الأوزان:إن الشعر الحديث حاول التخلص من القافية؛ أي: حاول الشاعر كتابة الشعر المرسل. ويرى س. موريه أن أُولى تجارب هذا النوع من الشعر في العربية كان قبل بداية القرن العشرين، أي قبل أن تظهر تجارب توفيق البكري، والزهاوي، وعبدالرحمن شكري. فقد »قام رزق الله حسون (1825-1880) في ترجمته المنظومة للفصل الثامن(1) عشر من سِفْر أيوب في كتابه «الشعر الشعر» عام 1865«(2) وظهرت آثار هذا الإرسال في بعض النصوص، كما مر بنا، حيث تسربت إلى بعض الموشحات، والمسمطات، والمقطوعات أبيات ظلت قوافيها بلا صدى. لكن، لم نتحدث عن مشروع «أحمد زكي أبو شادي» في العروض. ذلك بأن الدكتور سيد البحراوي قد عالج الموضوع في كتابه «موسيقى الشعر عند شعراء أبولو» بتفصيل. والغريب، كما يقول الأستاذ أحمد المجاطي، أن أحدا لم يشر إلى مشروع أبي شادي »في المزج بين البحور في القصيدة الواحدة، مما كان يسميه في ذلك الوقت بالشعر الحر، كما لم يشيروا إلى ردود الفعل التي أثارها ذلك المشروع لدى شباب الشعراء، حيث أخذوا يكتبون على هذه القصائد قصائد أقرب ما تكون إلى الشعر الحديث، كما هو الشأن في هذا المقطع لخليل شيبوب في قصيدة الشراع: إِنَّهُ غَيْمَةٌ سَرَتْ فِي سَمَاءِ قَدْ صَفَتْ زُرْقَتُهَا لَكِنَّمَا هَذَا جَنَاحُ طَائِرِ (...)«(3). والحق أن ما ذكره المجاطي قاله أكثر الدارسين الذين كان همهم البحث عن أول من قال شعر التفعيلة. لكن ما يهمنا في هذا المبحث هو أن نقف عند بعض الظواهر الوزنية التي سيكون لها أثر على شعر التفعيلة. ظهر في وقت مبكر ما يسمى بمنهوك المتدارك، ومنهوك المتقارب. وهما وزنان سينتشران في القصيدة الحرة. ومن نماذج منهوك المتدارك، قول نعيمة التالي: سَقْفُ بَيْتِي حَدِيدْ فَاعْصِفِي يَا رِيَاحْ وَاسْبَحِي يَا غُيُومْ رُكْنُ بَيْتِي حَجَرْ وَانْتَحِبْ يَا شَجَرْ وَاهْطِلِي بِالْمَطَرْ(4) وقول خليل مطران: هَبَّ زَهْرُ الرَّبِيعْ فِي نِظَامٍ بَدِيعْ وَعَوَالِي الْغُصُونْ نَكَّسَتْ لِلْعُيُونْ نَضْرَ أَعْلاَمِهَا(5) وقول محمد العيد آل خليفة: خَاطِرٌ هَاجِسُ وَرُؤًى لَوْنُهَا وَمُنًى دُونَهَا مِنْ غَدٍ وَاجِسُ حَالِكٌ عَابِسُ مَهْمَهٌ طَامِسُ(6) فهذا الوزن الذي دشنه الوشاح الأنلدسي، تم إحياؤه، منذ سنوات العشرين من هذا القرن، وسيكثر في الأناشيد إلى جانب منهوك المتقارب(7). ولعل هذا الوزن محاكاة للوزن الذي ظُن أن البارودي قد اخترعه، وهو قوله: اِمْلَإ الْقَدَحْ وَاعْصِ مَنْ نَصَحْ(8) وكتب فيه شوقي قصيدة مطلعها: مَالَ وَاحْتَجَبْ وَادَّعَى الْغَضَبْ(9) وهو في الحق من أوزان الموشحات الأندلسية، لكنه لم يشع كما شاع منهوك المتدارك والمتقارب. ثم إن الوزن الشعبي الذي انتشر في الموشحات الأندلسية (مستفعلن فعْلن) سيُستثمر في الشعر الحديث، وخاصة في شعر الصيرفي، وعلال الفاسي، وعبدالكريم بن ثابت، وبنجلون، وفي شعر الزهاوي، وبدوي الجبل، وعلي محمود طه، والهمشري. وقبلهم، نظم عليه شوقي بعض مقطوعات «مجنون ليلى». هذا الوزن سيشيع كذلك في بعض القصائد الحرة. وثمة أوزان جديدة ظهرت في وقت مبكر ستحضر في القصيدة الحرة. من ذلك، وزن قول مطران التالي: يَا مُسْرِفاً فِي لَهْوِهِ هَلاّ احْتَشَمْتَ وَتَصَدّ مَاذَا يُفِيدُكَ الْغِنَى وَمُذْهَبًا فِي الْعَجَبْ قْتَ بِبَعْضِ الْكَسَبْ إِنْ قِيلَ مِثْرِيٌّ حَرَبْ(10) أهذا من الرجز؟ إنه بالنسبة للقصيدة الحرة من بحر السريع، كما تستعمله نازك، لا كما يستعمله أدونيس خاصة. كما سيتضح في الفصول المقبلة. ونود أن نقف عند هذا الحد، محيلين القارئ إلى كتاب «موسيقى الشعر عند شعراء أبوللو»، حيث أبرز صاحبه أن جل شعراء هذا التيار قد أكثروا من الخروقات العروضية لم نشر إليها في هذه الصفحات. ومن نتائج تعدد البحور في النص الواحد الذي دعا إليه أحمد زكي أبو شادي ما نجده عند علال الفاسي الذي نظم قصائد على روي واحد، لكن مع تعدد في الأضرب. من ذلك، قصيدته «لغز مشكل» التي كتبها سنة 1942م(11)، وهي من اثني عشر بيتا على الطويل، جمع فيها بين الطويل الأول والطويل الثالث. ولا نظن أن هذا دليل على أن الشاعر لا يعرف العروض، لأن الرجل من خريجي القرويين، والعَروض من مواد الدراسة بهذه الجامعة. لكنه ارتكب ما ارتكبه في مناخ شعري وصل من المشرق إلى المغرب، وهو مناخ يبيح مثل هذه الخروقات. لكن لماذا تفرد بهذا العمل علال الفاسي؟ لا نستطيع أن نجيب الآن عن هذا السؤال. وما قام به علال الفاسي يعد تمهيدا لما ستكون عليه القصيدة الحرة التي ستُبنى على تعدد الأضرب. وفي هذا المجال، نجد نصا طويلا لعلال الفاسي على شكل رباعيات عنوانه «تأملات»(12). جاء على الكامل الأحذ، لكنه يجمع في العروض بين فعِلن وفعْلن من غير نسق ثابت نحو قوله: حَلَقَاتُ هَذَا الدَّهْرِ تَرْتَبِطُ لاَ تَنْتَظِرْ فِي الْحَالِ تَبْدِيلاً منْ عَهْدِ حَوَّاءٍ وَآدَمَ لَمْ لَمَّا نَزَلْ نَرْجُو خَلاَصاً مِنْ وَالنَّاسُ مَحْزُونٌ وَمُغْتَبِطَ بِبَقَاءِ حَالِ الدَّهْرِ مُشْتَرِطُ نَسْلُكُ سَبِيلاً غَيْرَ مَا سَلَكَا عَهْدٍ بَرَاهُ الله مُرْتَبِكَا (...) بل بالغ في هذا العمل حين أدخل في العروض متفاعلن نحو: لاَ يَقْبَلُ الإِنْسَاُن تَفْكِيراً فَلِذَاكَ صَوَّرَ نَفْسَهُ فِي دِينِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي طَبْعِهِ مِنْهُ وَبَدَا بِعَقْدٍ آخِذٍ عَنْهُ وفي النص نفسه، جعل البيت خمس تفعيلات: وَتَشَاجُرُ الرَّبَّاتِ وَالأَرْبَابِ كَانَ لِعَهْدِهِ مَعْقُولاَ قَدْ تَرْفُضُ الأَفْكَارُ مَا قَدْ كَانَ يَظْهَرُ عِنْدَهَا مَقْتُولاَ وفي النص نفسه، قد يتفاوت طول بيتي الرباعية، نحو: وَالزَّهْرَةُ الْغَرَّاءُ قَدْ جَرَّتْ وَغُرُورُ مَنْ عَرَفَ الْحَقِيقَةَ قَدْ مِنْ سِحْرِ عَيْنَيْهَا أَدُونِيسَا أَوْدَى بِهِ حَتَّى غَدَا إِبْلِيسَا حيث إن البيت الثاني يزيد بمقطع طويل عن البيت الأول. وكل هذه الخروقات التي سجلناها على شعر علال الفاسي - وفي شعره خروقات أخرى- ستعم القصيدة الحرة. وهي خروقات هيأت الأذن العربية لتقبل الجديد على مستوى الأوزان. على أنه لا ينبغي أن ننسى دور الموشحات الأندلسية في هذا المجال. وعلى ذكر الخروقات- وتكاد تكون من خصائص الشعر المغربي منذ عهد الحماية- نلاحظ أن طي مستفعلن ذات الوتد المفروق أصبح جائزا عند بعض الشعراء المغاربة اقتداء بالوشاحين الأندلسيين. من ذلك، قول البلغيتي التالي: وَإِنْ عَمَرْتُ مَكَاناً وَالآنَ هَا أَنَا شَيْخٌ مِنَ الْعَذَارَى اللَّوَاتِي فَهْوَ مَعِي فِي الْمَكَانِ تَنْفُِر مِنِّي الْغَوَانِي كُنَّ كَحُورِ الْجِنَانِ(13) على أن البيت الأول يمكن أن يقرأ بتسكين الواو في الضمير (هو) من غير شدة على الواو. وفي هذه الحالة، يختفي الطي من البيت. أما البيتان الأخيران، فلا يمكن التخلص مما بهما من طي. ونفس الظاهرة، نجدها في بعض إنجازات الفيتوري(14). من كل ما تقدم نستنتج الملاحظات التالية: -إن الشعر الحديث عرف الشعر الحر، كما عرفه التراث الغربي، وأن أنماطا كثيرة من الشعر الذي أنجزه شعراء الإحياء والشعراء الرومانسيون هي الخطوات الأولى التي مهدت للقصيدة الحرة، حيث إن هذا الجيل خلص الموشح من صرامة قيوده، كما حرر المسمط أيضا من بنائه المحكم. -إن دراسة العروض تكشف حقيقةً تغيب عن كثير من الدارسين الذين درسوا الشعر العربي الحديث من حيث لغته وأغراضه؛ إذ ساد أن ثمة شعراء تقليديين، وآخرين جددوا. لكن هذه الدراسة العروضية أثبتت عكس ما ذهبوا إليه: إن شعراء اعتُبِروا تقليديين هم في الحقيقة أكثر تجديدا؛ من ذلك أحمد شوقي والشعراء المغاربة كعلال الفاسي وشاعر الحمراء. في حين كان يُظن أن شاعرا كالعقاد، لابد أن يكون على رأس المجددين، لكن اتضح من خلال هذه الدراسة أنه على رأس المقلدين. فنحن نؤمن أن التجديد في العروض هو أساس أي تجديد يلحق النص الشعري. -إن الشعر المغربي سريع التأثر بالتحولات التي تطرأ على الشعر العربي. فقد مارس بعض شعرائه شعر التفعيلة مبكرا كعلال الفاسي، ومارسوا أشكالا جديدة، وارتكبوا خروقات عروضية لم يقف عندها مع الأسف المهتمون بالعروض من المشارقة. ويتجلى تجديدهم في الأشكال الشعرية الجديدة، وفي الأناشيد خاصة. فالنشيد من أهم الأشكال الشعرية الجديدة التي استفادت من الموشح خاصة، والمسمطات عامة. وقد مر بنا بعض نماذجها، لكن الملاحظ من خلال المتن المدروس أن النشيد بالمشرق العربي ظلت أوزانه منضبطة تستطيع الأذن المدربة التقاطه والتعرف عليه بسهولة. أما النشيد في إنجازات المغاربة، وخاصة علال الفاسي. ففيه المنضبط، وفيه الحر، وفيه - وهذا هو الأكثر- ما أوزانه معقدة يصعب التعرف عليها. مما يؤكد أن المغربي في أناشديه يسير في ركاب الموشحات الأندلسية من حيث التعامل مع الأوزان الغريبة، في حين إن المشرقي، في أناشيده، سار في ركاب الموشحات المنجزة بالمشرق في عصر «الانحطاط». -إن بعض الشعراء مالوا إلى الأنماط الجديدة الممهدة للقصيدة الحرة في فترة الصبا فقط، كبدوي الجبل. وآخرين مالوا إلى هذه الأنماط في مرحلة النضج كالجواهري. بينما صاحَبَ آخرون هذه الأنماط في كل مراحل تجاربهم الشعرية كعلال الفاسي.( يتبع) مراجع (1) حركات التجديد. ص. موريه. ص: 19. (2) ن.م. ص: 20. (3) البنية الإيقاعية الجديدة للشعر العربي. المعداوي. م. الوحدة ع82/83. ص: 75. (4) همس الجفون. ص: 73. (5) ديوان الخليل: 3/488. (6) ديوان محمد العيد. ص: 291. (7) انظر ديوان ناجي. ص: 317، والصيرفي. ص: 211 و33. والشابي. ص: 395. وعلال. 2/323. 1/210... (8) ديوان البارودي: 1/169. (9) الشوقيات: 2/13. (10) ديوانه: 1/186. (11) ن.م. 1/35. (12) ن.م. 2/110. (13) راح الأرواح. البلغيتي. ص: 158. (14) انظر قصائده التالية: الليل والحديقة المهجورة: 1/14. ?الأفعى: 1/131 ? الضحايا: 1/146 ? عندما يتكلم الشعب: 1/205. إلخ.