حقائق وشهادات حول قضية توفيق بوعشرين مع البيجيدي: بين تصريحات الصحافي وتوضيحات المحامي عبد المولى المروري    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    التجمع الوطني للأحرار يثمن المقاربة الملكية المعتمدة بخصوص إصلاح مدونة الأسرة    حصيلة سنة 2024.. تفكيك 123 شبكة لتنظيم الهجرة غير النظامية والاتجار في البشر    الدكتور هشام البوديحي .. من أحياء مدينة العروي إلى دكتوراه بالعاصمة الرباط في التخصص البيئي الدولي    الدورة ال 44 لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب بالمنامة .. السيد الراشيدي يبرز الخطوط العريضة لورش الدولة الاجتماعية التي يقودها جلالة الملك    قيوح يشرف على تدشين المركز اللوجيستيكي "BLS Casa Hub" بتيط مليل    فرض غرامات تصل إلى 20 ألف درهم للمتورطين في صيد طائر الحسون بالمغرب    38 قتيلا في تحطم طائرة أذربيجانية في كازاخستان (حصيلة جديدة)    الدفاع الحسني يهزم الرجاء ويعمق جراحه في البطولة الاحترافية    رحيل الشاعر محمد عنيبة أحد رواد القصيدة المغربية وصاحب ديوان "الحب مهزلة القرون" (فيديو)    المهرجان الجهوي للحلاقة والتجميل في دورته الثامنة بمدينة الحسيمة    انقلاب سيارة على الطريق الوطنية رقم 2 بين الحسيمة وشفشاون    المغرب الرياضي الفاسي ينفصل بالتراضي عن مدربه الإيطالي غولييرمو أرينا    رئيس الرجاء يرد على آيت منا ويدعو لرفع مستوى الخطاب الرياضي    الإنتاج الوطني من الطاقة الكهربائية بلغ 42,38 تيراواط ساعة في متم 2023    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    الندوة 12 :"المغرب-البرتغال. تراث مشترك"إحياء الذكرىالعشرون لتصنيف مازغان/الجديدة تراثا عالميا. الإنجازات والانتظارات    حركة حماس: إسرائيل تُعرقل الاتفاق    أخبار الساحة    الخيانة الزوجية تسفر عن اعتقال زوج و خليلته    روسيا: المغرب أبدى اهتمامه للانضمام إلى "بريكس"    عبير العابد تشكو تصرفات زملائها الفنانين: يصفونني بغير المستقرة نفسياً!    السعودية و المغرب .. علاقات راسخة تطورت إلى شراكة شاملة في شتى المجالات خلال 2024    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    الريسوني: مقترحات مراجعة مدونة الأسرة ستضيق على الرجل وقد تدفع المرأة مهرا للرجل كي يقبل الزواج    التنسيق النقابي بقطاع الصحة يعلن استئناف برنامجه النضالي مع بداية 2025    تأجيل أولى جلسات النظر في قضية "حلّ" الجمعية المغربية لحقوق الإنسان    بعد 40 ساعة من المداولات.. 71 سنة سجنا نافذا للمتهمين في قضية "مجموعة الخير"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    ابتدائية الناظور تلزم بنكا بتسليم أموال زبون مسن مع فرض غرامة يومية    جهة مراكش – آسفي .. على إيقاع دينامية اقتصادية قوية و ثابتة    برنامج يحتفي بكنوز الحرف المغربية    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    مصرع لاعبة التزلج السويسرية صوفي هيديغر جرّاء انهيار ثلجي    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    لجنة: القطاع البنكي في المغرب يواصل إظهار صلابته    ماكرون يخطط للترشح لرئاسة الفيفا    بطولة إنكلترا.. ليفربول للابتعاد بالصدارة وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    نزار بركة: 35 مدينة ستستفيد من مشاريع تنموية استعدادا لتنظيم مونديال 2030    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب    مجلس النواب بباراغواي يصادق على قرار جديد يدعم بموجبه سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية    باستثناء "قسد".. السلطات السورية تعلن الاتفاق على حل "جميع الفصائل المسلحة"    تقرير بريطاني: المغرب عزز مكانته كدولة محورية في الاقتصاد العالمي وأصبح الجسر بين الشرق والغرب؟    تزايد أعداد الأقمار الاصطناعية يسائل تجنب الاصطدامات    مجلس النواب بباراغواي يجدد دعمه لسيادة المغرب على صحرائه    ضربات روسية تعطب طاقة أوكرانيا    وزير الخارجية السوري الجديد يدعو إيران لاحترام سيادة بلاده ويحذر من الفوضى    السعدي : التعاونيات ركيزة أساسية لقطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني    ارتفاع معدل البطالة في المغرب.. لغز محير!    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كشَمسٍ عَموديَّةٍ عَلى خطِّ الارْتِواء(*)

"مَن ذَا الذي يَقوى على مُشاهدةِ شخصٍ يجلسُ إِلى منضدةٍ، أَو يَستلقي على أَريكةٍ مُحملقًا في الجدارِ أَوِ السَّقفِ بلا حركةٍ، إِلى أَن يكتبَ سبعةَ أَبياتٍ ليحذفَ أَحدَها بعدَ خمسَ عشرةَ دقيقةً، ثمَّ تمرُّ ساعةٌ أُخرى، خلالها لا يحدثُ أَيَّ شيءٍ؟"
(فيسوافا شيمبوريسكا)
كَأنَّهُ الأَمسُ اليومَ؛ قَبلَ سِتٍّ وثلاثينَ سنةً، حينَ فاجأَني مُحرِّرٌ بأَنَّ ما نشرْتهُ مُضمِرًا رسالةً لها، هوَ شعرٌ! وأَنَّ "رسالةً إِلى (م)"، وبعدَ أُسبوعٍ، أَصبحتْ "رسالةً إِلى (م) الأَديب"! ولَمْ أَدرِ آنذاكَ لِمَ أَطلْتُ النَّظرَ إِلى اسْمي في الصَّفحةِ، وقدْ أَنساني هذا، لزمنٍ ما، وجهةَ الرِّسالةِ وانتظارَ الرَّدِ عليها، إِذِ ال(م) الثَّانيةُ طَغتْ على الأُولى بما يُشبه المحوَ.. وأَتساءلُ: هل كانتِ (الرِّسالةُ) حَبْوةَ الشِّعرِ الأُولى آنَها دونَ أَن أَدري؟
لَمْ أَكُن أَعي، دونَ شكٍّ شهيٍّ، أَنَّ تلك اللحظةَ كانت باباً إِلى المجهولِ الآتي؛ إِلى بَدءِ الحفرِ بأَصابعَ غَضَّةٍ، والسَّيرِ بخُطىً أُفقيَّةٍ وعموديَّةٍ، والسِّباحةِ في الفضاءِ المُضاءِ بنجومٍ مُشعَّةٍ بتأَلُّقِ حُروفِها.. هكذَا كانَ مَا كانَ؛ دونَ إرادةٍ مُسبَّقةٍ، وفَورانِ مُراهقةٍ، وعُنفوانِ ذاتٍ.
لا أُريدُ أَن أُطيلَ أَكثرَ عن هَزَّةِ البَدءِ، فقطْ كانَ هذَا لأَنني كنتُ أَبحثُ عَن فَقرةٍ/ جملةٍ أُولى، تُقْفِزُني عن سِياجِ الرِّيحِ الذي صدَّني نحوَ نبشِ الذَّاكرةِ؛ إِذْ ثمَّةَ في كلِّ إِبداعٍ (أُحِسُّني، الآنَ، في حالةٍ تُشبهُه) تَناوُرٌ بينَ الذَّاكرةِ المُنتبهةِ والمَخيَلةِ التَّأْويليَّةِ.. تُخرِجُني من غَبشِ المَوقفِ وحَيرتهِ الشَّاعرةُ فيسوافا شيمبوريسكا: "يَقولونَ إِنَّ أَوَّل جملةٍ في الخُطبةِ هي الأَكثرُ صُعوبةً. حسنٌ، هيَ الآن خَلفي على أَيَّةِ حالٍ".
*
لعلَّها الصُّدفةُ المحنَّكةُ تلكَ التي قَادتني، بعدَ حينٍ من حَبْوي الشِّعريِّ، إِلى مَعرفةِ الشِّعر بِطَريقتِها التي تَعتنِقُها؛ تلكَ التي قَادَتني إِلى "قلعة آكسل" للناقد إِدموند ولسون، عبرَ مَمَرِّ كتابٍ سِيَرِيٍّ نَقديٍّ، رَغمَ الكمِّ الكبيرِ من جُرْعاتِ النُّصوصِ الشِّعريَّةِ والأَدبيَّةِ المدرسيَّةِ التي مَقَتُّ الكثيرَ مِنها، والتي كانت السَّببَ في تَحوُّلي من كليَّةِ الآدابِ إِلى كليَّةِ الاقتصادِ والعلومِ الإِداريَّةِ، حين رأيتُ أَنَّ المدرسةَ كانت في الجامعةِ، أَيضًا.. "وَصْفتي لنشرِ الشِّعرِ في المدارسِ هي منعهُ، واعتبارُ حيازتهِ جريمة، ومعاملةُ مَن يتعاملُ معهُ معاملةَ المجرمينَ" يقول كليف جيمس، وكذلكَ مِن على أَرفُفِ مَكتبتيِّ البيتِ والبلديةِ، وما زلتُ أَذكرُ بِفخرٍ أَخضرَ نصيحةَ الشَّاعرِ علي الخليلي سنةَ (1976)، أَنْ أَقرأَ "الإِشارات الإِلهية" لِ أَبي حيَّان التَّوحيدي، وأَذكرُ كيفَ قَرأتُ، إِبَّانَ المرحلةِ المدرسيَّةِ الكتابَ الضَّخمَ "الوجود والعدم" لِ جان بول سارتر، و"العالم إِرادة وفكرة" لِ آرثر شوبنهاور، و"قصة الحضارة" و"قصة الفلسفة" لِ ديورانت، ومعظمَ كتبِ كولن ولسون، وأَبرزها "الشِّعر والصُّوفية"، وغيرَها الكثيرَ، خصوصًا دواوينَ الشِّعرِ العربيِّ، والتي كانتْ محطَّ إِشكالٍ مُعقَّدٍ بَيني وبينَ مدرِّسِ مَساقِ الأَدبِ العربيِّ في الجامعةِ، حينَ قلتُ لهُ في المحاضرةِ الثَّانيةِ من الفَصلِ: ثلاثةُ أَرباعِ الشِّعرِ العربيِّ ليسَتْ شعرًا، وإِنَّما هي نظمٌ.. ثمَّ وأَتذكَّرُ الصَّوتَ الصَّارخَ الكانَ مُنتشرًا لشُعرائِنا في السَّبعينياتِ منَ القَرنِ الماضِي، والمفتقدَ لِمَا صِرْتُ إِليه باكرًا مِن فهمِ الكتابةِ الشِّعريَّة، كَأَنَّ إِيمانًا اندسَّ في خَاطري الشِّعريِّ بكلِّ براءةٍ بيضاءَ، وطفولةٍ كبيرةٍ، حيثُ إِنَّه: "ليسَ بِوسعِ قصيدةٍ أَنْ تُوقِفَ حربًا، هذا ما يُفترَض أَن تفعلَهُ الدُّبلوماسيَّة، أَمَّا الشِّعرُ فهوَ سفيرٌ مُستقلٌّ يُمثِّلُ الضَّميرَ، وهوَ لا يَستجيبُ لأَحدٍ، وهوَ يعبرُ الحدودَ بلا جوازِ سَفرٍ، ولا يقولُ إِلاَّ الحقَّ، وهذا هوَ السِّرُ في أَنَّه- ودَعْكمْ مَّما يُقال عن هامِشيَّتهِ- واحدٌ من أَكثرِ الفُنونِ قُوَّة" كما يقولُ إلين هينسي.
إِنَّ هذا الفَهمَ الذي أَغبِطُني عليهِ، بكلِّ تواضعٍ، لبلوغيَ إيَّاهُ في بِكوري الشِّعريِّ، أَخذَ بِيَدِ قَصيدتي إِلى جِهةٍ مجهولةٍ مختلفةٍ.. "الشِّعرُ قفزةٌ إِلى المجهولِ، وإِلا فَلا" كما قالَ الشَّاعرُ أُوكتافيو باث، وحينَ كنتُ أُقارِنُ بينَ مَا أَقرؤهُ شِعرًا فِلَسْطينيًّا ومَا أَكتبهُ، كنتُ أَجِدُني مُبتعِدًا شكلًا عن هُويَّتي، وقريبًا من مَضمونِها كغَيري منَ الشُّعراء، لِهذا كانتِ "الخيل والأُنثى"، أُولى مجموعاتي سنةَ (1980)، مُهملةً قِراءةً ونقدًا، وحينَ سأَلتُ عن السَّبب، أُجِبتُ من أَكثرَ من مُهتمٍّ، أَنَّ شِعري غامضٌ، وغيرُ مفهومٍ، وما زلتِ أَذكرُ، مثلاً، قَولةَ الكاتبِ والأَكَّاديمي د. عادل الأُسطة، قبلَ عابرٍ طويلٍ من السَّنواتِ: "شِعْرُكَ زئبقيٌّ، أَو مثلُ الزِّئبق"! في حينِ أَن الشَّاعرَ المتوكل طه في مُقدمتهِ لكتابِ "ظلال الرَّقص"، كتبَ تحتَ عنوان "لشعرٍ مختلفٍ.. نقدٌ مختلفٌ- الرِّيشةُ منَّا.. على غيرِ سِربِنا": "إِنَّ شعرَ أَخي محمَّد حلمي الرِّيشة قدْ شَكَّلَ، ضمنَ جيلِنا، استثناءً ضَروريًّا يَستدعي معهُ التَّبؤُّر والبحثُ عن تجربةٍ شعريَّةٍ مختلفةٍ في إِيقاعِها ولُغتِها ومَقاصدِها"، وفي حين أَنَّ الرُّوائي والنَّاقدَ د. أَفنان القاسم، كتبَ دراسةً مُهمَّةً عن "حركةِ الإِشارةِ" في إِحدى قَصائدِي من مجموعتي الثَّانيةِ "حالات في اتِّساع الرُّوح" سنةَ (1992).. لنُلاحظِ الفرقَ العدديَّ في السَّنوات بين سنتيْ ميلادِ المجموعتينِ، والذي أَصدقُكمْ بأَنني كنتُ، بَينهُما، جرادةَ قراءةٍ شعرًا ونثرًا ونقدًا، وفي مسائلَ ثقافيَّةٍ أُخرى، أَيضًا، لضرورةِ الشِّعرِ، ومن كلِّ حُقولِ العالمِ، أَي من كلِّ ما قَنَصَتْهُ عينايَ، رغمَ فقرِ التَّوصُّلِ إِلى الجديدِ منهُ آنذَاك.
لقد فهمتُ الشِّعرَ أَنَّه "ليسَ مَسأَلةَ مشاعرٍ، بل هوَ مَسأَلةُ لغةٍ.. الشِّعرُ لغةٌ تخلقُ المشاعرَ" كما يقول أمبرتو إيكو.. أَي على الشَّاعرِ أَن يكتبَ شِعرَهُ لا مشاعرَهُ، كما هوَ الحالُ في كثيرٍ جدًّا ممَّا قرأْنا، ونقرأُ اليومَ، وربمَّا غدًا.
ثمَّةَ مسأَلةٌ مهمَّةٌ ضمنَ الإِدراكاتِ القديمةِ والمُتجدِّدةِ دائمًا بالنِّسبةِ لي، هيَ مسأَلةُ جماهيريَّةِ الشِّعرِ ، أَوِ انتشارهِ بين النَّاسِ على اختلافِ مستوياتِهم الثَّقافيَّةِ، بصفتهِ أَسرعُ وسيلةٍ للتَّعبيرِ عن كثيرٍ من قَضايا الإِنسانِ.. أَفهمُ أَنَّه وسيلةُ تعبيرٍ، لكنِّي لم أُؤمنْ، يومًا ما، بضرورةِ الانحدارِ باللُّغةِ إِلى ما دونَ مُستوى الشِّعريَّةِ التي هيَ أُوكسجينُ دمِ القصيدةِ، وإِنَّني أَعتنقُ قولةَ لويز جيليك: "لَم أَكُن يومًا ممَّن يشعرونَ بضرورةِ توسيعِ قاعدةِ قرَّاءِ الشَّعرِ، فأَنا أَشعرُ أَنَّ مَن يحتاجونَ الشِّعرَ يجدونهُ".
*
أَعترفُ، برضًا حينًا، وغيرِ رضًا حينًا آخرَ، أَنَّني استهلكتُ جُلَّ مَا مرَّ من عُمري، ولم أَزلْ، من أَجلِ الشِّعرِ.. هذا الاعترافُ أُوسِّعهُ ليكونَ أَمامَ عَائلتي للمرَّةِ القُصوى، لدرجةِ أَن أُمنيةَ الغُفرانِ بِهذا الإِهداءِ في إِحدى مجموعاتي: "إِلى زَوجتي التي تتحمَّلُني زوجًا شاعرًا"، أَعتقدُه لَمْ يزلْ أُمنيةً ورَجاءً وأَملاً في يومٍ آتٍ مَا، وحيثُ ما زلتُ أَسأَلُني بمَكرٍ حَانٍ، وخُبْثٍ عاطفٍ: لِمَ فعلتُ كلَّ هذا وأَنا كنتُ، وما زلتُ، أَشعرُ بنارهِ الكاويةِ أَكثرَ بكثيرٍ ممَّا أَرى من ضَوئهِ الضَّئيلِ، وأَحيانًا حدَّ العَمَى؟!
هل يرتبطُ هذا بأَنَّ ثمَّةَ للشَّاعرِ مَهمَّةٌ استثنائيَّةٌ وعصيَّةُ الانفلاتِ عن مَدارِها، رغمَ كونِها خارجَ نطاقِ جاذبيَّةِ الإِرادةِ الشَّخصيَّةِ؟ ربَّما لأَنَّ لحظةَ الشِّعرِ لحظةٌ مؤبَّدةٌ بشاعرِها الحقيقي، لذَا ليسَ ممكنًا لهُ أَن يُقرِّرَ لحظةَ الصَّمتِ الفِعلي، بأَن يَترُكَ، لأَيِّ غرضٍ/ هدفٍ مَقعدَهُ، ومنضدتَهُ، وقلمَهُ، ودُواتَهُ، وبياضَ أَوراقِهِ تحتَ ضوءِ قنديلٍ يَجفُّ زيتُهُ قبلَ أَن يَجفَّ الحبرُ المسكوبُ على عِشرَةِ الورقِ، وربَّما لأَن القصيدةَ عصفورةُ القلبِ كما أُحسِّها فيهِ، ولأَنَّ "الشِّعرَ أَنقى فنونِ اللُّغةِ ، وهوَ في أَضيقِ الأَقفاصِ، فإِنْ جعلتَهُ يُغنِّي هناكَ، فقدْ فَعَلْتَ شيئًا بالغَ الرَّوعة" كمَا تقولُ ريتا دُف.
*
قبلَ أَن يطأَ قَلبي، قبلَ قَدَمي الحافيةُ، "بيت الشِّعر"، في منتصفِ سنة (2000)، كانَ أَخي الشَّاعرُ مراد السُّوداني يأْتيني، مع كلِّ شُكري وامتِناني الجزيلَينِ لهُ، إِلى مكتبي في وزارةِ الماليَّةِ، كلَّ فصلٍ شِعريٍّ بفصليَّةِ "الشُّعراء"، واضعًا إِهداءً رقيقًا بِرِقَّةِ قَلبهِ الأَبيض، ولُغةِ "رغبوت"هِ الشِّعريِّ التي شدَّتني إِليها، وإِمضاءً أَشبَهَ بخليَّةِ نَحلٍ، هكذَا أَرَاها، وأَتساءلُ: هل كانَ، آنذاكَ، يَضعُ لي فخًّا بِطُعمٍ شَهيِّ، كي يصطادَني إِلى "بيت الشِّعر"؟ حتَّى هذهِ اللَّحظةِ لستُ أَدري، ولَمْ أَسأَلْهُ يومًا مَا مضَى، وهذهِ هيَ المرَّةُ الأُولى التي أَسَأَلها، ولا أُريدُ جوابًا أَبدًا، لكنِّي أَبوحُهُ هُنا، لأَقولَ لهُ: شكرًا لكَ لفِعلِكَ، بإِثمهِ المغفُورِ!
لعلَّ الأَقسى جمالاً في سنيِّ العمرِ، هيَ سنواتِي الكانتْ، والمازالتْ، في "بيت الشِّعر"، وتحديدًا لحظةَ هبوبِ الانتفاضةِ في شهرِ أَيلول/ سبتمبر سنةَ (2000)، حيثُ كانَ لا بدَّ من البقاءِ فيهِ قيامًا وقعودًا وعملاً ونومًا قليلاً جدًّا، مع الأَخِ والزَّميلِ الشَّاعرِ مراد السُّوداني، وبعضِ الزُّملاءِ من خارجِ هاتينِ المَدينتينِ المُتلاصقتينِ.. كنَّا هُنا أَشدَّ إِخلاصًا ممَّا لعائلاتِنا وأَهلينَا، وأَشدَّ حرصًا على فصليَّةِ "الشُّعراء"، كي لا تَتوقَّفَ فصلاً واحدًا، وكي يظلَّ هذا "البيتُ" مفتوحًا على مصراعيِّ البيتِ الشِّعريِّ العربيِّ.
ثمَّ كانَ الاجتياحُ البَغيضُ الذي تَعرَّفنا فيهِ إِلى الجوعِ الحقيقيِّ أَوَّل مرَّةٍ ولثلاثةِ أيَّامٍ متتاليةٍ، فقدِ استعذبتْ إِحدى الدَّباباتِ الرُّكونَ أَمامَ "بيت الشِّعر"، وكانت طلَّتُها البغيَّةُ تَصِلُّ وتَصِلُ نوافذَهُ التي كانتْ تنخَّلتْ بالرَّصاصِ الأَثيمِ.
عِشنَا، إِنْ كانت تُناسبنُا هذهِ الكلمةِ، فَقطْ على الماءِ والسَّجائرِ التي سرعانَ ما نَفدَتْ في اليومِ الأَول لِقلَّتِها، وأَذكرُ أَنَّه في صباحِ اليومِ الثَّالثِ، كيفَ أَنَّ أَخانا وزميلنا سامي عزمي، قد هبطَ بجَراءةٍ من شرفةِ الدَّورِ العلويِّ بحبالِ يديهِ من خَوفهِ علينَا، فيما يُشبهُ الهبوطَ إِلى الموتِ، رغمَ عيونِ الجنودِ، ليُحضِرَ لنا ما استطاعَ إِليهِ سبيلاً.. شكرًا لكَ أَبا عزمي (اسمٌ على مُسمَّى) للمرَّةِ الأَلف، على تلكَ العزيمةِ التي نَفضتْ أَمعاءَنا، بعدَ أَن كنَّا نتوقَّعُ أَن نصبحَ مُومياءاتٍ لو استمرَّ الحالُ بنَا بضعةَ أيَّامٍ أُخَر.
هذهِ حكايةٌ تراجيديَّةٌ من حَكايا كثيرةٍ بوقائعَ مختلفةٍ مليئةٍ بالأَلمِ والمعاناةِ، إِلى جانبِ الإِصرارِ بعشقٍ مجنونٍ على الدَّيمومةِ؛ على البيتِ وشِعرهِ.. لقد كنتُ، آنذاكَ، أَستشعرُ أَنَّ الشَّاعرَ أورهان ولي ما زالَ يندهُ عَلينا من تُركيَّتهِ بصوتٍ يَذوي رُويدًا رويدًا:
"مَا الذي لَمْ نَفعلْهُ من أَجلِ الوَطنِ؟
مَنَّا مَن قُتِلَ
ومنَّا مَن أَلقى خُطبًا!"
ورغم فَداحةِ عددِ القَتلى/ الشُّهداءِ، كانَ عددُ الخطباءِ المُتناحرينَ على المنصَّاتِ الفضائيَّةِ أَكثرَ.
أَسوقُ هذا الكلامَ كسِربِ نُسورٍ خَفيضٍ لأَنَّهُ الأَكثرُ بلاغةً في نشيدِ حَياتي، رغمَ أَنَّني لمْ أُدوِّنهُ شعرًا، ولستُ أُريدُ، لأَنَّني أَرفضُ تخليدَ الأَلمِ شعرًا مهمَا كان باعثهُ وقدسيَّتُه، لأَنَّ الشِّعرَ شرفةٌ مفتوحةٌ على فَضاءاتِ الحياةِ والحريَّةِ والحبِّ، وليس على حدائقِ الدَّمِ والدَّمارِ والدُّونيَّةِ، وكذلكَ لأَنَّ "الشِّعرَ لا يُكتَبُ انطلاقًا من اليأْسِ الذي هوَ في جَوهرهِ خرسٌ مطبقٌ.. الشِّعرُ الذي يَبدو مُنطلِقًا منَ اليأْسِ هوَ في الحقيقةِ وسيلةٌ لتهشيمِ اليأْسِ" كما يَعتقدُ كريستيان وَيْمن.
*
"بيتُ الشِّعرِ- بَيتي" يُكرِّمني؟!
وَاشِعرَاهُ بعدَ ستٍّ وثلاثينَ سنةً، وعِشرينَ كتابًا، منهم ثلاثَ عشرةَ مجموعةً شعريَّةً..
شكرًا لكمْ أَيُّها الكثيرونَ الحاضرونَ الذين حَجَبتُم عُيوني عن رؤيةِ الجانبِ المُعتمِ منَ اليأْسِ..
شكرًا لكَ أَخي وزميلي الشَّاعر مراد السُّوداني لِمُفاجأَتكَ لي بهذا التَّكريمِ الذي أَشعرُني أَفهمُ مغزاهُ ونواياهُ البيضاءَ.. شكرًا لكَ، ثانيةً وأَكثرَ، لأَنَّني مَهما نَسِيتُ أَو تناسيتُ من آلامِنا هُنا، فلنْ أَستطيعَ أَن أَنسَاكَ تُهدِّئُ منَ انفعالي بسببِ اختناقِنا وحصارِنا كأَنَّنا في قفصٍ بِأَعمدةِ شِباكٍ مُتلاصقةٍ، رغمَ دموعكِ التي رأَيتُها أَوَّلَ مرَّةٍ، وأَنتَ تكلِّمُ ابنكَ الطِّفلَ عبرَ الهاتفِ، ليسَ لأَنكَ اشتقتَ إِليه فقط، بل لأَنكَ تكذبُ عليهِ كذبةً بيضاءَ أَنكَ راجعٌ إِلى البيتِ صباحَ غدٍ مع هديةٍ جميلةٍ!
شكرًا لكمْ زميلاتي وزُملائي في هذا البيتِ/ الطَّودِ العظيمِ..
شكرًا لكِ زَوجتي/ مَلِكةَ شِعري، ولِبَناتِي وأَبنائِي الذين لمْ أُشاهِدْهمْ وهُمْ يَكبُرونَ ويتفوَّقونَ وأَنا بعيدٌ عنهمْ، وأَزورهمْ كأَنَّني ضيفٌ خفيفُ الإِقامَةِ/ ثقيلُ الغيابِ..
"بيتُ الشِّعرِ- بَيتي" يُكرِّمني؟!
أَيِّةُ نكهةٍ للدَّمعِ، لَم أَعهدْها من قبلُ، ستكونُ هذهِ المرَّة؟!
(*) نصُّ الكلمةِ التي أَلقيتُها في حَفلِ تَكريمي في "بيت الشِّعر" بتاريخ 13/07/2008.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.