« أسلحة الكاتب: الحيلة والمنفى والصمت» جيمس جويس مَا زِلْتُ أَتَهَجَّى بعض المدن كالنساء، نحبها من أول نظرة. كذلك هي مدينة الدارالبيضاء . هذه مدينة لم أولد، ولم أشتغل، ولم أسكن فيها. ومع ذلك فإن لها مكانة خاصة في قلبي. جئتها لأول مرة في ربيع 1972. جاء بي الشعر في تلك المرة. وهكذا في كل مرة ، إلى يومنا هذا. آنذاك، لم أكن قد أقفلت الثانية والعشرين من عمري بعد. كنت عاشقا بصيغة الجمع: للأرض، للمرأة، وللقصيدة. كان الشعر رقيتي. وكان المهرجان الشعري الأول الذي انعقد في ربيع ذلك العام، في هذه المدينة، مناسبة سانحة بالنسبة لي كي أعمق مفهومي للشعر، وكي أختبر-أكثر فأكثر - أدواتي. منذ ذلك الوقت، مياه كثيرة مرت فوق الجسور، وليس تحتها فحسب. كل شيء تعولم :الخرائط والمفاهيم والإشكاليات والأسئلة. «كأن لم تغن بالأمس» . أو كأن وجوها شعرية شتى لم تمر من هنا، أو لم نتقاسم معها- سيان- الخبز والنبيذ أوالخبز والشاي: أحمد بركات، أحمد الجوماري ، عبد الله راجع، محمد الخمار الكنوني، أحمد المجاطي، محمد خير الدين، كمال الزبدي، محمد الطوبي، عبد اللطيف الفؤادي، بنسالم الدمناتي، محمد منيب البوريمي، محمد بنعمارة، محمد السبايلي، كريم حوماري، ثريا السقاط، محمد الوديع الأسفي ، محمد الحبيب الفرقاني ، محمد الحلوي، منير بولعيش، وهلم شعرا.. كل هؤلاء ماتوا وهم فوق الخشبة. ماتوا وهم يضفون على مشهدنا الثقافي ما كان ينقصه، بشكل فادح، منذ قرون وقرون. عنيت: اللمسة الشعرية. هي ذي بصماتهم. وتلك مآقيهم وقد أحاطت بنا من كل صوب. صحيح إذن أن « الذي يموت فوق الخشبة ليس ميتا على الإطلاق». صحيح جدا، إميلي ديكنسن!: غير أن هؤلاء [أو أكثرهم على الأقل] لم يحظ في حياته ولو بشربة ماء. هكذا قلت مع نفسي مؤخرا وأنا في «حي المعاريف» وجها لوجه أمام لوحة كتب فوفها: زنقة عبد الله راجع . قلبت اللوحة. قلبتها في خاطري، وإذا بي أقرأ : « ابتسامة صغيرة، ولكن صافية ورقراقة في حياة الشاعر أهم بكثير من ألف باقة وباقة فوق قبره». ما هذه سوى مقاطع مبتورة من السينوغرافيا؛ وإلا فكيف لي - هنا والآن - أن أرتفع بالعبارة إلى الأفق الذي يليق بها؟ كيف ألعب حول أكثر من فخ دون أن أسقط فيه؟ بل كيف أقفز من « النص» إلى المنصة دون أن أتعثر أو أتبعثر، أنا الذي ظللت - دوما - أحتمي بأفياء غابة قطوفها: الظل، والمسافة، والصفوف الخلفية؟ هو «الحب القاسي» إذن. ( محمود درويش ، سلاما) . حب متقاسم. لي فيه آباء وأمهات وإخوة وأتراب وأصحاب. هنا أيضا، أنَّى لي أن أختزل - على غرار إلزا مورانتي - كل شيء فأقول : « أنا في كتبي» ، أو أذهب - على غرار أوسكار وايلد - إلى ما هو أبعد فأقول: « عبقريتي وضعتها في حياتي، أما في كتبي فإنني لم أضع سوى موهبتي». حسبي أن أستخلص العبرة من بورخيص وهو يعزو ولادته ك «مؤلف» إلى النقاد والمترجمين، وبالتالي إلى عموم القراء والمتلقين. أنا الآخر ، هذه هي رؤيتي كيف أقول العكس وقرية صيادين خلف أجفاني؟ بِأَبْعَادٍ ثَلاَثَةٍ في إحدى لقطات فيلم سينمائي مستوحى من « البحث عن الزمن الضائع» هكذا هو المشهد: في محطة القطار. وراء الزجاج، مارسيل [ بروست] وهو في سن الرجولة ، في مقعده . وفوق الرصيف ، مارسيل نفسه وهو فتى . ومن حولهما : ضجيج. أمتعة. روائح يكاد يشمها المشاهد. صعود ونزول. ذهاب وإياب. مناديل وزهور. ثم يقلع القطار . تتقاطع نظرات الاثنين: الفتى والرجل. تتوالى اللقطات . ثم تتسع المسافة. إزاء مشهد مثل هذا، أول ما تبادر إلى ذهني : من يودع من ؟ الفتى أم الرجل؟ ثم لبستني الحالة. تقمصت المشهد. تأملته من جديد . وحين تفحصته من جميع أطرافه احترت إلى أقصى حد . تارة تغمرني أدق التفاصيل فأقول: كم هي طويلة هذه الحياة! عجبا ! كيف لا يسأم المرء ؟ وتارة أطويها طي السجل وأنا أقول : ما أقصر الحياة! لقد مرت كالبرق. مفارقة أخرى تنتابني أيضا حين أفكر في عدد الأقلام التي كسرت وكمية الأوراق التي سودت أو مزقت فأقول: هل أنا من قام بهذا كله، في هذا العمر القصير؟ وتارة لا أجد شيئا يستحق التنويه فأقول: للأسف، لم أقم بأي شيء رغم طول العمر. متى إذن وعزرائيل بالباب؟ عليَّ بالحساب. للوهلة الأولى، ينبغي عليَّ أن أميز بين حقلين دلاليين: بين « العمر» و«الحياة» . هما، في الظاهر ، حقلان متداخلان . ولكن ، في العمق ثمة فوارق . في تقديري ، أهم مقومات « العمر» : الطول (ضد القصر )، والامتلاء (ضد الفراغ )، والتمدد(ضد التقلص)، وبالمقابل ، فإن أهم مقومات « الحياة» : الحيوية، والولادة، والولادة الجديدة، وانعدام الروتين، والتجدد. ما من شك أن بين هذين الحقلين علاقة جدلية أشبه ما تكون بتلك التي بين مفهومين فلسفيين أساسيين: « الديمومة» ( برغسون) ، و« اللحظة» (باشلار) ؛ أو بتلك التي ينبغي أن تكون بين عنصرين طبيعيين : « النهر» و« الحية» . معا ينسابان . ولكن، هذا يتدفق . وتلك تتجدد . ما من شك أيضا أن شيطان الشعر يتنفس بأكثر من رئة. ثم إن الشعر، بطبيعته، طاقة متجددة. يترتب على هذا - بالضرورة - أن يكون الشاعر متعدد الأصوات. إنه لا يستعمل ضمير المتكلم وكفى، ولكن جميع الضمائر الحية. لا مناص إذن من أن يكون المجال الحيوي للشعر هو « الحياة» مفتوحة على مصراعيها، وليس « العمر» باعتباره بنية مغلقة. هذه نص (texte) وذلك أثر (Oeuvre) . قصدي أيضا أن اللغة الشعرية هي أم جميع اللغات الحية، وأن دور هذه اللغة - الأم حاسم وجوهري ، ولا سيما في اللحظات العصيبة. مثلا [ على سبيل الاستعارة ليس غير ] تلك اللحظة التي يكون فيها المرء بين الحياة والموت، فوق الحافة أو فوق الحرف. لا فرق . حينها ترِقُّ اللغة وتصفو وتصير أكثر مضاء من نصل، ومن دمعة، ومن برعم. هي إذن لحظة التجلي. كثافة، واستبصار، وتوتر : بين الشطوط والأعالي، بين المبني والمفكك. من هنا قول نتشة: «إن الفن لا يكون قريبا من جوهره إلا حينما يحوم الموت من حوله » . للمرة الألف إذن، ليس ثمة شعر إلا وهو محفوف بالمخاطر. وعي هذه الحقيقة تؤكده العين المجردة. ولكن، من حسن الحظ أن «العشب المعتوه لا يعرقل مرور الظل». ثم إن الخيال قوة اقتراحية حتى في العلم [ الخيال العلمي] فما بالك به في الشعر؟ طبعا، لا قياس مع وجود الفارق، سواء بين العلم والشعر أو بين الخيال والوهم (كولريدج). دعك عني. ولا تقل لي مرة أخرى: بماذا يقاس الفارق: بالحصى؟ بالأذرع ؟ بالأمتار؟ بالحساب الذهني؟ في جميع الحالات، وفي ضوء مثل ملغاشي يقول: «إن البحث عن بلاد بلا أضرحة يقود إلى بلاد أكلة لحوم البشر» فليس في طاقة الشعر ولا من مهامه أن يمحو من الوجود، بقافية أو بغيرها ، ظاهرة قائمة بذاتها هي ظاهرة الموت. لا غبار على هذا. غير أن للشعر قوة ذاتية أين منها تلك التي كان الخيميائيون القدامى يعزونها إلى حجر الفلاسفة؟ والمقصود قوة تحويل الوهم إلى حقيقة، وبالتالي تحويل الموت إلى حياة. قل: إلى متاهة، ولا تخش أي شيء . في الأخير ، كل شيء في هذا الكون متاهة: الدورة الدموية، الطريق السيار، الأنترنيت، الجسد، اللغة، المعنى، وهكذا دواليك. الكون نفسه متاهة. لربما. ولكن، أين رأس الخيط ؟ أين هو الزمن الضائع؟ وأين ينبغي أن نبحث عنه ؟ بعبارة أوضح: في أي محطة نحن الآن ؟ لا هذه محطة استراحة (aire de repos) ولا هذه نهاية السير ( terminus) . صبرا علي. ماذا أرى؟ مارسيل ، وراء الزجاج، في مقعده وهو فتى. وفي الوقت ذاته، فوق الرصيف وهو في سن الرجولة. - انتباه . هذه المحطة لا يتوقف فيها القطار. - لأقفز إذن . لأقفز . وليكن ما يكون . أَسْمَاكٌ فَوْقَ الأَشْجَارِ في حاشية البحر: « قبل الصعود إلى السفينة، إذا رأى المرء هرّاً يلحس وبره فينبغي عليه أن يعزف عن السفر. عليه أن لا يصعد إلى السفينة، وأن يمكث في الميناء . ثمة زوبعة في الطريق». زولوجيا : « يعيش البجع في شروط طبيعية صعبة للغاية. ولكن يكفيه ما يجده [وهو عالق في الجليد] من ثقوب أمامه كي ينسل من بينها ويذهب للبحث، سيان عن قوته أو حتفه». عند الفراعنة : « كانت الآلهة تنظر بعين الرحمة إلى الغرقى. ولكن، في الأخير، تنحاز إلى إلاه الماء : نون . وتترك السفن تحت رحمة الأمواج». عند الصينيين : « صباحا مطر ووحل. مساء ريح وغبار . غدا حرارة مفرطة. هكذا نسافر حتى ونحن في بيوتنا ». «عند الوصول ، نقول دائما : كم كان السفر ممتعا!». عندي : كم أنت واهم ياكافافي ! وصول البرابرة ليس هو الحل. بيننا وبينهم سنوات مائية . لن ينفع الانتظار. وقد لا ينفع حتى حل البرلمان. ماذا إذن لو أحدثنا ثقوبا سوداء في هذه الورقة، ثم انسللنا من بينها، نحن أيضا، نحو قلب المتاهة. ثمة: المجرات أساطيل، والنجوم سفن ، والبحارة شعراء. ثمة، كذلك ، أسماك فوق الأشجار. طوبَى لِلْمَتَاهَةِ طوبى لها . على الأقل ، لأن الظهيرة - في عمر الشمس - وقت عابر. في هذا الوقت يشتد العطش بالماء فينحني لكي يشرب . ولكن، غالبا ما تزل به قدماه ويسقط مغشيا عليه فوق الأرض. هكذا هي حالة الماء، ولا سيما في عز الظهيرة. ثمة وقت آخر: الغروب. لا هو ماء ولا هو سراب . هو - بالأحرى - عتبة من بخار . تليها أبواب: تارة من قرون ، وتارة من عاج. هذا ما رأيت . وهذا ما كان . كيف أنسى، أنا الأعمى؟ حدث هذا في أحد مرابع صباي : حي القطانين، في فاس . ثمة - عند مدخل درب البرْكة ( بسكون الراء ) - طالما جلست ، ولا سيما عند الغروب ، فوق دكة وأنا في منتهى الدهشة . قصص في غاية الغرابة، وعوالم في غاية السوريالية كان يحكيها لي أحد رفاقي في المدرسة زاعما أنه قد عاشها بالفعل. في سني تلك وأنا دون العاشرة حيث الحدود ما تزال غير واضحة تماما بين الواقع والأسطورة ما كان مني إلا أن أصدقه حتى وإن كنت أقول مع نفسي : لا، هذا محال. آنذاك لم أكن قد قرأت بعد لا «بدائع الزهور في وقائع الدهور» (ابن إياس) ولا « تحقيق ما للهند » (البيروني). والآن، بعد أن صار «الأدب في خطر» ( تودوروف) ما قولي ؟ هل عبرت النهر ونشفت قدماي؟ لا، ليس تماما. إن بعض الينابيع ما تزال نائمة في أعماقي . ثم إنني كلما قرأت كفي بنفسي خيل إليّ أن لمسة السرد، ولربما أيضا الطقس الغرائبي الذي يخيم على بعض شعري لا يجدان تفسيرهما فقط في خرافات الأم والجدة ، أو في قراءات مبكرة في « ألف ليلة وليلة» وما أشبه ، ولكن كذلك في تلك « المرتجلات » التي كنت أقبل عليها بنهم شديد فوق تلك الدكة ، في ذلك الدرب. ما يحيرني الآن أكثر هو السؤال التالي: لماذا لم يصر صاحبي ذاك لا روائيا ولا كاتب قصة قصيرة؟ ألم يكن ذا موهبة خارقة في رصد الحدث من وجهات نظر مختلفة؟ في سبك المتن الحكائي؟ وفي توظيف الكرونوتوب؟ ألم تكن خرافاته ذات مورفولوجية دقيقة الصنع؟ أم أنه كتب وما زال يكتب، ولكن باسم مستعار ؟ من يكون إذن : أحمد بوزفور؟ أحمد المديني ؟ ربيعة ريحان ؟ على الأرجح ، هو أحمد المديني. من سواه ؟ هو الذي انتزع القلم من بين أصابعي، وكتب في قصة تحت عنوان : «الشعب يريد إسقاط ... بوطاقية » : « في الجهة المقابلة للساحة السابقة لمبنى وزارة الإعلام وقفت أتفرج على حلقة تحيط بشخص في وسطها. قادني فضولي نحوه مثل كثير ، خاصة حين اتسعت الحلقة ، فغرت فمي لما رأيت الشخص، فقد كان يشبهني تماما ، ويرتدي الملابس ذاتها التي أرتدي ، ما عدا نظارتيه السوداوين». (الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي، يوم 11/02/2011). تأبى المفارقة أيضا إلا أن يكون ذلك الدرب المعلوم [درب البرْكة] هو المكان الذي كان يحتضن، في ما مضى، سوقاً للعبيد . ياللشعراء ! وياللعبيد! منذ أن كانوا ومراياهم متجاورة. والحصيلة. بنية ضدية. ها هنا عمل شاق . وهنالك رغبة عارمة في التحرر والانعتاق . شهودي كلهم من أصحاب الرؤى والاستعارات «البعيدة». من بينهم : الشعراء الصعاليك [ ولا سيما الأغربة الذين ينحدرون من أمهات إماء]، «عبيد» الشعر ، وأصحاب « البديع » قديما ، ثم أصحاب الشعر الحر ومن تلاهم في العصر الحديث . هؤلاء كلهم من أصحاب السوابق . وعقابهم - على غرار سيزيف - أن يرفعوا الحجارة على أكتافهم إلى أعلى، دون كلل، أي إلى أن يكتمل بناء تقاليد شعرية واضحة المعالم. ثم للتو [ أحيانا بالتدريج ، للقطيعة منطقها] تشرع الحجارة في السقوط فوق رؤوسهم . وقد يسقط المعبد من أساسه. وهكذا دواليك. معبد وراء معبد إلى أن ينفد الحبر، وقد لا ينفد. جاء في القاموس المحيط: « البديع حبل ابتدئ فتله ولم يكن حبلا، فنكث ثم غزل ،ثم أعيد فتله». أما في جريدة لوموند بتاريخ 12/11/2010 فقد جاء في حوار مع إيف بونفوا قوله:«إن تفكيك الإيديولوجيات هو ما يبحث عنه الشعر». طبعا الإيديولوجيا وعي زائف. إذن ما هو الوعي الحقيقي؟ هو العلم في التحليل الماركسي. ولكن، في الحقيقة، هو الشعر. له الأسبقية . هكذا هي الأشياء فوق الأرض، كرونولوجيا على الأقل. ألم تسبق حركة الشعر الحر( 1948) حركة الضباط الأحرار ( 1952)؟ حتى الرواية ، نادرا ما تحقق مثل هذه الضربة الاستباقية. هذا هو السائد، ولكن وفق نظرية الأنواع التقليدية. أما ما عدا هذا فالأمر مختلف، ولا سيما حين تنتقل العلاقة بين الشعر والرواية من الجوار إلى الملكية المشتركة [ للنص] . هاهنا يتداخل «زمن الشعر» و«زمن الرواية». وهاهنا أيضا يكون « زمن الشعرية» هو المدخل المناسب. ليس من باب أن « الشعرية علم موضوعه الشعر» ( جون كوهين) ، ولكن من باب أن « الشعرية هي النظرية العامة للأشكال الأدبية» ( جيرار جنيت) . يتأسس على هذا ، ولو ضمنيا، أن الأشكال غير ثابتة. هي وما تقتضيه حركية النص، سواء أكان هذا النص بيت عنكبوت ، أم جسرا متحركا، أم عربة مجرورة ، أم حلبة - سيان - للمصارعة الحرة أو للرقص فوق الجليد. مهما يكن ، ينبغي أن يكون النص ميدان تحرير. من جهة لأن الكتابة - بحسب التعريف - حرية ( سارتر، بارت) . ثم من جهة أخرى لأنها لعب حر ( جاك دريدا) . والخلاصة: أول الحرية شق العصا. بِهَذَا نَطَق سَهْمِي نطق أول ما نطق في ذلك الحي بالذات، « حي القطانين» في فاس . ثمة وأنا تلميذ في « مدرسة الشعب» فتنني شعر أبي القاسم الشابي. أول العنقود : « من أغاني الرعاة». أما واسطة العقد ف « إرادة الحياة» ومطلعها : « إذا الشعب يوما أراد الحياة » .. الخ . القصيدة. في سني تلك خيل إلي أن شعرا من هذه الطينة يستحق أن يكتب بماء الذهب. ليس - بالضرورة - لقيمته الفنية، فالأوان لم يحن بعد لوضع هذه القيمة في الحسبان . ولكن - بالأحرى - لأنني أنتمي إلى مدرسة حرة هي « مدرسة الشعب». أليس هذا مدعاة للشعور بالفخر ، ولا سيما بالنسبة للتلميذ الذي كنته آنذاك ؟ ثم إنني أنتمي إلى شعب سكانه الأصليون أمازيغ، أي أحرار . ياللوعي الشقي ! مع الوقت، صار وعيي أكثر شقاء. تشعبت بي السبل . انقسمت الذات على أكثر من ذات. كثرت المصابيح في عز الظهيرة . وفاض الماء عن المعنى. الدارالبيضاء في 1702..2011