الرئيسية
السياسية
الاقتصادية
الدولية
الرياضية
الاجتماعية
الثقافية
الدينية
الصحية
بالفيديو
قائمة الصحف
الاتحاد الاشتراكي
الأحداث المغربية
الأستاذ
الاقتصادية
الأول
الأيام 24
البوصلة
التجديد
التصوف
الجديدة 24
الجسور
الحدود المغربية
الحرة
الدار
الرأي المغربية
الرهان
السند
الشرق المغربية
الشمال 24
الصحراء المغربية
الصحيفة
الصويرة نيوز
الفوانيس السينمائية
القصر الكبير 24
القناة
العرائش أنفو
العلم
العمق المغربي
المساء
المسائية العربية
المغرب 24
المنتخب
النخبة
النهار المغربية
الوجدية
اليوم 24
أخبارنا
أخبار الجنوب
أخبار الناظور
أخبار اليوم
أخبار بلادي
أريفينو
أكادير 24
أكورا بريس
أنا الخبر
أنا المغرب
أون مغاربية
أيت ملول
آسفي اليوم
أسيف
اشتوكة بريس
برلمان
بزنسمان
بوابة القصر الكبير
بوابة إقليم الفقيه بن صالح
أزيلال أون لاين
بريس تطوان
بني ملال أون لاين
خنيفرة أون لاين
بوابة إقليم ميدلت
بوابة قصر السوق
بيان اليوم
تازا سيتي
تازة اليوم وغدا
تطاوين
تطوان بلوس
تطوان نيوز
تليكسبريس
تيزبريس
خريبكة أون لاين
دنيابريس
دوزيم
ديموك بريس
رسالة الأمة
رياضة.ما
ريف بوست
زابريس
زنقة 20
سلا كلوب
سوس رياضة
شباب المغرب
شبكة أندلس الإخبارية
شبكة دليل الريف
شبكة أنباء الشمال
شبكة طنجة الإخبارية
شعب بريس
شمال بوست
شمالي
شورى بريس
صحراء بريس
صوت الحرية
صوت بلادي
طنجة 24
طنجة الأدبية
طنجة نيوز
عالم برس
فبراير
قناة المهاجر
كاب 24 تيفي
كشـ24
كود
كوورة بريس
لكم
لكم الرياضة
لوفوت
محمدية بريس
مراكش بريس
مرايا برس
مغارب كم
مغرب سكوب
ميثاق الرابطة
ناظور برس
ناظور سيتي
ناظور24
نبراس الشباب
نون بريس
نيوز24
هبة سوس
هسبريس
هسبريس الرياضية
هوية بريس
وجدة نيوز
وكالة المغرب العربي
موضوع
كاتب
منطقة
Maghress
المغرب يعزز دوره القيادي عالميا في مكافحة الإرهاب بفضل خبرة وكفاءة أجهزته الأمنية والاستخباراتية
هزة ارضية تضرب نواحي إقليم الحسيمة
ارتفاع رقم معاملات السلطة المينائية طنجة المتوسط بنسبة 11 في المائة عند متم شتنبر
إيداع "أبناء المليارديرات" السجن ومتابعتهم بتهم الإغتصاب والإحتجاز والضرب والجرح واستهلاك المخدرات
بلومبرغ: زيارة الرئيس الصيني للمغرب تعكس رغبة بكين في تعزيز التعاون المشترك مع الرباط ضمن مبادرة "الحزام والطريق"
لقجع وبوريطة يؤكدان "التزام" وزارتهما بتنزيل تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية بالمالية والخارجية
أشبال الأطلس يختتمون تصفيات "الكان" برباعية في شباك ليبيا
مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر
الرباط.. إطلاق معرض للإبداعات الفنية لموظفات وموظفي الشرطة
بوريطة: الجهود مستمرة لمواجهة ظاهرة السمسرة في مواعيد التأشيرات الأوروبية
اللقب الإفريقي يفلت من نساء الجيش
منتخب المغرب للغولف يتوج بعجمان
النصيري يهز الشباك مع "فنربخشة"
الجمارك تجتمع بمهنيي النقل الدولي لمناقشة حركة التصدير والاستيراد وتحسين ظروف العمل بميناء بني انصار
عبد الله بوصوف.. النظام الجزائري من معركة كسر العظام الى معركة كسر الأقلام
نهضة بركان يتجاوز حسنية أكادير 2-1 ويوسع الفارق عن أقرب الملاحقين
عمليات تتيح فصل توائم في المغرب
المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي
حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء
بعد قرار توقيف نتنياهو وغالانت.. بوريل: ليس بوسع حكومات أوروبا التعامل بانتقائية مع أوامر المحكمة الجنائية الدولية
أنشيلوتي يفقد أعصابه بسبب سؤال عن الصحة العقلية لكيليان مبابي ويمتدح إبراهيم دياز
كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة
المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة الجاحظ ويحافظ على حصته من التونة الحمراء
التفاصيل الكاملة حول شروط المغرب لإعادة علاقاته مع إيران
الأخضر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء
كرة القدم النسوية.. توجيه الدعوة ل 27 لاعبة استعدادا لوديتي بوتسوانا ومالي
اغتصاب جماعي واحتجاز محامية فرنسية.. يثير الجدل في المغرب
الحسيمة تستعد لإطلاق أول وحدة لتحويل القنب الهندي القانوني
هتك عرض فتاة قاصر يجر عشرينيا للاعتقال نواحي الناظور
قمة "Sumit Showcase Morocco" لتشجيع الاستثمار وتسريع وتيرة نمو القطاع السياحي
انتخاب لطيفة الجبابدي نائبة لرئيسة شبكة نساء إفريقيات من أجل العدالة الانتقالية
توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد
نمو صادرات الصناعة التقليدية المغربية
اعتقال الكاتب بوعلام صنصال من طرف النظام العسكري الجزائري.. لا مكان لحرية التعبير في العالم الآخر
بعد متابعة واعتقال بعض رواد التفاهة في مواقع التواصل الاجتماعي.. ترحيب كبير بهذه الخطوة (فيديو)
محمد خيي يتوج بجائزة أحسن ممثل في مهرجان القاهرة
المعرض الدولي للبناء بالجديدة.. دعوة إلى التوفيق بين الاستدامة البيئية والمتطلبات الاقتصادية في إنتاج مواد البناء
الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية
مثير.. نائبة رئيس الفلبين تهدد علنا بقتل الرئيس وزوجته
ترامب يعين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة في إدارته المقبلة
فعالية فكرية بطنجة تسلط الضوء على كتاب يرصد مسارات الملكية بالمغرب
19 قتيلا في غارات وعمليات قصف إسرائيلية فجر السبت على قطاع غزة
"السردية التاريخية الوطنية" توضع على طاولة تشريح أكاديميّين مغاربة
بعد سنوات من الحزن .. فرقة "لينكن بارك" تعود إلى الساحة بألبوم جديد
"كوب29" يمدد جلسات المفاوضات
ضربة عنيفة في ضاحية بيروت الجنوبية
بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية
طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح
الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي
لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !
تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)
اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم
بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!
في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء
سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية
شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
موافق
كشَمسٍ عَموديَّةٍ عَلى خطِّ الارْتِواء(*)
محمَّد حلمي الرِّيشة
نشر في
طنجة الأدبية
يوم 04 - 08 - 2008
"مَن ذَا الذي يَقوى على مُشاهدةِ شخصٍ يجلسُ إِلى منضدةٍ، أَو يَستلقي على أَريكةٍ مُحملقًا في الجدارِ أَوِ السَّقفِ بلا حركةٍ، إِلى أَن يكتبَ سبعةَ أَبياتٍ ليحذفَ أَحدَها بعدَ خمسَ عشرةَ دقيقةً، ثمَّ تمرُّ ساعةٌ أُخرى، خلالها لا يحدثُ أَيَّ شيءٍ؟"
(فيسوافا شيمبوريسكا)
كَأنَّهُ الأَمسُ اليومَ؛ قَبلَ سِتٍّ وثلاثينَ سنةً، حينَ فاجأَني مُحرِّرٌ بأَنَّ ما نشرْتهُ مُضمِرًا رسالةً لها، هوَ شعرٌ! وأَنَّ "رسالةً إِلى (م)"، وبعدَ أُسبوعٍ، أَصبحتْ "رسالةً إِلى (م) الأَديب"! ولَمْ أَدرِ آنذاكَ لِمَ أَطلْتُ النَّظرَ إِلى اسْمي في الصَّفحةِ، وقدْ أَنساني هذا، لزمنٍ ما، وجهةَ الرِّسالةِ وانتظارَ الرَّدِ عليها، إِذِ ال(م) الثَّانيةُ طَغتْ على الأُولى بما يُشبه المحوَ.. وأَتساءلُ: هل كانتِ (الرِّسالةُ) حَبْوةَ الشِّعرِ الأُولى آنَها دونَ أَن أَدري؟
لَمْ أَكُن أَعي، دونَ شكٍّ شهيٍّ، أَنَّ تلك اللحظةَ كانت باباً إِلى المجهولِ الآتي؛ إِلى بَدءِ الحفرِ بأَصابعَ غَضَّةٍ، والسَّيرِ بخُطىً أُفقيَّةٍ وعموديَّةٍ، والسِّباحةِ في الفضاءِ المُضاءِ بنجومٍ مُشعَّةٍ بتأَلُّقِ حُروفِها.. هكذَا كانَ مَا كانَ؛ دونَ إرادةٍ مُسبَّقةٍ، وفَورانِ مُراهقةٍ، وعُنفوانِ ذاتٍ.
لا أُريدُ أَن أُطيلَ أَكثرَ عن هَزَّةِ البَدءِ، فقطْ كانَ هذَا لأَنني كنتُ أَبحثُ عَن فَقرةٍ/ جملةٍ أُولى، تُقْفِزُني عن سِياجِ الرِّيحِ الذي صدَّني نحوَ نبشِ الذَّاكرةِ؛ إِذْ ثمَّةَ في كلِّ إِبداعٍ (أُحِسُّني، الآنَ، في حالةٍ تُشبهُه) تَناوُرٌ بينَ الذَّاكرةِ المُنتبهةِ والمَخيَلةِ التَّأْويليَّةِ.. تُخرِجُني من غَبشِ المَوقفِ وحَيرتهِ الشَّاعرةُ فيسوافا شيمبوريسكا: "يَقولونَ إِنَّ أَوَّل جملةٍ في الخُطبةِ هي الأَكثرُ صُعوبةً. حسنٌ، هيَ الآن خَلفي على أَيَّةِ حالٍ".
*
لعلَّها الصُّدفةُ المحنَّكةُ تلكَ التي قَادتني، بعدَ حينٍ من حَبْوي الشِّعريِّ، إِلى مَعرفةِ الشِّعر بِطَريقتِها التي تَعتنِقُها؛ تلكَ التي قَادَتني إِلى "قلعة آكسل" للناقد إِدموند ولسون، عبرَ مَمَرِّ كتابٍ سِيَرِيٍّ نَقديٍّ، رَغمَ الكمِّ الكبيرِ من جُرْعاتِ النُّصوصِ الشِّعريَّةِ والأَدبيَّةِ المدرسيَّةِ التي مَقَتُّ الكثيرَ مِنها، والتي كانت السَّببَ في تَحوُّلي من كليَّةِ الآدابِ إِلى كليَّةِ الاقتصادِ والعلومِ الإِداريَّةِ، حين رأيتُ أَنَّ المدرسةَ كانت في الجامعةِ، أَيضًا.. "وَصْفتي لنشرِ الشِّعرِ في المدارسِ هي منعهُ، واعتبارُ حيازتهِ جريمة، ومعاملةُ مَن يتعاملُ معهُ معاملةَ المجرمينَ" يقول كليف جيمس، وكذلكَ مِن على أَرفُفِ مَكتبتيِّ البيتِ والبلديةِ، وما زلتُ أَذكرُ بِفخرٍ أَخضرَ نصيحةَ الشَّاعرِ علي الخليلي سنةَ (1976)، أَنْ أَقرأَ "الإِشارات الإِلهية" لِ أَبي حيَّان التَّوحيدي، وأَذكرُ كيفَ قَرأتُ، إِبَّانَ المرحلةِ المدرسيَّةِ الكتابَ الضَّخمَ "الوجود والعدم" لِ جان بول سارتر، و"العالم إِرادة وفكرة" لِ آرثر شوبنهاور، و"قصة الحضارة" و"قصة الفلسفة" لِ ديورانت، ومعظمَ كتبِ كولن ولسون، وأَبرزها "الشِّعر والصُّوفية"، وغيرَها الكثيرَ، خصوصًا دواوينَ الشِّعرِ العربيِّ، والتي كانتْ محطَّ إِشكالٍ مُعقَّدٍ بَيني وبينَ مدرِّسِ مَساقِ الأَدبِ العربيِّ في الجامعةِ، حينَ قلتُ لهُ في المحاضرةِ الثَّانيةِ من الفَصلِ: ثلاثةُ أَرباعِ الشِّعرِ العربيِّ ليسَتْ شعرًا، وإِنَّما هي نظمٌ.. ثمَّ وأَتذكَّرُ الصَّوتَ الصَّارخَ الكانَ مُنتشرًا لشُعرائِنا في السَّبعينياتِ منَ القَرنِ الماضِي، والمفتقدَ لِمَا صِرْتُ إِليه باكرًا مِن فهمِ الكتابةِ الشِّعريَّة، كَأَنَّ إِيمانًا اندسَّ في خَاطري الشِّعريِّ بكلِّ براءةٍ بيضاءَ، وطفولةٍ كبيرةٍ، حيثُ إِنَّه: "ليسَ بِوسعِ قصيدةٍ أَنْ تُوقِفَ حربًا، هذا ما يُفترَض أَن تفعلَهُ الدُّبلوماسيَّة، أَمَّا الشِّعرُ فهوَ سفيرٌ مُستقلٌّ يُمثِّلُ الضَّميرَ، وهوَ لا يَستجيبُ لأَحدٍ، وهوَ يعبرُ الحدودَ بلا جوازِ سَفرٍ، ولا يقولُ إِلاَّ الحقَّ، وهذا هوَ السِّرُ في أَنَّه- ودَعْكمْ مَّما يُقال عن هامِشيَّتهِ- واحدٌ من أَكثرِ الفُنونِ قُوَّة" كما يقولُ إلين هينسي.
إِنَّ هذا الفَهمَ الذي أَغبِطُني عليهِ، بكلِّ تواضعٍ، لبلوغيَ إيَّاهُ في بِكوري الشِّعريِّ، أَخذَ بِيَدِ قَصيدتي إِلى جِهةٍ مجهولةٍ مختلفةٍ.. "الشِّعرُ قفزةٌ إِلى المجهولِ، وإِلا فَلا" كما قالَ الشَّاعرُ أُوكتافيو باث، وحينَ كنتُ أُقارِنُ بينَ مَا أَقرؤهُ شِعرًا فِلَسْطينيًّا ومَا أَكتبهُ، كنتُ أَجِدُني مُبتعِدًا شكلًا عن هُويَّتي، وقريبًا من مَضمونِها كغَيري منَ الشُّعراء، لِهذا كانتِ "الخيل والأُنثى"، أُولى مجموعاتي سنةَ (1980)، مُهملةً قِراءةً ونقدًا، وحينَ سأَلتُ عن السَّبب، أُجِبتُ من أَكثرَ من مُهتمٍّ، أَنَّ شِعري غامضٌ، وغيرُ مفهومٍ، وما زلتِ أَذكرُ، مثلاً، قَولةَ الكاتبِ والأَكَّاديمي د. عادل الأُسطة، قبلَ عابرٍ طويلٍ من السَّنواتِ: "شِعْرُكَ زئبقيٌّ، أَو مثلُ الزِّئبق"! في حينِ أَن الشَّاعرَ المتوكل طه في مُقدمتهِ لكتابِ "ظلال الرَّقص"، كتبَ تحتَ عنوان "لشعرٍ مختلفٍ.. نقدٌ مختلفٌ- الرِّيشةُ منَّا.. على غيرِ سِربِنا": "إِنَّ شعرَ أَخي محمَّد حلمي الرِّيشة قدْ شَكَّلَ، ضمنَ جيلِنا، استثناءً ضَروريًّا يَستدعي معهُ التَّبؤُّر والبحثُ عن تجربةٍ شعريَّةٍ مختلفةٍ في إِيقاعِها ولُغتِها ومَقاصدِها"، وفي حين أَنَّ الرُّوائي والنَّاقدَ د. أَفنان القاسم، كتبَ دراسةً مُهمَّةً عن "حركةِ الإِشارةِ" في إِحدى قَصائدِي من مجموعتي الثَّانيةِ "حالات في اتِّساع الرُّوح" سنةَ (1992).. لنُلاحظِ الفرقَ العدديَّ في السَّنوات بين سنتيْ ميلادِ المجموعتينِ، والذي أَصدقُكمْ بأَنني كنتُ، بَينهُما، جرادةَ قراءةٍ شعرًا ونثرًا ونقدًا، وفي مسائلَ ثقافيَّةٍ أُخرى، أَيضًا، لضرورةِ الشِّعرِ، ومن كلِّ حُقولِ العالمِ، أَي من كلِّ ما قَنَصَتْهُ عينايَ، رغمَ فقرِ التَّوصُّلِ إِلى الجديدِ منهُ آنذَاك.
لقد فهمتُ الشِّعرَ أَنَّه "ليسَ مَسأَلةَ مشاعرٍ، بل هوَ مَسأَلةُ لغةٍ.. الشِّعرُ لغةٌ تخلقُ المشاعرَ" كما يقول أمبرتو إيكو.. أَي على الشَّاعرِ أَن يكتبَ شِعرَهُ لا مشاعرَهُ، كما هوَ الحالُ في كثيرٍ جدًّا ممَّا قرأْنا، ونقرأُ اليومَ، وربمَّا غدًا.
ثمَّةَ مسأَلةٌ مهمَّةٌ ضمنَ الإِدراكاتِ القديمةِ والمُتجدِّدةِ دائمًا بالنِّسبةِ لي، هيَ مسأَلةُ جماهيريَّةِ الشِّعرِ ، أَوِ انتشارهِ بين النَّاسِ على اختلافِ مستوياتِهم الثَّقافيَّةِ، بصفتهِ أَسرعُ وسيلةٍ للتَّعبيرِ عن كثيرٍ من قَضايا الإِنسانِ.. أَفهمُ أَنَّه وسيلةُ تعبيرٍ، لكنِّي لم أُؤمنْ، يومًا ما، بضرورةِ الانحدارِ باللُّغةِ إِلى ما دونَ مُستوى الشِّعريَّةِ التي هيَ أُوكسجينُ دمِ القصيدةِ، وإِنَّني أَعتنقُ قولةَ لويز جيليك: "لَم أَكُن يومًا ممَّن يشعرونَ بضرورةِ توسيعِ قاعدةِ قرَّاءِ الشَّعرِ، فأَنا أَشعرُ أَنَّ مَن يحتاجونَ الشِّعرَ يجدونهُ".
*
أَعترفُ، برضًا حينًا، وغيرِ رضًا حينًا آخرَ، أَنَّني استهلكتُ جُلَّ مَا مرَّ من عُمري، ولم أَزلْ، من أَجلِ الشِّعرِ.. هذا الاعترافُ أُوسِّعهُ ليكونَ أَمامَ عَائلتي للمرَّةِ القُصوى، لدرجةِ أَن أُمنيةَ الغُفرانِ بِهذا الإِهداءِ في إِحدى مجموعاتي: "إِلى زَوجتي التي تتحمَّلُني زوجًا شاعرًا"، أَعتقدُه لَمْ يزلْ أُمنيةً ورَجاءً وأَملاً في يومٍ آتٍ مَا، وحيثُ ما زلتُ أَسأَلُني بمَكرٍ حَانٍ، وخُبْثٍ عاطفٍ: لِمَ فعلتُ كلَّ هذا وأَنا كنتُ، وما زلتُ، أَشعرُ بنارهِ الكاويةِ أَكثرَ بكثيرٍ ممَّا أَرى من ضَوئهِ الضَّئيلِ، وأَحيانًا حدَّ العَمَى؟!
هل يرتبطُ هذا بأَنَّ ثمَّةَ للشَّاعرِ مَهمَّةٌ استثنائيَّةٌ وعصيَّةُ الانفلاتِ عن مَدارِها، رغمَ كونِها خارجَ نطاقِ جاذبيَّةِ الإِرادةِ الشَّخصيَّةِ؟ ربَّما لأَنَّ لحظةَ الشِّعرِ لحظةٌ مؤبَّدةٌ بشاعرِها الحقيقي، لذَا ليسَ ممكنًا لهُ أَن يُقرِّرَ لحظةَ الصَّمتِ الفِعلي، بأَن يَترُكَ، لأَيِّ غرضٍ/ هدفٍ مَقعدَهُ، ومنضدتَهُ، وقلمَهُ، ودُواتَهُ، وبياضَ أَوراقِهِ تحتَ ضوءِ قنديلٍ يَجفُّ زيتُهُ قبلَ أَن يَجفَّ الحبرُ المسكوبُ على عِشرَةِ الورقِ، وربَّما لأَن القصيدةَ عصفورةُ القلبِ كما أُحسِّها فيهِ، ولأَنَّ "الشِّعرَ أَنقى فنونِ اللُّغةِ ، وهوَ في أَضيقِ الأَقفاصِ، فإِنْ جعلتَهُ يُغنِّي هناكَ، فقدْ فَعَلْتَ شيئًا بالغَ الرَّوعة" كمَا تقولُ ريتا دُف.
*
قبلَ أَن يطأَ قَلبي، قبلَ قَدَمي الحافيةُ، "بيت الشِّعر"، في منتصفِ سنة (2000)، كانَ أَخي الشَّاعرُ مراد السُّوداني يأْتيني، مع كلِّ شُكري وامتِناني الجزيلَينِ لهُ، إِلى مكتبي في وزارةِ الماليَّةِ، كلَّ فصلٍ شِعريٍّ بفصليَّةِ "الشُّعراء"، واضعًا إِهداءً رقيقًا بِرِقَّةِ قَلبهِ الأَبيض، ولُغةِ "رغبوت"هِ الشِّعريِّ التي شدَّتني إِليها، وإِمضاءً أَشبَهَ بخليَّةِ نَحلٍ، هكذَا أَرَاها، وأَتساءلُ: هل كانَ، آنذاكَ، يَضعُ لي فخًّا بِطُعمٍ شَهيِّ، كي يصطادَني إِلى "بيت الشِّعر"؟ حتَّى هذهِ اللَّحظةِ لستُ أَدري، ولَمْ أَسأَلْهُ يومًا مَا مضَى، وهذهِ هيَ المرَّةُ الأُولى التي أَسَأَلها، ولا أُريدُ جوابًا أَبدًا، لكنِّي أَبوحُهُ هُنا، لأَقولَ لهُ: شكرًا لكَ لفِعلِكَ، بإِثمهِ المغفُورِ!
لعلَّ الأَقسى جمالاً في سنيِّ العمرِ، هيَ سنواتِي الكانتْ، والمازالتْ، في "بيت الشِّعر"، وتحديدًا لحظةَ هبوبِ الانتفاضةِ في شهرِ أَيلول/ سبتمبر سنةَ (2000)، حيثُ كانَ لا بدَّ من البقاءِ فيهِ قيامًا وقعودًا وعملاً ونومًا قليلاً جدًّا، مع الأَخِ والزَّميلِ الشَّاعرِ مراد السُّوداني، وبعضِ الزُّملاءِ من خارجِ هاتينِ المَدينتينِ المُتلاصقتينِ.. كنَّا هُنا أَشدَّ إِخلاصًا ممَّا لعائلاتِنا وأَهلينَا، وأَشدَّ حرصًا على فصليَّةِ "الشُّعراء"، كي لا تَتوقَّفَ فصلاً واحدًا، وكي يظلَّ هذا "البيتُ" مفتوحًا على مصراعيِّ البيتِ الشِّعريِّ العربيِّ.
ثمَّ كانَ الاجتياحُ البَغيضُ الذي تَعرَّفنا فيهِ إِلى الجوعِ الحقيقيِّ أَوَّل مرَّةٍ ولثلاثةِ أيَّامٍ متتاليةٍ، فقدِ استعذبتْ إِحدى الدَّباباتِ الرُّكونَ أَمامَ "بيت الشِّعر"، وكانت طلَّتُها البغيَّةُ تَصِلُّ وتَصِلُ نوافذَهُ التي كانتْ تنخَّلتْ بالرَّصاصِ الأَثيمِ.
عِشنَا، إِنْ كانت تُناسبنُا هذهِ الكلمةِ، فَقطْ على الماءِ والسَّجائرِ التي سرعانَ ما نَفدَتْ في اليومِ الأَول لِقلَّتِها، وأَذكرُ أَنَّه في صباحِ اليومِ الثَّالثِ، كيفَ أَنَّ أَخانا وزميلنا سامي عزمي، قد هبطَ بجَراءةٍ من شرفةِ الدَّورِ العلويِّ بحبالِ يديهِ من خَوفهِ علينَا، فيما يُشبهُ الهبوطَ إِلى الموتِ، رغمَ عيونِ الجنودِ، ليُحضِرَ لنا ما استطاعَ إِليهِ سبيلاً.. شكرًا لكَ أَبا عزمي (اسمٌ على مُسمَّى) للمرَّةِ الأَلف، على تلكَ العزيمةِ التي نَفضتْ أَمعاءَنا، بعدَ أَن كنَّا نتوقَّعُ أَن نصبحَ مُومياءاتٍ لو استمرَّ الحالُ بنَا بضعةَ أيَّامٍ أُخَر.
هذهِ حكايةٌ تراجيديَّةٌ من حَكايا كثيرةٍ بوقائعَ مختلفةٍ مليئةٍ بالأَلمِ والمعاناةِ، إِلى جانبِ الإِصرارِ بعشقٍ مجنونٍ على الدَّيمومةِ؛ على البيتِ وشِعرهِ.. لقد كنتُ، آنذاكَ، أَستشعرُ أَنَّ الشَّاعرَ أورهان ولي ما زالَ يندهُ عَلينا من تُركيَّتهِ بصوتٍ يَذوي رُويدًا رويدًا:
"مَا الذي لَمْ نَفعلْهُ من أَجلِ الوَطنِ؟
مَنَّا مَن قُتِلَ
ومنَّا مَن أَلقى خُطبًا!"
ورغم فَداحةِ عددِ القَتلى/ الشُّهداءِ، كانَ عددُ الخطباءِ المُتناحرينَ على المنصَّاتِ الفضائيَّةِ أَكثرَ.
أَسوقُ هذا الكلامَ كسِربِ نُسورٍ خَفيضٍ لأَنَّهُ الأَكثرُ بلاغةً في نشيدِ حَياتي، رغمَ أَنَّني لمْ أُدوِّنهُ شعرًا، ولستُ أُريدُ، لأَنَّني أَرفضُ تخليدَ الأَلمِ شعرًا مهمَا كان باعثهُ وقدسيَّتُه، لأَنَّ الشِّعرَ شرفةٌ مفتوحةٌ على فَضاءاتِ الحياةِ والحريَّةِ والحبِّ، وليس على حدائقِ الدَّمِ والدَّمارِ والدُّونيَّةِ، وكذلكَ لأَنَّ "الشِّعرَ لا يُكتَبُ انطلاقًا من اليأْسِ الذي هوَ في جَوهرهِ خرسٌ مطبقٌ.. الشِّعرُ الذي يَبدو مُنطلِقًا منَ اليأْسِ هوَ في الحقيقةِ وسيلةٌ لتهشيمِ اليأْسِ" كما يَعتقدُ كريستيان وَيْمن.
*
"بيتُ الشِّعرِ- بَيتي" يُكرِّمني؟!
وَاشِعرَاهُ بعدَ ستٍّ وثلاثينَ سنةً، وعِشرينَ كتابًا، منهم ثلاثَ عشرةَ مجموعةً شعريَّةً..
شكرًا لكمْ أَيُّها الكثيرونَ الحاضرونَ الذين حَجَبتُم عُيوني عن رؤيةِ الجانبِ المُعتمِ منَ اليأْسِ..
شكرًا لكَ أَخي وزميلي الشَّاعر مراد السُّوداني لِمُفاجأَتكَ لي بهذا التَّكريمِ الذي أَشعرُني أَفهمُ مغزاهُ ونواياهُ
البيضاءَ
.. شكرًا لكَ، ثانيةً وأَكثرَ، لأَنَّني مَهما نَسِيتُ أَو تناسيتُ من آلامِنا هُنا، فلنْ أَستطيعَ أَن أَنسَاكَ تُهدِّئُ منَ انفعالي بسببِ اختناقِنا وحصارِنا كأَنَّنا في قفصٍ بِأَعمدةِ شِباكٍ مُتلاصقةٍ، رغمَ دموعكِ التي رأَيتُها أَوَّلَ مرَّةٍ، وأَنتَ تكلِّمُ ابنكَ الطِّفلَ عبرَ الهاتفِ، ليسَ لأَنكَ اشتقتَ إِليه فقط، بل لأَنكَ تكذبُ عليهِ كذبةً بيضاءَ أَنكَ راجعٌ إِلى البيتِ صباحَ غدٍ مع هديةٍ جميلةٍ!
شكرًا لكمْ زميلاتي وزُملائي في هذا البيتِ/ الطَّودِ العظيمِ..
شكرًا لكِ زَوجتي/ مَلِكةَ شِعري، ولِبَناتِي وأَبنائِي الذين لمْ أُشاهِدْهمْ وهُمْ يَكبُرونَ ويتفوَّقونَ وأَنا بعيدٌ عنهمْ، وأَزورهمْ كأَنَّني ضيفٌ خفيفُ الإِقامَةِ/ ثقيلُ الغيابِ..
"بيتُ الشِّعرِ- بَيتي" يُكرِّمني؟!
أَيِّةُ نكهةٍ للدَّمعِ، لَم أَعهدْها من قبلُ، ستكونُ هذهِ المرَّة؟!
(*) نصُّ الكلمةِ التي أَلقيتُها في حَفلِ تَكريمي في "بيت الشِّعر" بتاريخ 13/07/2008.
انقر
هنا
لقراءة الخبر من مصدره.
مواضيع ذات صلة
إرشادات للتخلص من آلام الظهر
الأسبوع المصرية : أكاذيب أمريكا تكشفها حقائق المقاومة العراقية..أبو سمية: أسطورة المقاومة العراقية
يوم العيد .. أحكامه وآدابه
الرأي الآخر
دموع الزاكي وعلكة هنري
أبلغ عن إشهار غير لائق