تهتم هذه الأطروحة التي أعدها إيان شاو ديبلوماسي كندي بمؤلفات ونشاطات المؤلف الزعيم الوطني المغربي علال الفاسي (1910-1974) الذي حاول كغيره من المؤلفين المسلمين المعاصرين المنتشرين في العالم الإسلامي أن يجد حلولا إسلامية للمشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي واجهت المغاربة خلال القرن العشرين. فقد واظب على دراسة القراَن الكريم والسنة النبوية وأعمال ونشاطات المسلمين الأوائل من أجل بناء نموذج يلائم المجتمع المغربي الحديث. وعلى أية حال لم يرفض بالكلية الأفكار التقدمية المنبعثة من مجتمعات الغرب غير الإسلامي. عوضاً عن ذلك، بحث وأعاد تقييم مفاهيم معينة مثل الديمقراطية والاشتراكية والأفكار القومية مقارناً إياها مع الأفكار الإسلامية من أجل الحكم على مدى توافقها مع العقيدة الإسلامية.لا تكمن أهمية ترجمة أعمال الفاسي في أصالتها بقدر ما تشكل مثالا على توجه جديد من أجل إيجاد توافق بين الأفكار الغربية المعاصرة ومتطلبات المعتقدات الإسلامية. وقد مُنِعَ هذا النموذج من الإصلاح الإسلامي في العالم الإسلامي في بداية القرن الماضي، ولكن منذ ذلك الوقت أُفسِحَ المجال للأفكار العلمانية القومية والأفكار الأصولية الإسلامية. وقد أوضحت أفكار الفاسي الاختلافات ما بين هذا النوع من الإصلاح الإسلامي والتيارين الآخرين عن طريق التحليل و الوصف التفصيلي لأفكار وعقيدة الفاسي المصلح. والهدف المتوخى من هذه الأطروحة هو ملئ فراغ مهم في التاريخ الثقافي المغربي والمساعدة على وعي أفضل لمفهوم الإسلام الإصلاحي الحديث بشكل عام. وأود أن أشكر بإخلاص كبير مشرف الأطروحة الدكتور عيسى بولاتة الذي كانت نصائحه ونقده وصبره وتشجيعه ذات فائدة عظيمة. كما أرغب التعبير عن امتناني لمكتبة معهد الدراسات الإسلامية التي كان موظفوها متعاونين بتحديد المادة اللازمة لهذه الدراسة. كما أود أن أشكر هيئة مكتبة جامعة (برنستن) لمساعدتهم بتحديد معظم مصادر المادة الأولية المستخدمة في هذه الدراسة وتزويدي بتسهيلات الطباعة. أخيراً، أود أن أشكر السيدة برندا بوستانز والسيدة لينور هالبن لمهارتهما في تنقيح عدة مسودات من هذه الأطروحة. وننشر اليوم الجزء الأول من هذه الأطروحة وسننشر لاحقا بقيتها تمثل النظريات السياسية للزعيم الوطني المغربي علال الفاسي صلة مباشرة ما بين الحركة السلفية الأولى والسياسات المعاصرة للدولة الإسلامية المستقلة. في حين أن القليل من المصلحين السلفيين شغلوا مراكز ذات سلطة سياسية حقيقية، كان الفاسي ناشطاً سياسياً ناجحاً وتواجد في مركز دوائر صانعي القرارات في مرحلة ما بعد الاستقلال في المغرب. وبالنتيجة، تعكس أفكاره السياسية حصيلة الإصلاحية الإسلامية المبكرة والواقعية السياسية المعاصرة التي كانت غائبة عند معظم الإصلاحيين المسلمين في ذلك القرن. وفي إطار استقطاب السياسة المغربية منذ وفاة الفاسي عام 1974. كان الفاسي كشخصية سياسية موضع نقد من قبل اليمين واليسار. وقد تم استبعاد حزب الاستقلال، الذي كان يتزعمه والذي يشكل الوسيلة السياسية التي حملت أفكاره، من الحياة السياسية من قبل أنصار وخصوم الملك الحسن الثاني. تعرضت أعمال ومعتقدات الفاسي في هذا الإطار و بشكل كبير إلى سوء الفهم من قبل خصومه السياسيين وعامة الشعب المغربي. على أية حال، وربما لأن الفاسي نشر مؤلفاته باللغة العربية عوضاً عن الفرنسية، كان المؤرخون الغربيون لتاريخ شمال أفريقيا ميالين إلى التركيز على نشاطات الفاسي السياسية عوضاً عن مساهماته الفكرية. ونهدف في الدراسة الحالية إلى جعل أعمال ومعتقدات هذا المفكر سهلة المنال بأسلوب موجز ومنسق لفائدة الطلاب الفرنسيين والدارسين للتاريخ والأفكار السياسية المغربية. نفترض أن في أن الإسلام كان القوة الدافعة وراء جهود هذا المثقف الوطني. بالإضافة إلى ذلك، وعلى عكس العديد من الشخصيات السياسية في العالم الإسلامي، كان للفاسي فهم ممتاز للفكر الإسلامي، وبصراحة فقد استخف بالتلاعب في الدين من أجل كسب ود الجماهير. على الرغم من نتائجها السياسية، أدان الفاسي المفاهيم الشعبية المغلوطة والممارسات الاستغلالية تحت إسم الإسلام و سعى إلى توعية وتثقيف الشعب المغربي بروح الإسلام الخالي من العيوب والمبني على تعاليم القرآن والحديث وحياة الصحابة الأولين، حيث سعى الفاسي في هذا الإطار الإسلامي وكسياسي وطني ومفكر سياسي من أجل بناء مغرب جديد. المنهجية سوف نتعامل مع أعمال الفاسي بالاعتماد على ثلاثة أفكار رئيسية، الأفكار السياسية والأفكار الاقتصادية والأفكار الاجتماعية. وفي كلٍ من هذه المجالات سوف نحاول شرح فحوى اجتهادات الفاسي وإظهار دور الإسلام في كلٍ منها. ونعتبر بأن هذه المقاربة التوضيحية ضرورية، لأن المفاهيم الفكرية لأعمال الفاسي لم تلق الاهتمام الكافي في كل مبادئ الحركات التاريخية الوطنية المغربية المعاصرة. على الرغم من أننا نسعى بأن تكون هذه الدراسة إحدى الدراسات الفكرية التاريخية على نقيض دراسات السير الذاتية التقليدية. لقد ضمنّا هذه الدراسة لمحة موجزة عن حياة هذا المفكر ونشاطاته السياسية لتقديم إطار تاريخي مناسب للبحث من أجل أولئك القرّاء الذين يجهلون دور الفاسي في حياة المغرب السياسية. إن قصر هذا الجزء نسبيا يرجع لكون مصادر المعلومات الثانوية المتوفرة (والتي سوف نتحدث عنها بعد فترة وجيزة) تفي تماماً من وجهة نظرنا بالغرض لتقديم عرض مفصل ودقيق عن حياة ونشاطات الفاسي. لم تنشأ أفكار الفاسي من فراغ ولم تكن أصيلة بشكل تام كذلك، حيث كانت نوعاً ما تحت تأثير واضح لأعمال العديد من المفكرين الإسلاميين الآخرين، علما بأن الفاسي نفسه يعترف وبصراحة بذلك. فأعمال الفاسي تمثل خلاصة توفيقية لجهود من سبقه ومعاصريه. وبالنسبة لبعض المثقفين، سيتطلب ذلك فحصا منفصلا للثقافات المؤثرة على الفاسي، حيث لم يكن في نيتنا الإلتزام بأعمال شاقة ومجهدة لتتبع كل فكرة من أفكار الفاسي من مصدرها القديم أو المعاصر. ويجب على أية حال أن يكون واضحاً للقراء المطلعين على أفكار إسلامية معاصرة بأن الفاسي ليس بمبدع لأفكار جديدة ولكنه نوعاً ما يعتبر المكيف والناشر لجل الأفكار الأساسية للإصلاحية الإسلامية المعاصرة. وتكمن أهمية الفاسي في تقديم تلك المفاهيم لمنطقة من العالم العربي التي كانت أصلاً قد تركت على هامش النشاط الفكري الإسلامي المعاصر. لقد اقتحرنا في مواضع عديدة من دراستنا أسماء معاصري الفاسي في أرجاء مختلفة من العالم الإسلامي والذين كانت أفكارهم مشابهة إلى حد كبير للتي هي موضوع بحثنا. لقد قمنا ذلك كي نظهر بطريقة مختصرة بأن الفاسي كان ينتمي إلى مدرسة مهمة من المفكرين الإسلاميين الذين جاهدوا من أجل شرح تفصيلي للأسس النظرية لحكم إسلامي واقتصاد ومجتمع إسلامي، في نطاق مواقعهم في العالم الإسلامي. كإشارة أخيرة إلى ملاحظاتنا حول المنهجية، نود التذكير بأننا تخلينا عن محاولة إظهار تطور أفكار الفاسي عن طريق التتابع الزمني لأفكاره. كما أظهر لنا بحثنا بأن أفكار الفاسي تبلورت في مرحلة مبكرة جداً وأن أعماله اللاحقة كانت في الحقيقة تكراراً لتلك الأفكار الأولية عن أكثر من كونها مقدمة لأفكار جديدة. مقدمة عن المصادر أثناء التحضير للدراسة الحالية تم فحص حوالي أربعة عشر كتابا وأربعة وثلاثين مقالاً والعديد من الخطابات التي كتبها الفاسي، والعديد من المصادر الثانوية عن هذا المفكر وعن السياسة المغربية بشكل عام. وقد تكون مناقشة محتويات المراجع الموجودة في حاشية الكتاب أكثر فائدة، إلا أن ذلك بعيد عن نطاق أطروحتنا. ولهذا سوف نحصر تعليقاتنا في الحديث عن الأعمال الرئيسية للفاسي والمصادر الثانوية الرئيسية التي نرى بأنها تقدم شيئاً جوهرياً عوضاً عن الأعمال الأكاديمية حول حياة الفاسي وأفكاره. المصادر الرئيسية ? كتب الغرض من البحث التالي مزدوج. أولاً: إنه مصمم كي يوجّه القارئ إلى أعمال الفاسي الأكثر أهمية والتي تتعلق به. ثانياً: يجب أن نشرح إلى حد ما لماذا شعرنا بأن ثمة نقص في الدراسات الأدبية عن هذا المفكر وهو نقص نوعي لا كمي، الشيء الذي كان الحافز من وراء الدراسة الحالية. بدون أي شك، يعتبر كتاب النقد الذاتي [1] الذي نشر عام 1952 على أنه الأكثر أهمية من بين أعمال الفاسي الفكرية. ففي هذا الكتاب قام الفاسي بتحليل المجتمع المغربي من وجهة نظر ناقدة واقترح بدائل سياسية وأنظمة اقتصادية لتحل محل الهيكل السلطوي الرأسمالي للحماية الفرنسية في المغرب. النقد الذاتي عمل ذو انعكاس بعيد وخالٍ من أي جدال سياسي صرف الذي ميّز أعمال الفاسي الأخيرة. وأكثر المفاهيم التي بحثت في أعماله الأخيرة كانت قد تبلورت أو على الأقل قدمت في النقد الذاتي. أخذت أكثر كتابات الفاسي السياسية في الستينات طابعا سياسيا وشكل دراسات سياسية واخلاقية لحزب الاستقلال خلال المؤتمرات التي عقدها الحزب خلال تلك الفترة. ونشرت هذه الدراسات تحت عنوان عقيدة وجهاد (1960) و منهج الاستقلالية (1962) و معركة اليوم والغد (1965) و دائماً مع الشعب (1967). [2] وبعيداً عن الدراسات المتعلقة بنشاطات الحزب ما بين المؤتمرات، تتضمن هذه الأعمال تفاصيل تحليلية لمشاكل المغرب وتعبّر بوضوح عن فكر الفاسي الشخصي. وتظهر كل هذه الدراسات استمرارية الأفكار السياسية للفاسي بالإضافة إلى مدى تشبع أفكاره بإيديولجية حزب الاستقلال. من بين الدراسات التاريخية العديدة التي قام بها الفاسي، نعتقد بأن واحدة منها فقط جديرة بالذكر هنا. الحركات الاستقلالية في المغرب العربي (1948) [3] ترجمت إلى اللغة الإنكليزية في عام 1970 تحت عنوان الحركات الاستقلالية في شمال إفريقيا العربية، وهي إلى حد بعيد أكثر المحاولات تأثيراً من قبل الفاسي من حيث التفسير التاريخي. لم تزودنا فقط بنظرة عميقة عن الحركات المغربية المبكرة، بل أظهرت أيضاً التزام الفاسي الشخصي بالحركة السلفية الإصلاحية. بشكل عام تعتبر أداة لا يمكن الاستغناء عنها لفهم تطور الحركة الوطنية المغربية. يمكن اعتبار مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها (1963) [4] عمل بعيد النظر فيما يتعلق بنظرة الفاسي نحو المجتمع الإنساني. ففي هذا العمل يدخل الفاسي في جدال ضد أنظمة القوانين والحكم الأوروبية ويبرز كمال الشريعة الإسلامية كحل لاحتياجات المغرب في مجال القانون والحكم. وأُتبع هذا العمل فيما بعد بدراسة ذات طبيعة مشابهة دفاع عن القانون الإسلامي (1967)، [5] التي ترجمت إلى الفرنسية تحت عنوان La Défence de la loi islamique في الدفاع عن القانون الإسلامي يهاجم الفاسي المغربيين الذين تمنوا أن يتبنوا القانون الأوروبي بدل الشريعة. على الرغم من أن معظم أعمال الفاسي تظهر مدى انهماكه بإيجاد حلول إسلامية لمشاكل المغرب، فإن هاذين الكتابين على وجه الخصوص قويين من حيث إبراز المضمون الإسلامي لفكر الفاسي. من بين العديد من أعمال الفاسي الأقل أهمية التي ساعدت على تحضير الدراسة الحالية، يجب ذكر بديل البديل (بلا تاريخ) [6] و دفاعاً عن الإصلاح (بلا تاريخ) [7]. فالعمل الأول كان نقداً للكاتب الماركسي الفرنسي روجيه جارودي. إذ أنها لا تظهر فقط إعجاب الفاسي الشخصي بالسمات المتعددة للفكر الماركسي، بل تبين أيضاً وبوضوح مدى معرفة الفاسي بكلٍ من الأفكار والمنهجية لأوساط اليسار الأوروبي. أما العمل الثاني فهو ذو منحى ضد مناوئ للإمبريالية، يشدد فيه الفاسي على خصائص اللغة العربية كلغة وطنية للمغرب والإسلام كقوة روحية لهذا البلد. مقالات يوجد للفاسي ثلاث مقالات ذات أهمية خاصة لدراستنا. الأولى، «أصول الحكم في الإسلام» [8] التي نشرت في مجلة البينة (1962) في ثلاثة أجزاء، والتي تحدد وبشكل أساسي المفهوم الإسلامي للحكم مبنية على دراسة للدولة الإسلامية الأولى في المدينةالمنورة. كان ذلك في حد ذاته مثالاً واضحاً على استخدام الفاسي للمنهجية السلفية [9] في تطوير نظريته عن الحكم في الإسلام. أما المقالة الثانية فهي عمل قصير جداً بعنوان «لا شيوعية ولا رأسمالية» [10] نشرت عام 1957، حيث يوضح الفاسي بشكل أساسي نظرياته السياسية بالنسبة للخيارات الرئيسية لبلدٍ نامٍ، أي الرأسمالية أو الاشتراكية. المقالة الأخيرة «الإسلام ونظرية جيسل GESELL « [11] وتعتبر مثالا رائعا لجهود الفاسي لاستخدام الفكر الاقتصادي الغربي كي يجسد من خلاله وجهات نظره الخاصة عن الاقتصاد الإسلامي. وسوف نتكلم عن تلك المقالة بتفصيل أوسع في الفصل الثالث من خلال تحليلنا لأفكار الفاسي الاقتصادية. مصادر ثانوية في واقع الأمر، إن أي تاريخ عن المغرب في القرن العشرين سوف يشير إلى النشاطات السياسية لعلال الفاسي. علاوة على ذلك، ما بذل لفحص نظرياته السياسية قليل جدا خصوصا فيما يتعلق بالمحاولات لشرح فكر الفاسي للجمهور من غير العرب أو المسلمين. من بين المصادر الثانوية التي فحصناها في هذا البحث سوف ندرس خمسة ذات أهمية خاصة. الدراسة الأكثر شمولية عن الفاسي هي وبلا شك للكاتب أتيليو غاوديو بأسم علال الفاسي أو تاريخ الاستقلال(1972) [21]. يعتبر عمل غاوديو والذي كان أصلاً قد قدم على أساس أطروحة دكتوراة عام 1969 إلى المدرسة التطبيقية للدراسات العليا (جامعة السوربون) دراسة بحثية جيدة وشيقة من حيث أن المؤلف كان على معرفة شخصية بعلال الفاسي وبالشخصيات الأخرى في حزب الاستقلال. على أية حال وحسب معايير الموضوعية المقبولة بشكل عام في دراسات شمال أمريكا، لا يعتبر عمل غاوديو وافيا بالغرض إلى حد كبير. أولاً، يبدي غاوديو نية في تقديم الفاسي بأبعاد أسطورية. وهذا المنحى حول تقديس_البطل يجعل من عمل غاوديو وبأفضل حالاته عملاً مشبوهاً، حيث يتجه لكتابة إفادات تقديمية قصيرة يتبعها باستشهادات مطولة جداً من أعمال الفاسي. ولم تصحب هذه الإستشهادات أية تحاليل أو تعليقات كافية. ولهذا فهي تقدم القليل لتعرّف القارئ بأسس أفكار الفاسي. يتبع