شاءت الأقدار أن أحل بمدينة القاهرة في مصر يوم انطلاق مظاهرات الاحتجاج ضد النظام السياسي وعلى رأسه حسني مبارك الذي استمر في الحكم أزيد من ثلاثة عقود من الزمن، فشاهدت عن قرب كيف أن المظاهرات الحاشدة التي يقودها الشباب بدأت سلمية وكيف تسبب استعمال العنف من طرف الشرطة في استفزاز المتظاهرين وإحداث التوتر وتأزيم الوضع ،حيث كانت المواجهة القمعية العنيفة للمظاهرات السلمية بمثابة صب الزيت على النار مما أدى إلى اتساع دائرة التظاهر وارتفاع قوة الحركة الاحتجاجية التي تعممت على امتداد التراب المصري، وحددت هدفا أساسيا مشتركا وهو إسقاط النظام السياسي الذي وصفوه في لافتاتهم وشعاراتهم بأنه نظام مستبد وفاسد ويستند على حزب صنعته وترعاه الدولة، ومطالبتهم برحيل الرئيس مبارك باعتباره المسؤول الأول في النظام الفاسد. ومن الواضح أن المسؤولين في مصر كانوا عاجزين عن الإنصات لنبض الشارع وغير مبالين بما يمور في ثنايا المجتمع وغير مكترثين برغبات وطموحات الشباب، ويبدو أنهم كانوا يستصغرون قدرات الأجيال الصاعدة ويجهلون أهمية الوسائل التكنولوجية الحديثة التي يتواصلون بواسطتها، وربما كانوا يعتقدون أنه يمكن التحكم في الوضع من خلال حزب مصنوع بأدوات السلطة ومدعوم من طرفها ويحصل على أغلبية المقاعد في مجلسي الشعب والشورى بالتزوير، وأنه بتكميم الأفواه وقمع الحريات وتهميش القوى الحية سيضمنون الدوام للنظام. ولما تبين أن الدعوة إلى التظاهر تمت من خلال شبكة الأنترنيت وأن طريقة التواصل بهذه الآلية بين الشباب المتطلع إلى الحرية والكرامة اخترقت الحصار الإعلامي وتجاوزت الوسائل البدائية للنظام في مصادرة حق التعبير عن الرأي المخالف، قامت السلطات بإيقاف العمل بالأنترنيت على مستوى مختلف المحافظات في مصر مع التجاهل أو الجهل بالأضرار الجسيمة التي تنتج عن تعطيل الكثير من المصالح. ومن التدابير الشنيعة التي اتخذها النظام المصري وهو يظن أنه يحمي نفسه من غضب الشعب، تعطيل خطوط الهواتف المحمولة فأصبحت الاتصالات متعذرة مهما كانت ضرورتها الإنسانية أو الاجتماعية أو العملية، ولم يعد بإمكان حتى المواطنين غير المصريين من الاتصال بذويهم، وقد عانيت شخصيا من هذا الإجراء التعسفي الأخرق الذي يكشف فظاظة وخساسة الذين قرروه، ولم يتم إعادة تشغيل الهواتف المحمولة إلا بعد الضغط الدولي. ولما عجزت الشرطة أمام ضخامة المظاهرات وصمود وإصرار المتظاهرين على تحقيق هدفهم بسقوط النظام واضطرار عناصر الأمن للانسحاب، فقد لجأ هؤلاء إلى أسلوب غريب ودنيء حيث أطلقوا سراح المعتقلين في قضايا الحق العام من مخافر الشرطة لإثارة الفوضى والسلب والنهب وإلصاق التهمة بالمتظاهرين الذين يؤكدون أن مسيراتهم سلمية. وبعدما تبين أنه لا جدوى من قرار حظر التجول في تفريق المتظاهرين، بدأت فرق من الأمن بلباس مدني تحاول التسرب بين صفوف المتظاهرين لخلق البلبلة بين صفوفهم، كما بدأت السلطات تعبئ عناصر من الحزب الحاكم ومن الموالين للقيام بمظاهرات مضادة للتشويش على مطلب المتظاهرين برحيل النظام. ولا يمكن لأي متتبع لتطور الأحداث عن قرب في مصر إلا أن يستغرب حينما يشاهد مسيرات حاشدة ومنظمة يصرخ السائرون فيها بسقوط النظام في حين يتعامل هذا الأخير مع الواقع وكأنه لا يسمع ولا يرى ولا يحس ويتعامل بغباوة مع التطورات ويحاول التمسك بالحكم بأساليب بدائية وأعمال غير محسوبة العواقب، أو بخطابات لا تقنع أحدا. اضطررت بسبب الأحداث لمغادرة مصر قبل انتهاء برنامج الزيارة ورغم الصعوبات الكثيرة التي مررت منها قبل المغادرة فقد كنت أردد في نفسي: حفظ الله مصر من كل سوء وحقق لشعبها ما يتمناه من حرية وكرامة واستقرار وتقدم.