينك للعبتك المفضلة، فرحت بحبور تهندس الفراغ بإنشاءات لا متناهية في المستوى. وعند كل إنشاء تمني النفس بادخار المزيد من القوة اللازمة للقفز بحاملك إلى الأمام، كما كنت تلعب صغيرا بعود الريح. لقد كانت رمال المدى غير المنظور تهزم قوى الدفع، فتتعطل، وينكسر العود. أما الآن فمن باب تحصيل الحاصل، فإنك تنسق الوجوه، وتنشر أحرفها الجانبية بأعراضها وأطوالها، ثم تقابلها، وتناظرها، وهي تتناهى في الدقة إلى أن تعشي عينيك، ويغيب الأفق أمامهما. أشياؤك كلها غدت لتدوير أسطواني مزمن، وأقراصك انطبقت وهي تدور، وقد بدا لونها منفرا. إنه لون جيري مقيت- هكذا هجست. لما هدك التعب، وضجرت، باهيت الذات بما كسبت. وللتطمين كررت أن المشاء لا يتراجع، وغالبا ما تحمله الأضلع إلى ارتفاعات مطلوبة ينشئ عليها مركز تعامده، فيقع على مبتغاه. سكت. تنفست عميقا عميقا. وفجأة انتصبت واقفا، محاطا بأشعة حيوية نورتك، وبدأت كما لو لأول مرة؛ تصمم أشكالا جذابة في الفضاء المرئي، وقد انفتحت أساريرك، وأنت تحاججهم في إنجاز برهان المساء الأخير... فلا هم لك إطلاقا- بعدما سلف- خلا متعة واحدة؛ هي التوغل داخل الذات والوفاء دون تناقض لمنطق المسلمات والنتائج. هذه متعة وجودك، وما سواها ، فهو محض هباء. برهان المساء الأخير برهن مستدلا بالشواهد ومستعملا الموضوعات المناسبة : أن العلاقات البينية هي "مأرب لا حفاوة"، وأن "الأفقي هو نسيج وحده". ( حاشية : ورد في كتاب " تهذيب إصلاح المنطق " للخطيب التبريزي في باب ما يضم ويفتح من حروف مختلفة : "رجل أفقي : منسوب إلى الآفاق".