للأعين أن تجحظ عجباً من بلدان تزدهي حتى بأمواتها من الأدباء؛ شعراء كانوا أو (نثراء)، بينما لا ينوب أحياءنا من شاربي الحبر كَلِماً علقماً، كِسْرة عين تنظر، ولو شزراً، للمثقف المغربي الذي لم يكن لِيُذْوِي الضوء في مآقي ناظريه، من فرط تطريزات الكتابة الشاقة، لو علم يوما أن حمل القلم في هذا البلد، لا يفضي إلا إلى حفر اسمه قبراً في سجلِّ الوفيات؛ وليس ثمة أفظع من شعور أن تكون ميِّتاً في الحياة؛ ولأنَّا لا نضرب مثلا إلا لِشَجِّ بعض الرؤوس الأصْلَد من صوّان، أستحضر كتابا أورقت أخيرا ترجمته من اللغة الهولندية إلى الفرنسية عن دار «أكت سيد» تحت ميسم «قبور الشعراء والمفكرين» للروائي والشاعر والباحث الهولندي «سيس نوتبوم» بمعية الفنّانة الفوتوغرافية «سيمون ساسين»؛ ولا نستطيع أن نسبغ توصيفا على الشاعر نوتبوم، من خلال أسطرلاب هذا الكتاب، سوى أنه يكاد يتخذ الحذاء فندقا لإقامته الموصولة في مسافات السفر؛ هكذا يتطوَحُّ للأنأى في شططه التَّرَحُّلي النفاث ملء الرئتين، ولا يستريح إلا في منزلين؛ أحدهما في أمستردام والآخر في مينوركا؛ فهو المُعَلَّقُ دائما في هواء المطارات، لا يُشفى من سفره القهري؛ غرفة تنفضه كإزارات الأَسِِرّة في الصباح، لأخرى في ذات الفندقين بذات المدينتين؛ (أمستردام ومينوركا)؛ إنه مَسَّاحُ الأرضي المفتتن بالعالم؛ الوفير في فم واحد، بغابة من الألسن التي تتقن لغات عديدة؛ لنقل إن (الهنا... وهناك)، هما العملة الرمزية التي لن تشتري إلا العدم في حياة هذا الشاعر، حيث سَتَنْفَغِرُ المسافة وسيعاً بين هذا الهنا.. والعالم الآخر أو الأخروي؛ بين الوجود والعدم؛ المرئي واللامرئي؛ المحتوم أن هذا الحافز الإبداعي، قد سكن سرمدياً في أعمال الشاعر، لكنه امتشق مكانة المركز الجلي في هذا الكتاب الجديد «قبور الشعراء والمفكرين»؛ المُوَشى بصور فوتوغرافية انقشعت بحداد الأسود والأبيض من عدسة الفنَّانة «سيمون ساسين»، لنقرأ عبر خرائطية لا نهائية، ما تقوله بلاغة الشطح التي تمتطي كعب الشاعر في سُراه المنتعل للريح عبر العالم؛ شاعر لم يجد ذاته المفقودة، إلا في أرومة قبور الشعراء و المفكرين الكبار؛ فلم يتوان عن تجرُّع مرارة المُضي قبراً.. قبراً، للسلام على أصدقائه القُدامى، مستطيرا في سفرات مقدودة من لذة وعذاب، لزيارة هؤلاء الشعراء والمفكرين؛ «ستيفنسون» في منطقة «مونت بيا »، و «ولتر بنيامين» في «بورت بو» و «بيو كساريس» في «لاريكولتا»، و «بروست» أو «الأب لاشيز» بمقبرة يابانية في كاواباتا، حيث كل شيء يتبدَّى في مقلتيه بمثابة أحجية لا تجد أمام كل هذه الجماجم الصلدة، منفذا للإدراك؛ والنتيجة؛ مقبرة ورقية من جليد، تسوّرها صور باذخة بالأسود والأبيض؛ لنرى شواهد قبور مبالغ في بلاغة أشكالها؛ دقيقة، وتلتبس بهيئة الترحيب أحيانا؛ كذا شأن شاهدة «أنطونيو ماشادو» التي تبدو كما لو تمد يديها كسرير؛ ونقرأ في رمس «بريتون»: «كاتب كبير ينشد الاستراحة هنا كي لا يسمع إلا البحر والريح.»؛ وثمة جمل انكتبت بمُهراق الرمق الأخير للوصايا، حتى أنها لا تفسح للأذهان قيد تفكير لِتَحْتار، مثل: «هنا ترقد بقايا ومني بول كلوديل»؛ إن هذا الكتاب المتشظي بأقواس البهاء، انبلج عبارة عن ورود جافة، ونباتات صخرية، وأحجار؛ وما قد ننشرخ بمقارقته القاصمة للأفكار، أن هذا الكتاب، رغم سريانه بأحداث إمبراطورية القبور، يكاد يعدم الميسم المأتمي، حتى أن الشاعر نوتبوم كتب: «رغم ما تحوطني من آلاف الأحجار اللحدية، لم أستشعر أبدا أني أزور ميتا».؛ ربما لأن الشعراء ليسوا موتى عاديين؛ الأكيد أنهم ماتوا، وإلا فلن تكون لرواميمهم قبور، لكنهم في الحقيقة، ليسوا في أي مكان؛ إنهم يرقصون في الهواء؛ يحدثوننا كما سيتكلمون مع الذين لم يولدوا بعد؛ أما «برودسكي» الذي يرقد بمقبرة في «سان ميشيل»، فهاتيك أسطره المنحوتة كما أمنية سردمية تصطدم من فرط سمق قامتها المتاخمة للسماء، بسقف القبر؛ فنقرأ: «أعدكم حين أندلق يوما من إمبراطوريتي (...)، أن أول شيء سأصنع ، هو المضي الى البندقية، أكتري غرفة في الطابق السفلي، حيث ترش المويجات التي تحدثها السفن، نافذتي، أكتب بعض المراثي وأنا أطفئ سيجارتي على الأرض ذي الحجارة المبلَّلة، أسعل وأشرب، وحين يغيب المال، أرمي نفسي بالرصاص، لأنه يستحيل أن تقضي في البندقية بميتة طبيعية..»؛ أليس هذا الموت أعمق حياة من الحياة التي نجتر مضاضتها ونحن على قيد الوجود؛ إن هذه الأوراق تصدر من دار نشر المقبرة؛ لتصنع قيامتها الإبداعية قبل أوان النشور؛ أما نحن الذين ما زلنا نلهج بأنفاس الحياة، فكل ما يعترش حولنا من وجود ثقافي، يكاد يكتم هذه الأنفاس سطرا.. سطرا!.