إن المفتاح الأول لجعل للغة العربية لغة رسمية حقيقية في بلادنا هو الاعتماد على الصفوة المثقفة الواعية بقدرات اللغة العربية للعمل في اتجاه خلق إرادة سياسية لدى أصحاب القرار، لأن هذه الإرادة منعدمة لديهم الآن. وهذا عائق كبير و خطير... إذا أردنا سياسيا، استطعنا عمليا، و لا بد أن نجد الحلول في هذا المجال. و لن تكون هناك حلول بدون مشاكل و تحفظات من جانب أولائك الذين يعادون العربية - و هم أبناؤها- لأنهم لم يدرسوا بها و لا يتقنونها، و بالتالي ، فهم لا يثقون في قدراتها. و الإنسان عدو لما يجهل كما يقال. إذا، القرار السياسي الحازم و النافذ هو المفتاح الأول لجعل اللغة العربية لغة رسمية بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى. في هذا المجال، لا يكفى أن نقول " إن الإرادة السياسية ضرورية"، لأن المناداة بهذه الإرادة شيء و تجسيدها على أرض الواقع شيء ثان. و القول بالإرادة السياسية، ثم تربيع الأيدي و الانتظار- كما هو الحال مع توصيات المجامع العربية وغيرها من المنظمات المهتمة بالشأن اللغوي- لن ياتى بأية نتيجة... كيف إذا نجعل هذه الإرادة السياسية واقعا ملموسا و ممارسة لدى من يتحكم في مقاليد الأمور؟ و كيف نجعل أصحاب القرار السياسي يرضخون للطلب المتمثل في جعل اللغة العربية لغة رسمية فعلا؟ من يقوم بهذه المهمة الصعبة؟ و ما هي الوسائل الواجب استخدامها لتحقيق هذه الرغبة؟ تقوم بهذه المهمة، الصفوة المثقفة علميا و لغويا و الناضجة سياسيا. وهى نخبة لها وجود فعلى في كل البلاد العربية. و رغم ضيق الحريات في هذه البلاد، فبإمكان هذه النخبة أن تتحرك، على الأقل بكتاباتها العلمية القادرة على الإقناع. و أما الوسيلة الكبرى لدى الصفوة لاستصدار القرار السياسي في الاتجاه المتحدث عنه فهي وسيلة الضغط . وهو الضغط الذي يتجسد بالحجة العلمية و الاحتجاج الهادئ. وأما الحجة العلمية، فهي تتعلق بالقدرات الهائلة للغة العربية لمواكبة المعاصرة، وهو أمر متجاوز بالنسبة لي، إذ ليس علميا الطرح الذي يقول بقصور العربية في التعبير عن المفاهيم العلمية والتقنية و التكنولوجية الحديثة.و قدرة اللغة العربية على التعبير عن العلوم و التكنولوجيا بصفة عامة هي من الحجج التي يجب توظيفها لاستصدار القرار السياسي. و أما الاحتجاج الهادئ و المشروع، فهو منهجية في العمل يجعل القرار السياسي واقعا ملموسا. و قد يعتمد على الدستور الذي هو سند له. و لكي يكون ذا مردودية، وجب أن يكون سلميا،هادئا، مقنعا وطويل النفس و إلا تحول إلى فوضى و الفوضى لا تأتى بالنتائج الايجابية...و الضغط هو هدف الاحتجاج ، و هو وسيلة حضارية يستعملها أصحاب مشروع ما لتطبيق الأفكار التي يؤمنون بها، و ذلك في اتجاه إخراج قرار سياسي إلى حيز الوجود. هل يمكن أن نتحدث عن منهجية للضغط؟ ومن يقوم بوضعها و كيف السبيل إلى تنفيذها؟ إخراج قرار سياسي ما يحتاج إلى خلق إطار للضغط، و قد يكون هذا الإطار مركزا للبحث هدفه إنتاج الدراسات الجادة، أو جمعيات مدنية ثفاقية، أو منتديات علمية أو لجن أو تيارات علمية في أحزاب سياسية...و هكذا ، و عن طريق هذه الهيئات، يبدأ مسلسل الضغط و يبدأ كذلك التفكير في الوسائل المشروعة و المقنعة للضغط، و من هنا تنبثق منهجية الضغط. و قد تأتي هذه المنهجية على أشكال مختلقة= بحوث علمية جادة، بيانات إعلامية ضاغطة و مستنكرة، اتصالات مباشرة مع صناع القرار مالكيه و منفذيه أو مكاتبتهم الدائمة إلى أن يستجيبوا، الضغط بالتظاهر السلمي، الالتجاء إلى القضاء، الضغط بالإضراب أو بحمل الشارات...و هكذا يمكن الحديث عن الضغط الايجابي الذي يحتاج إلى النفس الطويل و الإيمان القوى بالمشروع المدافع عنه. و بالطبع، فإن هذا العمل صعب و يتطلب الصبر و التؤدة و النفس الطويل و قوة الحجة و الإقناع و الإلمام بتقنيات التواصل والتنا ور كذلك ، لان أصحاب القرار لهم اهتمامات أخرى و يخشون التغيير لأن التغيير-بالنسبة لهم- قد يكون مغامرة وخيمة العواقب بالإمكان أن تجهز على كل مكتسباتهم، وهى مكتسبات محافظ عليها أساسا باللغة الأجنبية. الضغط إذا، بالحجة العلمية و الاحتجاج المشروع و الهادئ هو ما ينبغي أن يقوم به المتنورون، أصحاب الفكر- و قد يصبح هذا الضغط نوعا من التحرش الايجابي، يأخذ أشكالا متعددة، كالضغط المشترك مثلا، و ياتى بنتائج جيدة على المدى المتوسط و البعيد... لماذا لم تجد بعض البلدان الصغيرة ( فيتنام، الكوريتان، إسرائيل... ) أية مشكلة لاستعمال لغاتها الوطنية في جميع مرافق الحياة العامة؟ لأن هذه البلاد محصورة في رقعة جغرافية محدودة. و هذا يعنى أنه عندما يقع الاتفاق على أمر لغوى ما، ينفذ في الحين على مدار هذه الرقعة البسيطة و هكذا تتقدم الأشياء، بعكس البلاد العربية التي تعرف عائق التنسيق في كل شيء. و معنى هذا أن تقدم العربية رهين بتنسيق عربي دائم و مشترك. و معنى هذا كذلك أن الضغط لصالح العربية كلغة متداولة في جميع المرافق العامة يمكن أن يكون مصدره جميع البلاد التي تنص دساتيرها على أن العربية هي لغتها الرسمية، فيقع الإجماع الذي يخلص الدول العربية من الهيمنة الخارجية التي توحي أن هذه الدول ستظل متأخرة عن الركب الحضاري إذا لم تأخذ أمورها باللغات السائدة عالميا الآن، وهى هيمنة تجلب الخوف من المستقبل و التيه فيه، الشيء الذي يفضى بالتمسك بالحلول السهلة ( اللغات الأجنبية)... لكن هل تقدمنا باللغات الأجنبية و نحن الآن حاضنون لها؟ و هل تقدمت دول بلغات الغرب و هي عندها لغات رسمية؟ هذا الضغط المشترك يمكن أن يكون مصدره المنظمات العربية المختلفة- و هي التي لها حضور وازن على الساحة العربية- لحث الحكومات العربية على رفع التحديات المختلفة.و دور المجتمع المدني ( الجمعية المغربية لحماية اللغة العربية كنموذج ) هو أن تضغط على هذه المنظمات المتنفذة لكي تضغط هي بدورها على الحكومات العربية... بدون هذا الوعي بالضغط الذي هو الحجة العلمية و الاحتجاج الهادئ و المشروع الذي هو من اختصاص النخبة العالمة في البلاد العربية، ستظل اللغة العربية يتيمة و مهيضة الجناح، و لكن الأمل لا زال معقودا على هذه النخبة التي نلاحظ أنها مصممة اليوم ،كثر من أي وقت مضى/ على رفع جميع التحديات التي تواجهها ...