بصوت الشيخ إمام عيسى، وكلمات الشاعر فتحي آدم في قصيدته « يا ولدي « صدح الشيخ ذات زمان في أبناء مصر في ما يشبه الوصية: وإذا ما الدهْرُ بنا دَارَ ومَضَيْتُ إلى حَيْثُ أُوارَى أَكْمِلْ مِنْ بَعْدِي المِشْوَارَ لا تُخْلِفْ مِيعادَ الفَجْر...ِ لَنْ يَسْقِيَ دمْعٌ أشْجارَكْ لَنْ تَبْنِيَ بِالآهِ جِدارَكْ فاصْرُخْ بالخَوْفِ إذا زارَكْ لا تَخْشَى النارُ مِنَ الجَمْر.. هكذا قام الشباب المصري بالوفاء للوصية بعد سنوات من وفاة الشيخ إمام عيسى، لكن رغم كل الصور والأفراح التي جابت العالم العربي وبقية العالم، وحرصت كاميرات القنوات الفضائية العربية على ملاحقتها، لا أدري لماذا أشعر بقدر كبير من عدم الاطمئنان، وبالخوف على الثوار وعلى أحلامهم من أوهام الانتصار، وما يحاك وحيك ليتم هذا الإخراج الرديء لتنحي تجربة في الحكم تم اختصارها في شخص واحد وبعض من الوزراء وأفراد من عائلة الرئيس ، بل الغريب من كل ذلك هو أن يأتي بلاغ المجلس العسكري ليحي الشباب بنجاح ثورتهم ويترحم على شهدائهم وفي نفس الوقت يصف الرئيس المخلوع ببطل السلم والحرب وأنه قدم أشياء كثيرة لبلاده ...حقيقة الإنسان يجب أن يتوفر على قدر كبير من السذاجة، ليُصدق مثل هذا الخطاب الذي يحتقر ذكاء الشعوب ، فحسني مبارك إما أن يكون بطلا قوميا ورئيسا يحظى بالشرعية، وبالتالي كان من واجب الجيش أن يحمي الشرعية ، وإما أن مبارك مغتصب للسلطة وسارق للثروة ومفسد للحياة السياسية وبالتالي يجب أن يعتقله الجيش ويعرضه على محاكمة عادلة ، أما قول الشيء ونقيضه، وخروج وزير الدفاع الذي عمر في منصبه منذ 21 سنة إلى جانب مبارك ليُحي المتظاهرين المحاصرين لقصر عابدين، وتبادله الحشود التحية ، فإنها بالنسبة لي صورة تختصر حقيقة ما يجري وتوضح أن ما يجري اليوم فيه الكثير من الانفعالات العاطفية ويغلب عليه ما أسماه الدكتور الطوزي بإيديولوجية كرة القدم، ويذكرنا بأطروحة غوستاف لوبون في كتابه سيكولوجيا الجماهير : «إن الفرد المنخرط في الجمهور هو عبارة عن حبة رمل وسط الحبات الرملية الأخرى التي تذروها الرياح على هواها «،ولكن هذه الجموع غير المتجانسة سرعان ما تتلاشى كما تتلاشى الأمواج العاتية على سطح البحر، على حد تعبير فرويد [علم النفس الجمعي وتحليل الأنا، ترجمة جورج طرابيشي] ...وأن العواطف الخادعة الموجهة من الجماهير اتجاه الجيش يمكن تفسيرها بأطروحة «عقدة ستوكهولم» أو متلازمة ستوكهولم وهو مصطلح يستعمله علماء النفس لتوصيف الحالة النفسية التي تعبر عن تعاطف وتعاون ضحايا الاختطاف والعنف مع مختطفيهم وجلاديهم السابقين وبصفة عامة تعكس عقدة ستوكهولم، ميل الضحية إلى الدفاع عن المتسبب له في الضرر بالشكل الذي يتناقض تماما مع سلوك الفرد العادي، وقد أطلق على هذه الحالة اسم «متلازمة ستوكهولم» نسبة إلى حادثة حدثت في ستوكهولم في السويد حيث سطا مجموعة من اللصوص على بنك هناك في عام 1973، و اتخذوا بعضاً من موظفي البنك رهائن لمدة ستة أيام، خلال تلك الفترة بدأ الرهائن يرتبطون عاطفياً مع الجناة، و قاموا بالدفاع عنهم بعد إطلاق سراحهم وشوهدت سيدة من الرهائن تودع أحد اللصوص بحرارة كبيرة. يفسر علماء النفس هذه الوضعية بقيام الضحية، التي تكون تحت وقع ضغوط كبيرة ،لاشعوريا بخلق آلية نفسية خادعة للتمسك بالحياة وخلق وسيلة للدفاع عن النفس، و ذلك بخلق نوع من الألفة مع الجلاد أو المُختَطِف ويقوم بتأويل مبالغ فيه لكل إشارة إيجابية قد تصدر عن الجاني كمده ببعض الماء أو الطعام أو اتصال هاتفي مع أحد الأقارب أو مده بسيجارة، بل قد يتحول إلى المشاركة مع الجناة في مقاومة تحريره خوفا من الفشل والتسبب في معاناة إضافية حيث تبدي الضحية تعلقا كبيرا بالجاني ...هكذا كان «ثوار« ميدان التحرير تحت رحمة الجيش الذي كان يطوق الميدان بالدبابات والمدرعات طيلة فترة الاعتصام، وعندما تم توجيه « البلطجية « للهجوم على المتظاهرين، فتحت لهم قوات الجيش مداخل الميدان ولم تقم باعتراضهم، وفيما بعد جاء البلاغ رقم 2 للجيش كله تهديد وتوعد للمتظاهرين وختمها بالبيان رقم 3 الذي وصف فيه الرئيس مبارك ببطل السلم والحرب حتى وهو يتنحى عن السلطة، فهل بعد كل هذا نكون حقيقة أمام تغيير للنظام؟ هل القيادات الحالية للجيش لا تتحمل جزءا من المسؤولية ، فيما وصلت إليه مصر اليوم ؟ ما يقع اليوم في مصر وما وقع سابقا في تونس إلى حد ما ، يوجه سؤالا محرجا للعقل الإصلاحي في المنطقة، وللنخب السياسية التي رفعت مطالب الإصلاح، وكيف توارت النخب السياسية الإصلاحية إلى الخلف وإستسلمت لمنطق التوازنات والانتظارية القاتلة، وإستمرار لعبة الكر والفر بين تحقيق مكتسبات والتراجع عنها، في دورة لقتل الزمن، تفتح المجال للشارع، الذي لا يملك بحكم الطبيعة أي تصور واقعي للمستقبل، مما يجعله فريسة لأصحاب الحلول السهلة والمتربصين بالحكم، وياللمفارقة فإنهم يصلون للسلطة بصفتهم حماة للثورة ...أهم دروس ما يجري يتلخص في ثلاثة نقط : الأولى: أن النخب السياسية يجب أن تستعيد ممانعتها وقوتها النقدية والاقتراحية والاحتجاجية . الثانية: أن الأنظمة الحاكمة يجب أن تتخلص من أوهام خلودها في السلطة وتتخلى عن ديمقراطية الواجهة وإفراغ المؤسسات من دورها وتحقير السياسين والأحزاب والنقابات والوزراء والجمعيات ، وإبتذالها من خلال إطلاق اليد لمن يبادرون للقفز من المركب عند أول صدمة . الثالثة : للشعوب التي يجب أن تتخلى عن سلبيتها وانتظارها للمنقذ من الظلال ، وذلك بالمشاركة والمساهمة في الحياة العامة ، من جمعية الحي إلى انتخاب برلماني المدينة ، ولا أعتقد أنه من الصعب على الإنسان أن يختار بين أصناف معروفة من المرشحين فيهم العاطل والموظف والتاجر والفلاح والمحامي والمقاول وتاجر المخدرات ...يبقى فقط على الناخب أن يختار بعيدا عن الورقة الزرقاء أو الحمراء أو الخضراء ...وأن يقيم القيامة إذا ما تم التلاعب بصوته واختياره.. إذا لم يتم استخلاص هذه الدروس فإن الأنظمة ستنهار والنخب ستحال للعطالة والشعوب سوف تعيد إنتاج التاريخ في أسوء صوره. [email protected]