تهتم هذه الأطروحة بمؤلفات ونشاطات المؤلف الزعيم الوطني المغربي علال الفاسي (1910-1974) الذي حاول كغيره من المؤلفين المسلمين المعاصرين المنتشرين في العالم الإسلامي أن يجد حلولا إسلامية للمشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي واجهت المغاربة خلال القرن العشرين. فقد واظب على دراسة القراَن الكريم والسنة النبوية وأعمال ونشاطات المسلمين الأوائل من أجل بناء نموذج يلائم المجتمع المغربي الحديث. وعلى أية حال لم يرفض بالكلية الأفكار التقدمية المنبعثة من مجتمعات الغرب غير الإسلامي. عوضاً عن ذلك، بحث وأعاد تقييم مفاهيم معينة مثل الديمقراطية والاشتراكية والأفكار القومية مقارناً إياها مع الأفكار الإسلامية من أجل الحكم على مدى توافقها مع العقيدة الإسلامية.لا تكمن أهمية ترجمة أعمال الفاسي في أصالتها بقدر ما تشكل مثالا على توجه جديد من أجل إيجاد توافق بين الأفكار الغربية المعاصرة ومتطلبات المعتقدات الإسلامية. وقد مُنِعَ هذا النموذج من الإصلاح الإسلامي في العالم الإسلامي في بداية القرن الماضي، ولكن منذ ذلك الوقت أُفسِحَ المجال للأفكار العلمانية القومية والأفكار الأصولية الإسلامية. وقد أوضحت أفكار الفاسي الاختلافات ما بين هذا النوع من الإصلاح الإسلامي والتيارين الآخرين عن طريق التحليل و الوصف التفصيلي لأفكار وعقيدة الفاسي المصلح. الهدف المتوخى من هذه الأطروحة هو ملئ فراغ مهم في التاريخ الثقافي المغربي والمساعدة على وعي أفضل لمفهوم الإسلام الإصلاحي الحديث بشكل عام. شكر أود أن أشكر بإخلاص كبير مشرف الأطروحة الدكتور عيسى بولاتة الذي كانت نصائحه ونقده وصبره وتشجيعه ذات فائدة عظيمة. كما أرغب التعبير عن امتناني لمكتبة معهد الدراسات الإسلامية التي كان موظفوها متعاونين بتحديد المادة اللازمة لهذه الدراسة. كما أود أن أشكر هيئة مكتبة جامعة (برنستن) لمساعدتهم بتحديد معظم مصادر المادة الأولية المستخدمة في هذه الدراسة وتزويدي بتسهيلات الطباعة. أخيراً، أود أن أشكر السيدة برندا بوستانز والسيدة لينور هالبن لمهارتهما في تنقيح عدة مسودات من هذه الأطروحة. من شقاقهم الداخلي، ركّز الوطنيون نشاطهم خلال فترة الجبهة الشعبية وأصبحت المواجهات بين الوطنيين وقوات الحماية تزداد عنفاً بعد شجار في الخمسينات في أكتوبر 1937. وانتقل المقيم العام ليقطع دابر التيار الوطني، حيث تم اعتقال الفاسي وعمر بنعبد الجليل ومحمد مكوار ومحمد اليازيدي وتم غزو مدينة فاس القديمة من قبل القوات الفرنسية. وتم نفي الفاسي إلى الغابون طوال السنوات التسعة التالية.[21] شكلت تلك السنوات بالنسبة للفاسي فترة طويلة من الرؤية العميقة. أما بالنسبة للشعب المغربي والحركة الوطنية، فقد عرفت تلك الفترة ازديادا في السخط الشعبي تجاه إدارة الحماية. كان أثر سنوات النفي على الفاسي صعب التقدير. باستثناء بعض المحاولات الثانوية من قبل قوات فرنسا الحرة التابعة لديغول لتوظيفه من أجل قضيتهم، لم يكن لهذا الرجل النشط أية صلة خلال هذه الفترة بعالم السياسة. ومن الإنصاف افتراض أن سنوات المنفى قد حولت الفاسي من ناشط سياسي إلى مفكر فيلسوف. ولعل تكاثر الكتب والمقالات للفاسي بنهاية الأربعينيات والخمسينيات خير شاهد على هذا التحول. وضع اندلاع الحرب العالمية الثانية المغرب في مركز الاهتمام لسياسات القوى الدولية. واستقبلت هزيمة فرنسا بترحيب فاتر من قبل الجمهور المغربي. من ناحية أخرى، لم يكن التمييز الواضح بين الاشتراكية الوطنية ونظام فيشي- الألعوبة ليغيب عن اهتمامات الزعماء الوطنيين الباقين. في عام 1939، أكد وفد وطني وبكل صراحة للمقيم العام تأييده للتضامن المغربي الفرنسي. سمح الموقف الضعيف لإدارة فيشي الذي سيطر على المغرب حتى إنزال الحلفاء سنة 1942، لمحمد الخامس بالتصرف باستقلالية أكثر عن المقيم العام « نوجيس « مما كان عليه الوضع سابقاً. عندما حاول هذا الأخير إقناع الملك بفرض معايير لا ساميّة، وقف الملك بصلابة إلى جانب رعاياه اليهود. وعندما نزل الحلفاء في عام 1942، رفض الملك أيضاً طلب نوجيس بمغادرة الرباط. وبفضل موقفه السياسي المؤيد للحلفاء، تمكن محمد الخامس من كسب عطف الإنكليز والأمريكان. واستطاع الاجتماع مرتين مع روزفلت الذي عرض عليه حسب ما قيل مساندته لاستقلال المغرب بعد انتهاء الحرب. [22] نظرت القوات الديغولية التي فرضت سيطرتها على إدارة الحماية بعد غزو الحلفاء لشمال أفريقيا بشيءٍ من الريبة للموقف الاستقلالي للملك وتطلعات الوطنيين. وقد أثبت المقيم العام الجديد جابرييل بيو بأنه عدواني مثل أسلافه. أمام هذه الصلابة، قطع الوطنيون علاقتهم بشكل نهائي مع الحماية وشكلوا حزب الاستقلال. في يناير 1944 سلّمَ هذا الحزب للملك وللسلطات الفرنسية وقوى التحالف عريضة، مطالبين بالاستقلال الكامل للمغرب. وتمثلت ردة فعل الديغوليين في تصفية المتعاطفين الوطنيين مع الإدارة المغربية واعتقال أحمد بلفريج وسبعة عشرة شخصية وطنية بارزة بتهم ملفقة بالتآمر أو التعاون مع الألمان. وتم قمع المظاهرات المؤيدة للمسجونين بشدة وشنّت حملة من الاضطهاد ضد أهل الفكر المغاربة وقد تم التنديد بسفك الدماء الذي صاحب تلك السياسات لسلطات الحماية ليس فقط في المغرب بل في الخارج أيضاً. [23] نتج عن انتصارات الحلفاء في أوروبا تحسن في المناخ السياسي في المغرب. في يوليو 1945 تم إطلاق سراح معظم السجناء السياسيين. وبدأ حزب الاستقلال بإعادة هيكلته ودخل في حلف رخو مع الحزب الشيوعي المغربي الجديد والذي على الرغم من أنه لم يشارك طموح حزب الاستقلال في الاستقلال، فعلى الأقل ضغط على السلطات الفرنسية لإحلال الديمقراطية في الحياة السياسية المغربية. وأظهر المقيم العام الجديد أريك لابون تحمسا لأخذ الإصلاحات بعين الاعتبار، حيث دخل الوطنيون عندئذ في علاقة وثيقة مع الملك الذي تدخل بدوره لصالح عودة علال الفاسي. [24] في عام 1947، عاد الفاسي لفترة وجيزة إلى المغرب حيث طالب برئاسة حزب الاستقلال ثم سافر إلى القاهرة من أجل حشد دعم عالمي للقضية المغربية. وفي عام 1948 نشر في القاهرة كتاب الحركات الاستقلالية في المغرب العربي. وكان هذا العمل تحفة فنية لتفسير التاريخ الوطني. ففيه أعاد الفاسي بناء تاريخ الحركات الوطنية في تونسوالجزائر والمغرب. خلال فترة ما بعد الحرب، نضج الفاسي ككاتب ومتحدث وألقى محاضرات عن الوضع المغربي والحركة السلفية والإصلاح الإسلامي في أرجاء الشرق الأوسط. تم نشر مجموعة من محاضرات ألقاها بجامعة الأزهر بالقاهرة عام 1956 تحت عنوان من المغرب إلى المشرق. كما بثَّ الفاسي آرائه على محطة راديو صوت العرب التي كانت أداة عبد الناصر القومية. وفي 1956 نشرت تلك الآراء تحت إسم نداء القاهرة. [25] يؤكد جون واتربري بأن غياب الفاسي عن المغرب خلال الأربعينيات وبداية الخمسينيات جعل منه شخصية هامشية في حزب الاستقلال الذي ترأسه إسمياً. [26] على أية حال، هناك بعض الشك حول شعبية الفاسي الواسعة بين الجمهور المغربي. لقد أعطته السنوات التي قضاها في المنفى روحانية الاستشهاد السياسي. بالإضافة إلى ذلك، إذا كانت إقامة الفاسي في القاهرة قد قللت من نفوذه داخل الحزب، فإنها مع ذلك أثبتت قيمتها بالسماح له بالتعاون مع وطنيين آخرين في شمال إفريقيا بدون مراقبة السلطات الفرنسية، حيث شكّل الفاسي سوية مع الحبيب بورقيبة وعبد الكريم الخطابي وعبد الخالق الطريس زعيم الوطنيين في الجزء الشمالي الخاضع للسيطرة الإسبانية لجنة تحرير المغرب العربي عام 1947. وقد دافع الفاسي من قاعدته في القاهرة عن القضية المغربية في جميع أرجاء أوروبا وأمريكا اللاتينية، وفي عام 1952، في كواليس منظمة الأممالمتحدة في نيويورك. [27] سهل انقلاب الضباط الأحرار عام 1952 في مصر بشكل كبير عمل الوطنيين في شمال إفريقيا المتمركزين في القاهرة. وكان عبد الناصر متعاطفاً جداً مع قضية شمال إفريقيا. ولم تساعد الحكومة المصرية الوطنيين بدعم معنوي فقط، بل وفّرت الصحافة ومحطات الإذاعة المصرية للوطنيين مدخلا قيّما نحو الرأي العام في أرجاء الوطن العربي. [28] ففي هذا المناخ من التعاطف والديناميكية، نشر الفاسي عام 1952 عمله الفكري الرئيسي النقد الذاتي. داخل المغرب، كان التعاون المتزايد بين الملك والوطنيين يفهم من قبل الفرنسيين على أنه تهديد مباشر لسيطرتهم على البلد. وكنتيجة لذلك، خلعوا محمد الخامس ووضعوا ابن عمه المتذلل في السلطة كإمام. [29] ونفي الملك إلى مدغشقر. وقد عملت الحركة الوطنية خلال السنوات الثلاثة التالية على عودته إلى العرش المغربي حيث لم يكن الفاسي مستعداً بشكل خاص للتفاوض حول هذه النقطة. وعندما فاوض حزب الاستقلال الفرنسيين بشأن إيجاد حل وسط في Aix-les-Bains عام 1955 حيث كان المطلوب تأسيس مجلس التاج بموافقة محمد الخامس، رفض الفاسي موقف الحزب وطالب عوضاً عن ذلك إعادة تنصيب محمد الخامس على العرش كشرط إلزامي لإجراء أية مفاوضات مستقبلية. بعد الكثير من الإقناع، استطاع معظم زعماء حزب الاستقلال الحصول على تأييد الفاسي لاتخاذ هذا الإجراء المرحلي. [30] في عام 1956، انتهت الحماية وعاد كل من الفاسي ومحمد الخامس إلى أرض الوطن وتم منح الفاسي لقب الأمين العام ثم رئيس حزب الاستقلال مدى الحياة، وعين أستاذا القانون في الجامعة الجديدة في الرباط. [31] جلب الاستقلال في نواحٍ عديدة التفرقة في البلاد أكثر من الوحدة. وواصلت فرق من جيش التحرير المغربي التي حاربت الفرنسيين، المعارك في المناطق القروية، وأعربت عن عدم ثقتها في كل السياسيين. علاوة على ذلك وعلى الرغم من تمتع حزب الاستقلال بأكبر مساندة شعبية من باقي الأحزاب السياسية، أعطت التسوية مع الفرنسيين الملك سلطة شبه مطلقة، مانعة حزب الاستقلال من أداء دوره السياسي لمساعدة جبهة التحرير الوطني والدستوريين الجدد في الجزائروتونس. أكثر من ذلك، تحدى الحزب الديمقراطي للوزاني والعديد من المستقلين، الزعامة الوطنية لحزب الاستقلال. أخيراً، كان المشكل الأكبر الذي واجهته الدولة الجديدة هو النقص الهائل في عدد الأطر المغربية التي ستحل محل البيروقراطية الموروثة عن الفرنسيين والتخلص من آخر آثار الاستعمار. [32] بعد أن واجه الفاسي تلك المشاكل ومشاكل أخرى تخلى عن مهامه الوزارية وكرّس نفسه لتقوية حزب الاستقلال. وقد مكن المناخ السياسي الليبرالي الذي تلا انتهاء فترة الحماية، الحزب من أن