على مدى التاريخ كانت الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في كل الدول والمجتمعات محكومة بحتمية الانتقال من مرحلة إلى أخرى وذلك طبقا لنظريات التطور والتحول التي تحكم الجنس البشري. كتاب التاريخ كانوا في أغلب الأحيان هم من يحكمون على نجاعة أو فشل هذه التحولات في تحقيق أهداف الذين يقودون عملية التطور والانتقال والتغيير، أو من حيث تمكنها من خلق مجتمعات أفضل أولا بالنسبة لمواطنيها ثم بعد ذلك لجوارها الإقليمي. كذلك على مدى التاريخ وخاصة منذ أن تشعبت وتعقدت تركيبات المجتمعات والدول وقامت الإمبراطوريات وتزايدت الصراعات بينها، تولدت عملية تداخل التأثير على حركة التطور من خارج محيطها. هذا التدخل الخارجي كانت له جوانبه السلبية أحيانا والإيجابية أحيانا أخرى. التأثير السلبي حسب حكم التاريخ كان أخطر خاصة عندما تعلق الأمر بتدخل القوى الأجنبية ذات الأطماع الاستعمارية والتوسعية لتوجيه عملية التطور الطبيعية في مجتمع ما أو دولة في الاتجاه الذي يخدم هذه القوى الطامعة. لعل من أبرز الأمثلة على ذلك أنه خلال الحرب العالمية الأولى من 1914 إلى 1919، تدخلت القوى الاستعمارية الرئيسية في تلك الحقبة وهي بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وروسيا، لاستغلال تطلعات العرب في كل منطقة الشرق الأوسط والجزء الأكبر من شمال أفريقيا للاستقلال عن الإمبراطورية العثمانية، لتأليبهم على نظام القسطنطينية الذي حكمهم زهاء ستة قرون، وهكذا ثاروا وانتفضوا للتحرر وبناء مجتمع ونظام جديد وحاربوا ضد جيوش القسطنطينية، ولكن ما أن هزمت هذه الأخيرة حتى تنكر لهم الحلفاء وقسموهم إلى دول صغيرة وزعوها بينهم كمستعمرات ومحميات. من هذه البداية دخل العرب القرن العشرين، وجاءت حروب وثورات ليتم التخلص من الاستعمار القديم بشكل تدريجي ومعه تم تبديل جزء من التراكيب السياسية الموجودة. غير أنه وسط مسار هذه التطورات أخمدت ثورة 1919 في مصر التي كان يقودها سعد زغلول زعيم الحركة الوطنية المصرية، وهزمت فرنسا ثورة 1925 السورية الكبرى التي كان يقودها سلطان باشا الأطرش. وإزيلت تحت غطاء ذرائع مختلفة وبأساليب خبيثة العديد من الحكومات ذات التوجه الوطني والتي كانت تتلمس طريقها في عالم متغير. هكذا محت بريطانيا وزارة رشيد عالي الكيلاني باشا بالعراق عام 1941 لمناهضتها المد البريطاني، وسقطت فلسطين، واجهضت محاولات توحيد هذه المنطقة كما كانت تأمل شعوبها، ووقعت حروب 1956 و1967 و1973 وغيرها والفائمة لا تنتهي. الحرب الباردة في ظل عالم ثنائي القطبية أو فترة الحرب الباردة استطاعت المنطقة العربية الممتدة من الخليج العربي حتى المحيط الأطلسي أن تستفيد من الصراع السوفيتي الأمريكي لإتباع سياسة مستقلة إلى حد كبير. ولكن بمجرد انهيار الاتحاد السوفيتي عادت قوى الاستعمار إلى ممارسات الماضي تحت غطاء شعارات جديدة قديمة، ووسعت هيمنتها الاقتصادية عبر الشركات متعددة الجنسية والمؤسسات المالية الدولية التي فرضت شروطها، وهو ما أزم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في غالبية دول العالم الموصوف بالثالث. كان من الصعب على دول العالم النامية إن لم يكن من المستحيل في بعض الأحيان التحرر من القيود التي فرضتها تلك القوى. هكذا تراكمت المشاكل الاقتصادية والاجتماعية وفي مقدمتها البطالة لأن البنك الدولي ورفيق دربه صندوق النقد الدولي حاربا جهود الحكومات لاستخدام القطاع العام كأداة لتقوية سوق الشغل. خلال عقد التسعينات وفي مخاض نهاية الحقبة السوفيتية، تدخلت الولايات المتحدة والعديد من حلفائها في عملية التطور والتحول السياسي والاجتماعي في دول أوروبا الشرقية لتوجيه عمليات التصحيح في اتجاه يخدم مصالحها ويمكنها من تحويل هذه الدول إلى توابع. نجحت واشنطن أحيانا وفشلت في أحيان أخرى ولا تزال عدة دول في شرق أوروبا تخوض صراعات من أجل إعادة صياغة ثوراتها وتحولاتها لإعادتها إلى المسار المستهدف منذ البداية. التهديد بالقوة كتب المحلل حسن أبو هنية الباحث في شؤون الجماعات المتشددة سنة 2006 أنه «عقب انهيار جدار برلين وسقوط الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفييتي اعتمدت إستراتيجية الفوضى الخلاقة أو البناءة في التعامل مع الجمهوريات المستقلة، وتعتبر رومانيا نموذجا مثاليا لتفجير الفوضى في بلدان أخرى، وبالرجوع إلى المظاهرات التي عمت جورجيا وأوكرانيا كان العنصر الحاسم في نجاح المظاهرات هو التهديد بالقوة من قبل الولايات المتحدة وذلك بعد تحول السياسة الخارجية الأمريكية من الاحتواء المزدوج أيام الحرب الباردة إلى إستراتيجية أمركة العالم بالقوة والعمل على تغيير الأنظمة والجغرافيا عن طريق الفوضى الخلاقة، ولا مانع من اعتماد الاحتلال المباشر إذا لزم الأمر في ظل غياب استراتيجيات الردع، وقد أفرزت المتغيرات البنيوية للواقع الدولي نمو وازدهار العولمة الأمريكية بحيث أصبح القيام بواجبات الأمركة من صميم مهمات رؤساء الولايات المتحدة». في مرحلة تحول تونس بداية سنة 2011 شهد العالم صراعا وراء الكواليس لسرقة ثمار الانتفاضة ويستمر هذا التشابك حاليا حيث تسعى واشنطن للهيمنة على منطقة كانت محسوبة خاصة اقتصاديا كمنفذ لفرنسا ودول أوروبية أخرى من المتوسط نحو أفريقيا. تجربة العراق مع نهاية حرب 1991 ضد العراق وحسب الوثائق الرسمية الأمريكية زودت واشنطن بالتنسيق مع طهران جماعات مسلحة في المنطقة الجنوبية من العراق بالسلاح والمال والدعم اللوجستيكي للتمرد على حكومة بغداد. لم تنجح الحركة التي وصفتها بعض القواميس بثورة الشيعة رغم أن الجيش العراقي كان لتوه قد خرج خاسرا من حرب ضد تحالف دولي من 33 دولة. خلال ال 12 سنة التالية جربت واشنطن كل الوسائل بما في ذلك تجويع شعب بكامله للتخلص من حكم حزب البعث، ولما لم ينجح ذلك التكتيك، تم الغزو والاحتلال في 20 مارس سنة 2003. الإحتلال دمر دولة وقتل مليون ونصف مدني من أبنائها وشرد 4 ملايين آخرين ويتم 5 ملايين طفل حسب الإحصاءات الدولية، وأقام مئات معسكرات الاعتقال والتعذيب وسجن أبو غريب ليس سوى قمة جبل الجليد. واشنطنولندن ومن حالفهم برروا ذلك بأكاذيب رغم انفضاحها لم تقع متابعة أحد، وادعوا أنهم جاؤا بالديمقراطية للعراق. كان أهم ما فعله الاحتلال في العراق لترسيخ سيطرته حله للجيش العراقي، لقد تعلمت واشنطن من تجارب لندن أن الجيش العراقي كان منذ إنشائه القوة التي تمردت على الاحتلال مرات عديدة ولهذا وجبت التصفية. عندما انتفضت مدينة الفلوجة العراقية مرتين ضد الاحتلال وأذاقت قواته المر سنة 2003 و 2004 دمر الجيش الأمريكي المدينة وقتل الآلاف من سكانها. لم يتحرك إلا القليلون داخل العالم المتحضر ولم تطلب حكومات غربية من واشنطن وقف المذبحة أو عدم استخدام الأسلحة المحرمة دوليا. قبل المعركة كانت الفلوجة بعد سقوط بغداد تحت الاحتلال، مدينة لم يأتها كثير من أعمال العنف والنهب لأن أهلها متدينين بالفطرة وفخورة بروعة مساجدها لدرجة تسميتها بأم المساجد. بعد احتلال أفغانستان سنة 2001 واحتلال العراق سنة 2003 ركزت دوائر القرار في واشنطن على ضرورة تسريع تنفيذ مشروع الشرق الوسط الكبير القائم على إقامة 54 أو 56 كيانا مكان أقطاره الحالية وذلك أساسا عبر إستراتيجية الفوضى الخلاقة. الفوضى الخلاقة اشتهر ميكافيللي المتوفى عام 1527م بأنه واضع مبادئ الفوضى الخلاقة وعميد السلك النفعي في السياسة. وهو يقول أن السلم ينتج الراحة والراحة تتبعها فوضى والفوضى تؤدي إلى الخراب ومن الفوضى ينشأ النظام. وزيرة خارجية الولايات المتحدة السابقة كوندوليزا رايس ومعها عدد كبير من الساسة الأمريكيين تبنوا النظرية، وأصبحت الفوضى الخلاقة بذلك نظرية أمريكية تلائم الألفية الثالثة. كتب المحلل يحيى اليحياوي بتاريخ 13 مارس 2006: «في سنة 1942، أصدر عالم الاقتصاد النمساوي جوزيف شامبيتر (1883-1950) كتابه الشهير عن «الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية» مضمنا إياه تصوره لآليات اشتغال النظام الرأسمالي وشارحا من بين ظهرانيه لمآلها على ضوء الأطروحة الاشتراكية السائدة وطبيعة الديمقراطية التي من الوارد أن تترتب عن هذه كما عن تلك شكلا وعلى مستوى السيرورة. يقول شامبيتر متحدثا عن الرأسمالية: «ليس القديم بالرأسمالية هو الذي يفرز الجديد، بل إن إزاحته التامة هي التي تقوم بذلك. والذي يتمترس وراء الإزاحة إياها إنما هو المقاول المبدع الذي يثوي خلف السلعة الجديدة والمزج الإنتاجي الجديد والسوق الجديد ومصادر الطاقة الجديدة. هو نظام تقدمي بالتأكيد حتى وإن بدا ظاهريا غير مرغوب فيه». ويتابع موضحا: «إن المنافسة الهدامة.هي أيضا تدمير هدام يساهم في خلق ثورة داخل البنية الاقتصادية عبر التقويض المستمر للعناصر الشائخة والخلق المستمر للعناصر الجديدة». وإذا كنا نعدم الحجة القاطعة للتدليل على أن ما «ابتدعته» الإدارة الأمريكية (في إطار ما أضحى يسمى منذ مدة ب»الفوضى البناءة» أو «الخلاقة») إنما هو استحداث لأطروحة شمبيتر (وهو ملهم معظم مقاوليها بكل الأحوال)، فإننا لا نستبعد ذلك إطلاقا من لدن مراكز الدراسات الاستراتيجية التي أعادت استنبات الأطروحة (أطروحة شامبيتر) وطوعتها لتغدو عقيدة يسترشد بها في علاقة الولايات المتحدة بالوطن العربي بداية هذا القرن: فأمريكا (باسم هذه الأطروحة) دمرت العراق عن بكرة أبيه وقوضت سبل النهوض من بين ظهرانيه ووزعته إلى طوائف ومذاهب وأحزاب تتناحر جزئيا أو توشك على التناحر الشامل واعتبرت ذلك بمثابة « فوضى خلاقة» سرعان ما ستفرز الديمقراطية والتعددية والنهضة التي غالبا ما تستتبع هذه الفوضى بل توفر لها الأساس والبنية والسياق. وأمريكا (باسم ذات الأطروحة) استنفرت الاحتراب بين الأطياف والتيارات اللبنانية (على خلفية من اغتيال رفيق الحريري). وأمريكا فرضت على المنطقة العربية الإيديولوجيا إياها (إيديولوجيا «الفوضى الخلاقة») فأثارت حساسيات السودانيين على بعضهم البعض (باسم حق تقرير مصير جنوب السودان ودارفور، والمصريين ضد المصريين (تحت مسوغة «اضطهاد المسلمين للأقباط») واستنفرت العصبيات العرقية بشمال سوريا كما المذهبية بالبحرين والسعودية وفتحت المجال شاسعا للمنظمات المعارضة تمويلا وتأييدا بغرض زعزعة هذا البلد أو ذاك». مصر بعد أحداث نونس ضجت الكثير من وسائل الإعلام وخاصة الأمريكية أو العاكسة لوجهات نظرها بحديث عن قرب انتقال «العدوى» إلى دول أخرى ومنها مصر. حسب جدول وضعته وكالة فرانس برس: يوم 25 يناير 2011 بدأت في مصر تظاهرات معادية للحكومة بمشاركة آلاف الأشخاص. قتل متظاهران في السويس بعد صدامات مع الشرطة وتوفي شرطي في القاهرة بعد تعرضه للضرب من قبل متظاهرين، واعتقل حوالي مئتي شخص. في الليل، ألقت قوات الأمن الغاز المسيل للدموع لتفريق آلاف المتظاهرين. بعد ساعات دعت واشنطن الحكومة المصرية إلى الإصغاء لمطالب الشعب. يوم 26 يناير تظاهر آلاف الأشخاص في عدة مدن على الرغم من حظرها من قبل السلطات. في القاهرة قتل شخصان في صدامات وفي السويس ألقى متظاهرون زجاجات حارقة على مبنى حكومي. جرح 55 متظاهرا و15 شرطيا. يوم 27 يناير أشعل متظاهرون في شمال سيناء النار في مركز لأجهزة المطافىء وقصف مسلحون بثلاث قذائف أر بي جي مركزا للشرطة في مدينة الشيخ زايد بسيناء. يوم 28 يناير طلب الرئيس مبارك من الجيش مساعدة الشرطة على فرض احترام الأمن وتطبيق منع التجول في القاهرة والأسكندرية والسويس. يقول ملاحظون أوروبيون أنه منذ اليوم الأول لبدء المظاهرات في مصر سجل اندفاع أمريكي لركوب القاطرة، وهذا الاندفاع لا يمكن تفسيره على ضوء تكرر المظاهرات في مصر في السابق وإن كان بحدة أقل، سوى على أنه دليل أنهم كانوا يدركون أن الأمور تسير نحو التصعيد وليس العكس كما قدر المحللون من خارج أجهزة صنع القرار بواشنطن. علاقات أمريكية متميزة يوم الثلاثاء 1 فبراير 2001 قال الدكتور سمير العيطة رئيس تحرير صحيفة «لوموند دبلوماتيك» الفرنسية: «إن للأمريكيين علاقات متميزة مع الإخوان المسلمين بمصر. وقبل خمس سنوات قالت لي إحدى المسؤلات في الخارجية الأمريكية بان لبلادها علاقات منتظمة مع الإخوان المسلمين. لهذا فإن تحرك الإخوان المسلمين مؤخرا للحاق بما يحدث في الشارع المصري هو أمر، كما أظن، للأمريكيين شيء فيه. كما أن للأمريكان علاقة جيدة مع محمد البرادعي. ولذا فان لديهم خيوطا يمكن أن يلعبوا من خلالها دوراً محوريا في صيرورة الأحداث الجارية في مصر». بعد فترة قصيرة جدا من انطلاق المظاهرات في القاهرة يوم 25 يناير سجل المراقبون أن واشنطن وآلة دعايتها الضخمة قدمت محمد البرادعي الذي ترأس الوكالة الدولية للطاقة الذرية مدة 12 سنة حتى نوفمبر 2009 وبهذه الصفة منح جائزة نوبل للسلام سنة 2005، كزعيم للمعارضة في مصر وكرئيس بديل للرئيس حسني مبارك خلال فترة انتقالية. العديد من الخبراء في الولايات المتحدة وكذلك في أوروبا عارضوا ذلك التوجه خاصة وأن الرجل متهم في العديد من الأوساط بأنه مهد الطريق خلال ترؤسه الوكالة الدولية للطاقة النووية للغزو الأمريكي للعراق بترديده الدعايات الأمريكية الكاذبة عن أسلحة الدمار الشامل العراقية. وقد اتهمه ساسة عراقيون قبل سقوط بغداد بأنه ينفذ تعليمات المخابرات المركزية الأمريكية، وبعد ذلك تعرض لهجمات شديدة عندما أعطى ما اعتبر صك براءة لتل أبيب فيما يخص برنامجها النووي رغم أن كل العالم يدرك أن لدى الكيان الصهيوني أكثر من 200 قنبلة نووية، وإستكمالا للإنتقادات الموجه للبرادعي الضجة التي أثارها حول العثور على عينات يورانيوم مخصب قرب مفاعل أنشاص النووي المصري الواقع في منطقة القاهرة الكبرى. خطأ واشنطن في الأول من فبراير 2011 كتبت ايزابيل لو باج من مكاتب وكالة فرانس برس في فيينا تقريرا عن الخطأ الذي ارتكبته واشنطن بتقديم البرادعي كزعيم مستقبلي لمصر فقالت: «يرى خبراء أن القوى الغربية الأوروبية لا تعتبر البرادعي الرجل المناسب لقيادة مصر وترى أنه بعيد عن واقع بلده. وقال دبلوماسي طالبا عدم كشف هويته ان «ما ينقصه هو قاعدة شعبية ودعم في الجيش وفي الطبقة البورجوازية في النظام». ولا يقيم الرجل الذي أرادت واشنطن أن يكون الشخصية الأساسية في حركة الاحتجاج على الرئيس حسني مبارك، في مصر التي غادرها منذ ثلاثين سنة، بل في فيينا اغلب الأوقات. وقال توماس هازل المتخصص في افريقيا الشمالية في جامعة برلين الحرة «السؤال هو التالي، هل سيكون قادرا على تغيير الأمور أو سيكون دمية ؟». وذكر ملاحظون ألمان أن انتقاد البرادعي يوم الاحد 30 يناير للولايات المتحدة لما سماه عدم وضوح موقفها من الأحداث في مصر، لم يتمتع بأي مصداقية لأنه كان من الواضح ومنذ البداية وخاصة للشعب المصري وقواته المسلحة أن واشنطن تحاول تحويل الأحداث لصالحها». ويضيف هؤلاء أن ما زاد الأمر تعقيدا للبرادعي أنه وبعد اعتصامه في مبدان التحرير وسط القاهرة بعد عودته السريعة من فيينا، كان محاطا بأشخاص يثير وجودهم حفيظة في الشارع المصري وحتى ضمن معارضي النظام، أشخاص مهما كانت المهمات التي يقال أنهم يقومون بها فهم يحسبون على الجهاز الأمريكي. في مصر التي خاضت ثلاث حروب مع إسرائيل والتي تتذكر كم مرة أقدمت واشنطن حتى على إرسال جنودها ليحاربوا مع الكيان الصهيوني لا يعتبر الأمريكيون أصدقاء ووجودهم وتدخلهم في شؤون مصر أو أي بلد عربي مرفوض، بل ويعني للبعض أنه إذا اتخذت واشنطن من شخص أو نظام خصما فإن ذلك يعني عكس كل ما يقال ضده. معهد كارنغي يوم 31 يناير عقد معهد كارنغي للسلام الذي يتخذ من واشنطن مركزا له ويحتفظ بمكاتب في القاهرة وبيروت وموسكو، ندوة حول التطورات الأخيرة في مصر شارك فيها هاتفياً من ميدان التحرير في القاهرة عمرو حمزاوي الذي يرأس أبحاث الديمقراطية في الشرق الأوسط ومروان المعشر نائب رئيس المعهد ومارينا أوتاوي رئيسة المعهد. وأخبر حمزاوي الذي كان يتحدث محاطاً بأكثر من 10 آلاف متظاهر من وسط ميدان التحرير، أخبر القاعة المليئة بالجالسين والواقفين من كتاب وصحفيين وأعضاء في الكونغرس وممثلين عن الدبلوماسية والسياسة الأمريكية «إن سمة هذه المظاهرات ليست سعيا وراء الخبز أو العمالة أو للتنديد بالبطالة فقط، بل تمردا واضحا على العجز في الحريات والإسراف في الفساد والتطلع نحو الديمقراطية والنزاهة والتعددية والحكم الرشيد وحكم القانون». عندما نصح ملاحظون واشنطن بخفض وجود من يحسبون عليها من جانب البرادعي وسحب رجالها المعروفين من ميدان التحرير، لم تبالي الإدارة الأمريكية وكما قال مراقب ألماني كانوا يتصورون أنهم بعد أن ركبوا قطار التغيير أصبحوا يقودونه. على أساس هذا التصور استمرت واشنطن في ممارسة صورة راعي البقر الذي هب لتغيير واقع الهنود الحمر نحو مستقبل أفضل. يوم الثلاثاء الأول من فبراير ذكرت وكالة فرانس برس أن مسؤولا أمريكيا أعلن أن سفيرة الولايات المتحدة في القاهرة مارغرت سكوبي تحدثت هاتفيا مع البرادعي. وأضاف هذا المسؤول الذي طلب عدم الكشف عن هويته «ان الحديث بين البرادعي الذي بات ابرز منتقدي مبارك، جرى في اطار اتصالات مع مختلف مجموعات المعارضة المصرية بما في ذلك حركة الإخوان المسلمين». بعد 24 ساعة وفي وقت يظهر فيه أن الإدارة الأمريكية بدأت تشعر ببعض أخطائها ذكر مسؤول أمريكي رفيع في واشنطن لفرانس برس يوم الاربعاء 2 فبراير ان السفارة الامريكية في القاهرة أجرت اتصالات مع عدد كبير من شخصيات المعارضة المصرية منذ بدء الاحتجاجات، نافيا اجراء أي اتصال مع حركة الاخوان المسلمين. قال ملاحظ النفي لم ينفع، الناس سمعوا الخبر الأول ولم يبالوا بالنفي فهم تعودوا على الأسلوب الأمريكي في لي الحقائق. الرئيس أوباما ووزيرة خارجيته كلينتون واصلا من جهتهما أسطورة راعي البقر المنقذ. دور راعي البقر يوم الأربعاء 2 فبراير أعلن اوباما أنه طلب من الرئيس مبارك البدء فورا بعملية انتقال سلمي للسلطة، وأكد البيت الأبيض أن أوباما كان يعني ما يقول حول «فورا». ومن المنطلق نفسه تطرق اوباما ايضا الى الدور الذي يضطلع به الجيش المصري في هذه الازمة، وقال «أريد أن احيي الجيش المصري على الاحتراف الذي أظهره عبر حمايته الشعب المصري». يوم الأربعاء أدانت كلينتون في اتصال هاتفي مع نائب الرئيس المصري عمر سليمان الاشتباكات «المروعة» التي دارت في ميدان التحرير بوسط القاهرة بين موالين للرئيس حسني مبارك ومعارضين له خلال تظاهرة معارضة للنظام، كما افاد بيان رسمي. وقالت الخارجية الامريكية ان كلينتون قالت ان اعمال العنف التي دارت الاربعاء واوقعت قتلى تمثل «تطورا مروعا بعد ايام من التظاهرات السلمية المتواصلة». واضافت الخارجية في بيان ان «الوزيرة طالبت الحكومة المصرية بمحاسبة المسؤولين عن أعمال العنف». متظاهرون من المعارضة وبعد أن سمعوا أنباء التدخل الأمريكي عادوا إلى منازلهم وبعضهم حول موقفه 180 درجة، مشيرين إلى أن واشنطن تكيل بمكيالين فهي لم تتحرك عندما قامت المظاهرات المعارضة للنظام بحرق المباني والهجوم ونهب المؤسسات الخاصة والعامة وقمع المعارضين لها. كما لم يبال البيت الأبيض بالتدخل المسلح المساند من خارج مصر والذي ساعد على فرار أكثر من 17 الف سجين غالبيتهم من المدانين بجرائم الحق العام من عدد من السجون. زيادة على تصريحات كلينتون وأوباما التي شكلت تدخلا في شأن داخلي مصري، خلفت الأخبار التي كشفت عن توجه بعض السياسيين المحسوبين على المعارضة إلى واشنطن استياء كبيرا في أوساط الجيش والشعب. مساعد رئيس حزب الوفد مصطفى الجندي وصل إلى العاصمة واشنطن يوم 30 يناير برفقة مصريين آخرين لم يكشف عن أسمائهم، وأكد الجندي انه جاء بتخويل من الأحزاب المعارضة الرئيسية التي تشمل الإخوان المسلمين، وأجرى ويجري اجتماعات مع أعضاء في الكونغرس الأمريكي وصناع قرار. وأضاف الجندي «هناك قوتان في مصر الآن، الشارع والجيش، الشارع من دون قيادة ونحن بحاجة للدفاع عن الثورة التي انطلقت»، «الجيش قوي والشارع يحبه والولايات المتحدة تحبه ويمكن أن يلعب دورا مهما». وشرح الجندي ان هناك خطة متفقا عليها من الأحزاب المعارضة، وهي «جمهورية ثالثة، بعدما كانت الجمهورية الأولى لجمال عبد الناصر والثانية لمبارك ولكن الجمهورية الثالثة تكون جمهورية برلمانية برئيس ليس منتخبا لمدى الحياة». حجم التدخل الأمريكي لم يكن وليد اليوم بل قديما فقد نشرت صحيفة «افتنبوستن» النرويجية يوم الجمعة 28 يناير برقيات حصل عليها موقع ويكيليكس أظهرت أن الولايات المتحدة دفعت عشرات ملايين الدولارات إلى منظمات غير حكومية في مصر تعارض النظام. وجاء في برقية مسربة صادرة عن السفارة الأمريكية في القاهرة بتاريخ 6 ديسمبر 2007 أن الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (يو اس ايد) خصصت مبلغ 66 مليون دولار في عام 2008 و75 مليون دولار في عام 2009 لبرامج مصرية لنشر ما سمته الديمقراطية والحكم الجيد. وذكرت الصحيفة التي حصلت على كافة البرقيات الدبلوماسية الأمريكية التي سربها موقع ويكيليكس وعددها 250 ألف وثيقة، أن الولايات المتحدة أسهمت بشكل مباشر في «بناء القوى التي تعارض الرئيس» مبارك. سلاح ذو حدين يوم الخميس 3 يناير وفي تحذير ذو حدين صدر عن مركز مهم لتقديم النصح لساسة الولايات المتحدة، اعتبرت مجموعة «انترناشونال كرايسز غروب» في بيان لها «انه بات من الصعب تصور عملية انتقال سلمية في مصر. وقال مركز الدراسات «الكثيرون في مصر يؤيدون الرئيس مبارك ويشعرون بالقلق من فوضى يمكن ان يسببها انسحاب مبكر للرئيس وسيسعدون ببقائه حتى انتهاء ولايته». وخلصت الدراسة إلى القول أن «لا الجيش ولا البلد يمكن ان يسمحا بالنيل من شرعية القوات المسلحة». وجاء هذا التحذير بعد نشرت معلومات على أن قوى سياسية من ضمنها الإخوان المسلمون وحركة الجهاد يخططون للمطالبة بحل الجيش المصري، وتكوين جيش جديد لا يتدخل في السياسة ويكون مواليا للحكام الجدد. وكان معارضون في مصر قد انتقدوا الأموال الضخمة التي تنفق على الجيش المصري الذي يزيد عديده على 500 ألف جندي والذي يملك احتياطيا يفوق الأربعة ملايين «حيث أن التجنيد إجباري». كما سبق وإن انتقد سياسيون في إسرائيل ومنهم وزير الخارجية الحالي ليبرمان احتفاظ مصر بجيش ضخم وصناعة عسكرية قوية، وقد سار سياسيون أمريكيون وأعضاء في الكونغرس في نفس الاتجاه. التهديد بالتدخل في قناة السويس أشار ملاحظون أجانب وخاصة في ألمانيا إلى ان كثافة التدخلات الأجنبية في أحداث مصر وإستخدامها وسائل مبتكرة لزيادة حالة عدم الاستقرار ترفع من درجة خطورة الوضع وقد تفرز نتائج عكسية على الأطراف التي تصعد من حدة المواجهات. وكمثال أشار هؤلاء الملاحظين إلى تصريحات المتحدث بإسم البيت الأبيض روبرت غيبس يوم 3 يناير والتي قال فيها إن الرسالة التي أبلغها الرئيس باراك أوباما بكل وضوح للرئيس حسني مبارك هي أن الوقت قد حان للتغيير، وأوضح غيبس أن واشنطن تريد التغيير الآن وليس في سبتمبر القادم. وجاءت تصريحات البيت الأبيض بعد اتصال مايك مولن رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية مع نظيره المصري الفريق سامي عنان. وتضغط واشنطن ليتدخل الجيش المصري إلى جانب المعارضة. وعبر مولن لعنان عن ثقته في قدرة الجيش المصري على توفير الأمن الداخلي للبلاد وفي منطقة قناة السويس. وجاء هذا الحديث بعد تهديد واضح بتدخل عسكري أمريكي في منطقة قناة السويس، وهو يعكس غضب واشنطن من عدم استجابة قيادة الجيش المصري لطلباتها. فيوم الثلاثاء الأول من فبراير قال الجنرال جيمس ماتيس قائد القيادة المركزية الامريكية والذي يشرف على العمليات العسكرية الأمريكية في منطقة تمتد من مصر إلى باكستان. إن الولايات المتحدة سترد «دبلوماسيا واقتصاديا وعسكريا» على أي إغلاق لقناة السويس. وتتحكم مصر في خطين مهمين لنقل النفط هما قناة السويس وخط سوميد الذي ينقل النفط من البحر الأحمر للبحر المتوسط. موسكو تحذر واشنطن عدة قوى دولية بدأت تتحرك بعد الأيام السبعة لبدء المظاهرات في مصر لتردع التدخل الأمريكي البريطاني الإسرائيلي المكثف. وهكذا أعلنت موسكو الرسمية يوم الأربعاء 2 يناير وعبر وكالة «ريا نوفوستي» عن رفضها لأي تدخل خارجي في الشؤون الداخلية لمصر. وقال سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسية ان بلاده «لا ترى من المفيد ما وصفه بفرض وصفات وإنذارات من الخارج على السلطة والشعب في مصر». وأضاف المسؤول الروسي ان مصر شريك استراتيجي وبلد رئيسي لروسيا في منطقة الشرق الأوسط وان السياسيين والشعب في مصر يعرفون كيفية حل ما يصادفهم من مشاكل». وأشارت مصادر روسية إلى ان الولايات المتحدة وبعض وسائل الإعلام تضخم الأحداث في مصر، وأنه على سبيل المثال تحدثت عن تظاهر 8 أو أربعة ملايين مصري ضد الحكومة، في حين أن التقديرات الروسية وحتى تلك التي نشرتها وكالات إعلام دولية أكدت أن مجموع المتظاهرين يوم الثلاثاء كان حوالي 250 ألف في القاهرة و 190 ألفا في الأسكندرية والسويس في حين توقفت المظاهرات في مدن أخرى شمال القاهرة مع العلم أن أي مظاهرات لم تقع جنوب القاهرة الكبرى أي أن ثلثي مساحة مصر ظلت هادئة. في نفس الوقت ذكرت مصادر حلف الأطلسي في بروكسيل أن سفنا حربية روسية تحركت نحو شرق المتوسط ردا على تحركات للأسطول السادس الأمريكي. البرازيل التي عانت على مر تاريخها مثل باقي دول أمريكا اللاتينية من التدخل الأمريكي، أعلنت في بيان لوزارة خارجيتها يوم الجمعة 28 يناير أنها تتابع باهتمام التظاهرات ضد الحكومات المصرية والتونسية واليمنية» واضاف البيان ان «الحكومة البرازيلية تعرب عن الأمل في ان تجد البلدان الصديقة الطريق لتطور سياسي من شأنه تلبية تطلعات الشعب في مناخ سلمي ومن دون تدخلات خارجية». كما عبر وزير الخارجية الالماني غيدو فسترفيلي يوم الاربعاء 2 فبراير عن ارتياحه لرغبة الرئيس مبارك في «فتح الطريق لتجديد سياسي»، مؤكدا ان «الألمان والأوروبيين ليسوا الحكم بل الشعب المصري هو الذي يقرر من يجب ان يحكم». تغطية اعلامية تكيل بمكيالين أبرز معلق روسي أن وسائل الاعلام الغربية وغيرها ركزت على مظاهرات المعارضين وأهملت المؤيدين، وقال أنه يوم 2 فبراير بثت وكالة فرانس برس مراسلة لصحفييها في القاهرة قالت فيها «تجمع قرابة عشرة الاف شخص يوم الاربعاء الثاني من فبراير في ميدان مصطفى محمود في القاهرة للتعبير عن تأييدهم للرئيس مبارك، كما نظمت تجمعات مشابهة في أحياء أخرى مثل شبرا والعباسية ومدينة نصر. ورفع المتظاهرون لافتات تقول «لا لإهانة رمز مصر» و»نعم لرجل الحرب والسلام» و»مبارك في قلوب المصريين .. سامحنا يا مبارك». كما رفعت لافتة تقول «لا لمدمر العراق» في إشارة إلى البرادعي و»لن نكون عراقا آخر» و»اللي بيحب مصر ما يغرقش مصر». كما رددوا هتافات تقول «ليسقط البرادعي، الخاين البرادعي عميل الامريكان». ونالت قناة الجزيرة نصيبا وافرا من انتقادت المشاركين. وكان الشعار الأكثر حماسا ضدها يقول «الجزيرة فين الشعب المصري اهو». يوم الخميس 3 فبراير نقلت وكالات فرانس برس وريترز عن المدير الفني لمنتخب مصر حسن شحاتة الذي شارك في مظاهرة ضخمة مؤيدة لمبارك، تأكيده أنه مؤيد لبقاء الرئيس المصري في منصبة لحين انتهاء مدة ولايته الحالية في سبتمبر المقبل، مشيرا إلى أنه خرج في مظاهرات تأييد مبارك ليس بغرض الحصول على منفعة من ورائه، لكن من أجل صالح مصر وأمنها واستقرارها. وقال شحاتة إن الرئيس مبارك من حقه استكمال مدة ولايته وبعدها يستطيع الشعب أن يقول كلمته ويختار من يشاء، موضحاً أن الملايين في مصر ترغب في بقاء الرئيس مبارك لسنوات قادمة، لا سيما وأنه استطاع أن يبتعد بالبلاد عن أي توترات سياسية في المنطقة ما منح شعبها ميزة العيش في أمان وسلام.