الرواية المغربية للشمائل المحمدية: تسلسلت حسب الشيخ عبد الحي الكتاني إلى: أ رواية الحافظ أبي علي الصدفي (ت 514 ه). ب رواية الحافظ القاضي عياض المغربي (ت 544 ه). ج رواية الحافظ أبي بكر بن خير (ت 575 ه). د رواية العلامة محمد بن جابر الوادي آشي (ت 743 ه). أصل المنية وأهميته: وضع الشيخ عبد الحي كتابه المنية على الأصل المعتمد عليه وهو كتاب الشمائل المحمدية للترمذي، الذي اعتمد عليه سائر من جاء بعده وألف فيه، وقد بناه على نيف وخمسين بابا في ترابط وتناسق عجيبين، مما يتعلق بالوصف الدقيق لخلقته صلى الله عليه وسلم وخلقه، وعبادته، ومأكله ومشربه وملبسه، وجلوسه، وآدابه مع أهله وأصحابه، وما أحاط بالنبي الكريم من جميع جوانبه، وجعله كتابا وحيدا في بابه، وكان من أجل ما ألف في محاسن قطب الوسائل، ومنبع الفضائل، وجاء القاضي عياض ووضع كتابه الشفاء الذي استدركته عليه زيادات ودرر وفوائد، ومن هنا جاء كتاب المنية على هذا المنهج والسنة الحميدة، وألفه الشيخ عبد الحي بمناسبة إنهائه تدريس كتاب الشمائل المحمدية، وأودعه زبدة وخلاصة جهوده، خاصة وقد كان يحفظه عن ظهر قلب كما صرح بذلك نفسه، ولنستمع إلى ما كتبه المؤلف عن الشمائل بقوله: »... لما يسر الله سبحانه من محض المن والفضل، بالوصل بعد الفصل، ووفقنا لختم كتاب الشمائل صفات سيد الأواخر والأوائل سيدنا محمد النبي الأعظم والرسول الفرد الأكرم...، وذلك يوم الأربعاء ثامن وعشرين رمضان 1327 ه، حبب إلي أن أعيد للحاضرين ومن حضر درس الختم، خاصة خلاصة ما تحت كل باب من أبوابها النيف والستين، غرر تلك الخصائص وخاص تلك الغرر ذات الفضل المبين، فأمليتها مهذبة محبرة لا متكلفة ولا مبعثرة فرغب إلي بعض الحاضرين ممن شأنه سماع تلك السمات التي فضل بها صلى الله عليه وسلم على العالمين أن أدونها كذلك، فوقع طلبه موقع الاستحسان، رجاء فضل مبلغ الخير الذي هنالك...، فدونته اختصارا لطيفا سهل الفتح منيفا، أبدلت عبارة الراوي المغلقة بعبارة مبذولة، وحافظت على جوهرة المعنى التي هي بدلالة الإعجاز مشمولة، وحذفت المكرر واقتصرت على وجه الجمع إذا اختلف وصف الأصحاب الغرر. والملاحظ أن في ذكر تسميتها خلافا طفيفا لا ضير منه، ويبقى أن المعتمد والصحيح في اسمها هو النسختان المخطوطتان «أ» و«ب» الحاملتان لخط يد المؤلف ففيهما »منية السائل خلاصة الشمائل«. مناسبة تأليف «المنية» ومنهج المؤلف فيها: لقد جرت العادة عند بعض علماء الأمة بوضع خلاصات مركزة ومختصرة للعديد من أمهات كتب الثقافة الإسلامية الأصيلة كالصحيحين وغيرهما، وذلك كلما استكملوا جوانب الدراسة لها في مجالس العلم وحلقات الدرس يسمونها ختمات (1). وجريا على هذه السنة الحميدة وهذا النهج التربوي الأصيل لدى سلف الأمة وخلفها، ألف الشيخ محمد عبد الحي الكتاني رسالته »المنية« هذه بمناسبة إنهائه تدريس كتاب »الشمائل المحمدية« لأبي عيسى الترمذي، فأودعها زبدة وخلاصة جهوده (2) في التعامل مع علم الشمائل سواء في ذلك في كتب السنة أو السيرة أو الشمائل، مطعما ذلك بفرائد وفوائد من فنون مختلفة كلما وجد لها مناسبة. فحاول بهذا أن يضع للشمائل بصفة عامة مختصرا يسهل تناوله لأكبر قدر ممكن من الناس، بأسلوب رائع يعبر عن روح العصر، وبلغة سهلة ميسرة تجعل المطالع لهذه الرسالة في غنية عن الجري وراء الألفاظ الغريبة في ثنايا كتبه المفردة. وهكذا توالى اهتمام شيوخ الزاوية الكتانية بعلم السيرة انطلاقا من اهتمامهم بها عندما كانوا ينطلقون في دراستهم وتعليمهم من دراسة وتدريس السيرة والشمائل أول ما يتعلمون، كما فعل الشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني الذي كتب كتابا في موضوعها: سماه »مقدمة الشمائل الترمذية«، وكتاب »الألفية في الكمالات المحمدية« و»المواقف الإلهية في التصورات المحمدية« و»مدارج الإسعاد الروحاني« وغيرها (3) وكتب الشيخ عبد الكبير الكتاني تعليقا على الشمائل يعتبر من أجمل ما كتب في الموضوع، كما قام بختم الشمائل وكتابة ختمته حولها، وله جزء في الكمالات المحمدية. وللشيخ عبد الحي الكتاني بالإضافة إلى كتابه المنية كتاب »المورد الهائل على كتاب الشمائل« إلى غير ذلك من مؤلفات الكتانيين في الموضوع. كما يعتبر من عيون ما كتبوه في الموضوع همزية الشيخ سيدي محمد بن عبد الواحد الكتاني في السيرة النبوية، وشرحها للشيخ جعفر الكتاني تلميذه، وما نظم من أشعار رائعة في صحبة الجناب المحمدي من طرف الشيخ أحمد الحلبي، والشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني في ديوانيهما الكبيرين المشهورين المطبوعين. ما حققته الزاوية الكتانية في هذا المجال وأخيرا نصل إلى سؤال الأسئلة وهو ما حققته الزاوية من تجديد وإنجاز، وما تحقق لمجتمعنا من أمن روحي واجتماعي، وعن دورها الأساسي في ترسيخ قيم التكامل الإسلامي، والتضامن الوطني، وتركيز العقيدة الإسلامية في قلوب الشعب وعقوله من أجل مجتمع إيماني يحقق الطمأنينة والاستقرار لأفراده. وهكذا لعبت الزاوية في حياة المغاربة أدوارا طليعية على مر التاريخ المغربي، في الدفاع عن الثغور المغربية، وصد الهجمات الصليبية، وفي مقارعة الاستعمار، وتعبئة المغاربة سياسيا وروحيا وفكريا، منذ سقوط الدولة السعدية إلى قيام الدولة العلوية، حتى إن الزوايا قامت خلال مرحلة ضعف الحكم المركزي بدور الدولة في المناطق التي وجدت فيها، سواء من حيث رعاية الأمن والنظام، أو نشر العلم والدعوة إلى الله. فالزاوية ظلت الملجأ والملاذ لكل طبقات الشعب في وقت الأزمات حيث شكلت ذرعا واقيا تجاه الغزاة، ونشرت الطمأنينة، وحققت الأمن والأمان، وصهرت المغاربة في بوتقة واحدة، فاسترجعوا قوتهم وتماسكهم وخاصة في العهد الإسماعيلي، لأن الزاوية عبرت عن حاجة عميقة لدى المغاربة للتمسك بدينهم وقيمهم، ووحدتهم وهويتهم، كما ظلت النواة الأساسية لانبثاق المجتمع الجديد المتماسك والمتضامن خلال العهود التاريخية وخاصة منذ عهد عبد الله بن ياسين إلى عهد مولاي علي الشريف، واستمرت الزوايا في تحقيق أدوارها ومقاصدها حتى عندما تراجع إشعاعها السياسي والعسكري، إذ استمرت تقوم بعملها الأصلي المتمثل في الدعوة، وإصلاح المجتمع، ومحاربة الجهل، ونشر العلم، وأعمال التضامن والتكافل، والتربية الصوفية، ما ضمن لمجتمعنا استمراره واستقراره، وتماسكه وتشبثه بقيمه ومعالمه التي حافظ عليها، وتمسك بها طوال تاريخه، كل ذلك بفضل الزوايا التي لعبت دور قاطرة المجتمع، ومنارة الإيمان والمعرفة، التي أمدت شرائح مجتمعنا بالطاقة الروحية لتحقيق تماسكه وتكافله، ودورها الأساسي في التأطير والتعبئة التي وحدت الأمة حتى أصبحت مضرب الأمثال بين الأمم، مما يحتم اليوم علينا أن نعمل جادين صادقين على إحياء دور الزوايا في مجتمعنا، ودمجها في المشروع المجتمعي الحالي لتدعمه وتقويه وتنجحه. ذلك لأن الزاوية اليوم كما كانت بالأمس قادرة على لعب دور استراتيجي، لترسيخ قيم الإصلاح والتكافل، نظرا لإمكانياتها الكبيرة، وما تمتلكه من قدرات ووسائل تعبوية، وتأطيرية، وتطلعات شعبية، لتحقيق وإنجاز المجتمع المؤمن الكفء المتضامن. إننا اليوم في أشد الحاجة إلى الزاوية، وإحياء أدوارها وأساليب عملها وتعبئتها، وخاصة للوقوف أمام تحديات الأمية والفقر والتهميش، والإقصاء، والسلوك الأخلاقي البعيد عن ديننا وقيمنا، من أجل تأطير مجتمعنا الشاب، وتقوية إيمانه ومساعدته، ودفعه للانتصار على مختلف مظاهر التخلف من مجتمعنا، وصد الأفكار الهدامة، والعادات الغريبة التي ليست من سمات مجتمعنا. ولذلك كله عبرت الزاوية دوما عن حاجة عميقة لدى المغاربة، للتمسك بدينهم وقيمهم ووحدتهم، والتشبث بهويتهم، كما لعبت دورا هاما في صد الهجمات الاستعمارية وخاصة على سواحلنا وحدودنا حتى تحولت مع الزمان إلى مؤسسات قائمة على نشر العلم، ومحاربة الجهل، والقيام بالأعمال الاجتماعية والإنسانية، كما يشهد تاريخ الزوايا في بلادنا، لذا ندعو من هذا المنبر الكريم، وفي هذه المناسبة السعيدة، إلى تضامننا جميعا شعبا ومسؤولين، من أجل إحياء دور الزوايا حتى تتمكن من القيام بنشاطها التعبوي والتوجيهي، حتى يعود المغرب ورشا كبيرا لتحقيق المجتمع الإيماني المتطور الذي نحلم به جميعا، وذلك بالتآزر والتعاون على وضع برنامج ومخطط تأهيلي لمجتمعنا، وتجديدي يرجع بالزاوية إلى عهدها الزاهر، ويعبئها ويؤهلها للقيام بدورها الفكري والاجتماعي والتضامني، حتى يتحقق لبلادنا ما نرجوه ونعمل له من تقدم ونهضة، وتماسك وقوة، إننا ندعو المسؤولين وقادة الرأي والمجتمع في بلادنا إلى التآزر من أجل تحقيق ذلك، دون المساس بجوهر مسؤوليات أرباب الزوايا، أو التدخل في شؤونهم، حتى لا تنعكس النتائج، وتنحرف المقاصد. ونعود إلى التذكير بما حققته الزاوية الكتانية عبر تاريخها الحافل، وما قام به شيوخها وروادها من جهاد متواصل للدفاع عن حوزة الوطن والدين، وما قاموا به من أعمال جليلة حافظت لمجتمعنا على نصاعته وإيمانه ووحدته، وضمنت له أخلاقا إسلامية حققت له حسن تربية أفراده، وسلامة سلوكه واستقراره الروحي والفكري والاجتماعي جميعا. إن ما حققته الزاوية الكتانية التي انتشرت فروعها في سائر أنحاء المغرب وجهاته وفي غيره من البلاد العربية والإسلامية، بفضل شيخها المؤسس وريادته في المجال الصوفي خاصة، وفي مجال السنة النبوية هو ومن جاء بعده من الشيوخ والرواد مما يجل عن الحصر والعد، ولكننا نجتزئ هنا ونقتصر لضيق الوقت على ذكر الخطوات الرائعة، والإنجازات الهامة، التي حققتها الزاوية الكتانية لمجتمعنا المغربي، ولمجتمعنا الإسلامي كافة وهي: * إحياء أركان الإسلام وفروضه في أوساط الشعب وطبقاته، لتعليمهم الضروري من أمور الدين، عن طريق الدروس بالزوايا والمساجد، والتطبيق العملي بمختلف الزوايا والرحلات، وعن طريق الرسائل الدورية التوجيهية، والكتب، والمنشورات. * إشاعة فريضة الجهاد، وتقوية الإيمان بها في النفوس، ناهيك عما قامت به الزاوية الكتانية في ظهر المهراز بفاس من تعليم أتباعها على استعمال السلاح، وتعلم فنون المقاومة والجهاد. * إشاعة التعليم بين أفراد المجتمع، والإلحاح على الإقبال عليه وتحبيبه للناس، فكم تخرج في الزوايا من مئات بل آلاف الأتباع الذين أصبح بعضهم من أعلام الأمة وشيوخها، ونذكر هنا على سبيل المثال من خريجي زاويتنا: العلامة مولاي علي العدلوني. والعلامة أحمد العمراني. والعلامة أبو بكر التطواني. والعلامة محمد التطواني. والفقيه محمد بن احساين. والحاج عبد الرحمان بنشقرون. والعلامة الزاودي الطنجاوي وسواهم كثير. ولقد كان علم التفسير والحديث ضعف في المجتمع المغربي بسبب اتجاه الناس إلى الفقه والإقبال عليه، حتى هجر تعليم التفسير والحديث لفترات طويلة، إلى أن جاءت الزاوية الكتانية وأعادت تدريس التفسير إلى جامع القرويين وإلى غيره من المساجد، حتى أصبح العلم الأول في المغرب. - وكذا إحياء علم الحديث وسنن الرسول التي أقبل عليها الكتانيون شبابا وشيوخا ومريدين، حتى لقد ختم الشيخ عبد الكبير الكتاني صحيح البخاري قراءة وإقراء أكثر من ستين مرة، والشيخ جعفر أكثر من عشرين مرة، وكذا بقية الشيوخ مع إحياء التأليف فيه ودراسة كتبه. - إحياء علم التصوف السني وإشاعته بين الناس، بالقضاء على مظاهر المسكنة والدروشة كلبس المرقعات، وإهمال الحال والقضاء على فكرة التبطل وترك العمل، والتكاسل عن الكسب، والاختلاء في الكهوف وغيرها من العادات البعيدة عن أخلاق الإسلام وسلوك المسلمين الأولين. - إشاعة الأخلاق الإسلامية من محاربة الأنانية والتكبر، وصلة الأرحام، وتلبية دعوات الزفاف والعقيقة، والبعد عن التكلف والاقتصاد في نفقات الأعراس والمآثم، وإشاعة خلق التكافل والتضامن مع الطبقات المحتاجة والمستضعفة، وإحياء إفشاء السلام، والعفو والصفح، والمرحمة والتسامح، والبر والإحسان، وغيرها من أخلاق الإسلام وسننه، كإشاعة القبض في الصلاة، ومحاربة الاختلاط، ومحاربة شرب الخمور، وتحريم التجنس، ومقاومة الربا، وعدم لبس الحرير. - غرس محبة الرسول وآل بيته الأطهار وتعميقها في القلوب والعقول، وتعويد الناس عليها، وتحبيبها لهم، لأن محبته من محبة العبد لربه ومولاه، وذلك عن طريق دراسة علم السيرة وتدريسه، وتكثير الموالد، وحفلات الأمداح النبوية، وإشاعة مكارم الأخلاق. هوامش: 1) الفوائد الجليلة البهية 1 / 2. راجع مقدمة المنية للشيخ عبد الحي الكتاني. 2) التأليف ونهضته في المغرب - عبد الله الجراري ص 261. 3) للتوسع في الموضوع، ارجع إلى المظاهر السامية للشيخ عبد الحي وأعلام المحدثين في المغرب لخادم السنة د. يوسف الكتاني، ومدرسة الإمام البخاري في المغرب له. وعبقرية الإمام البخاري له أيضا.