تمكنت عملة اليابان (الين) من القفز عاليا فوق الدولار الأمريكي خلال الأيام القليلة الماضية، وتمكنت من أن ترفع قيمتها مع العملة الأمريكية القوية بنسبة لم تشهد لها مثيلا منذ 16 سنة خلت. ويقول الخبراء إن العملة يمكن أن تعرف قيمتها هذا الارتفاع في أيام الرخاء الاقتصادي للقطر الذي تنتمي إليه، إلا أن اليابان كسرت هذه القاعدة ونجحت عملتها في الإرتفاع بنسب مذهلة في أيام الأزمة الصعبة والخطيرة. فلقد ضرب هذا البلد الأسيوي القوي زلزالا مدمرا وصلت قوته إلى 9،8 في سلم رشتر، وتسبب في تسونامي حول مدنا وقرى إلى ما يشبه لقطات مثيرة في سلسلة رسوم متحركة، وتقدر بعض الأوساط عدد الوفيات والمفقودين في عشرة آلاف وقد أكون أكثر واقعية بأن أرفع عدد هؤلاء إلى أكثر من عشرين ألفا، وواجهت البلاد ظروفا عصيبة من الهلع والرعب وحتى الفوضى، وسادت أجواء من انعدام الرؤيا خصوصا وأن الزلزال لم يتوقف وأصر على إرسال إشارات قوية متتالية، ولم تتوقف المأساة عند هذا الحد، بل تسبب الزلزال وما تلاه من تسونامي في تعطيل أجهزة التبريد في بعض من المفاعلات النووية في اليابان، وانتقلت المأساة الحقيقية إلى مواجهة تسربات مؤكدة لإشعاعات نووية. عادة في مثل هذه الحالات العصيبة جدا يبحث الفرد عما يضمن حمايته الشخصية أولا ثم ما ينفع المجتمع، يحدث هذا عندنا على الأقل، لذلك ترى الأفراد يتسابقون نحو تكديس المواد الغذائية، وترى أصحاب الأموال يهربون أموالهم نحو الخارج، فالأهم بالنسبة للبعض، في مثل هذه الحالات هو أن يقفز من السفينة قبل أن تهوي إلى العمق. ومن الطبيعي أن تزيد ممارسات الأفراد هذه وردود فعلهم الانفعالية والذاتية في حجم المأساة. اليابانيون خرقوا هذه القاعدة، وفي وقت الشدة القوية حينما مد الوطن لهم يده طالبا منهم إغاثته وإنقاذه من الغرق تسابقوا في الإمساك بهذه اليد الممدودة، المستغيثة ونجحوا أخيرا في انتشال الوطن. فالسلطات العمومية اليابانية سارعت إلى اتخاذ ما يكفي من الإجراءات لضمان شروط مواجهة تداعيات الكارثة، والمواطنون تحصنوا في سلوك المواطنة الحقيقية للمساهمة من جهتهم في التخفيف من حدة المأساة، وكل هذا قد يبدو طبيعيا جدا، لكن المثير حقا والذي مكن عملة اليابان من تجاوز قيمة الدولار الأمريكي أن رجال الأعمال اليابانيين تسابقوا وتنافسوا نحو إدخال أموالهم المودعة في الخارج لتمويل تداعيات هذه الكارثة. هل قرأتم يا رجال ونساء أعمالنا جيدا ما كتبت في هذه السطور ، أعيد لكم، إن رجال ونساء الأعمال في اليابان إحدى أقوى الدول في النظام الليبرالي الرأسمالي عوض أن يقوموا بتهريب ما تبقى بحوزتهم من أموال قبل أن تغرق السفينة. بل تنافسوا من أجل إدخال أموالهم إلى بلدهم لكي لا تغرق السفينة أصلا. سلوك وطني عظيم كهذا أفضى مباشرة إلى الرفع من قيمة العملة. ليس لأن أسعار الذهب أو النفط زادت أسعارها أو نقصت، وليس لأن بورصة طوكيو انتعشت، بل لأن اقتصاد اليابان قوي ومتين برجال ونساء أعمال يضعون مصلحة الوطن قبل مصالحهم، وليس المهم أن يخسروا أموالا في لحظة الأزمة، بل المهم أن يتم انقاذ الوطن وعبر إنقاذ الوطن ستضمن مصالح جميع اليابانيين على حد سواء ورفع قيمة العملة كان أول ثمار هذا السلوك الحضاري النادر. ولا أخال أن جميع رجال ونساء الأعمال في اليابان اجتمعوا وقرروا ما قرروه، لم يكن ضغط الكارثة يتيح ذلك، بل من المرجح أن الأمر كان يتعلق بتصرف تلقائي لنخبة من المجتمع تفكر بالوطن وليس بشيء آخر. ماذا نقول عما حدث أياما قليلة قبل 20 فبراير 2011 حينما تنادى شبان مغاربة إلى تنظيم سلسلة من التظاهرات؟ لا أملك جوابا جاهزا ولكن أدعوكم للتفكير مليا في صورة المغاربة وهم يتهافتون على تكديس المواد الغذائية من المساحات التجارية، وهم يتسابقون على الوكالات البنكية للحصول على ما يكفي من المال لمواجهة الطوارئ المحتملة، ولا معلومات لدي عن أصحاب الأموال الكثيرة، ولكن إذا كان تصرف الصغار تم على هذا الحال فكيف ستكون أحوال الكبار؟ هل نزيد يقينا بأن الاقتصاد القوي ليس هو المال والاستثمارات والتجهيزات الأساسية ومعدلات النمو وتحسين المؤشرات الماكرو - اقتصادية، بل الاقتصاد القوي هو كل هذا ولكن أيضا هو تجسيد الانتماء للوطن في السراء كما في الضراء، هو رأسمال المواطن الذي يضحي من أجل أن يستمر الوطن في التنفس والحياة. فهل نستوعب جميعا هذا الدرس الرائع جدا الذي لقنه لنا اليابانيون؟ آمل ذلك.