يقال إن الرجل الرابع مات في شارع الزرقطوني، كان يمشي ليس به ولا عليه باتجاه هدف مجهول، وإذا به يسقط قريبا إلى مخدع الهاتف قبالة الوكالة البنكية وكانت قد أغلقت للتو. كان الوقت تجاوز العصر بقليل، وكانت الشمس لا تزال حارة مثلما كانت على قيظها في منتصف النهار. هذا ما أكده أحدهم لبعض الشباب العائدين من قاعة مزاولة الألعاب الرياضية في طريق المصلى. وبعد دقائق تحلق المارة والعابرون حول الجثة، وأفرغ الفضوليون ما لديهم من الأقوال، ومتى ظهرت دورية رجال الأمن تفرقوا، وظلوا يتتبعون المشهد من بعيد إلى أن جاءت سيارة الإسعاف وحملت الميت إلى المستوصف، ولم يعد مصيره بعدها يهم أحدا، لأنه بعد ساعتين وثلث الساعة - تقريبا- شغل الناس بموت الرجل الخامس، وكان الضحية سقط هذه المرة في «قهوة الغروب» الواقعة عند القامرة. كذلك أعلن أصدقاؤه الذين كانوا يلعبون معه الورق، كان سقط على عين قفاه، كما قالوا. ومن جديد تهامس الناس حول غرابة حوادث الموت هذه. لكن مع مجيء أخبار الميت التالي ارتفع الهمس إلى درجة الاحتجاج، وإذا الضحية امرأة لقيت حتفها بعد ذلك بيوم وليلة، وهي تغادر بيتها مبكرا، قبيل اشتداد الحرارة القائظة في هذه الأيام ، كانت تقصد السوق البلدي من أجل شراء حصتها من السمك نزولا عند رغبة زوجها المريض، لأنه متى طلعت الشمس لم يتبق إلا السمك الملوث. وهكذا عادت بين الموت والحياة في عربة عتيقة مأجورة لتلفظ آخر أنفاسها بين يدي حامليها على العتبة. وفي الأسبوع الثالث سقط الميت التاسع والعاشر على التوالي، حصل الأول في القصبة في درب الحاج المدني، وحدث الثاني في «سوق الثلاثاء» الذي كانت تساقطت عليه أمطار غزيرة في غير موسمها، حتى أضحى من الصعب اجتياز ممراته. الألسنة التي من عادتها أن لا تركن إلى الصمت أخذت تلهج بالكلام عن حرب خفية تشنها عصابة من القتلة المتخفين بين الناس في المدينة. وبطبيعة الحال كانت هذه الألسنة عاجزة عن التعرف عمن يكونون وما هي هويتهم ! وبذلت محاولات متكررة لمعرفة السبب مما أنعش سوق إنتاج وإعادة إنتاج الكلام في الشوارع والمقاهي والبيوت، حيث بات الناس غير آمنين على أغراضهم ودمائهم . - لا ... ليس الأمر طبيعيا .. وهكذا أخذت الأصوات تتعالى متشككة، ومحاولة دق أجراس الإنذار، خاصة وأن مدينة المحروسة غدا محكوما عليها بالفناء إذا هي لم تأخذ كافة الاحتياط لمواجهة هذا الكابوس القادم من الماوراء، والذي هو عالم غامض وملغز... ولم يكد يمضي أسبوع آخر حتى أخذ الموتى يتساقطون كالزبيب ، على حد تعبير أحدهم. وإذا بكل شيء يحمل معاني الموت، ويتضمنه بالفعل أو بالقوة، ويحيل عليه. ولامتصاص غضب الألسنة الثائرة تم التفكير في وضع اليد أولا على شبح تلك العصابة، ولهذا الغرض تجند العسكر والقوات الاحتياطية ورجال المطافئ إلى جانب رجال الأمن، وتمت الاستعانة بكبار الخبراء في علم الجريمة في القرن التاسع عشر، وتحديدا منذ جهود العلامة لومبروزو وشيرلوك هولمز والمحقق بروفيري الذي هوى بمطرقته على رأس راسكو لينيكوف والمفتش بطل الرسالة المسروقة، واستعين بتجربة المُتبحرة في أسرار الجريمة أجاثا كريستي، وبخبرة الحاذق المحتال في تلفيق وحل الجرائم المخرج هيتشكوك وأمثاله من ارسين لوبين الى كولومبو و»ديريك» وبالفنان الجراح براين دي بالما... كل ذلك من أجل معرفة أثار الفاعل، ومَن مِن عتاة المجرمين يكمن وراء هذا الإجرام الشنيع ! وذلك منذ سقوط أول ضحية بضربة سكين طائشة من مجرم متربص والذي تضاربت الأقوال حوله طويلا، ولا تزال. وتبع هذا أن الحركة في عيادات الأطباء انتعشت، ونفدت الأدوية من الصيدليات، وبيعت في السوق السوداء بأثمنة خيالية، مما ألجأ الناس إلى العطارين لمساعدتهم على دفع هذا البلاء المقنع كالنبي المعلوم، وهل تصدق العبارة التي راجت بأن العطار سوف يصلح ما أفسده الموت! وإذا بالجموع الخائفة تهرع إلى المساجد والزوايا ويبيتون الليالي يرددون «اللطيف»، ويسهرون هناك خوفا من مداهمة الموت لهم وهم فرادى في أحد المنعطفات، معزولين وبدون حول ولا قوة، وهكذا كان عليهم أن يتوزعوا فرقا وظلوا يتبادلون النوم والحراسة بالتناوب، وأيضا تربصا واحتيالا للقبض على الفاعل بن الفاعلة. وفي بحر هذه الأشهر ازداد تساقط الموتى حتى بعث ذلك الرعب في الأحياء، وعكف الباحثون على محاولة معرفة أسباب ذلك في كتب الموت القديمة والحديثة، من مثل : كتاب الموت والموتى عند المصريين القدامى، وكتاب الجرثوم الأثيم في معرفة سبب الموت الزنيم وبهامشه حاشية على «وإذا المنية أنشبت أظفارها..»، وكتاب حفظ القوت في الثناء على الموت وفي ختامه نسخة نادرة من مخطوط عربي قديم بها شرح وتفسير وتعليق على «ضجعة الموت» لرهين المحبسين، وكتاب الخلود الطبيعي، والموت في الفكر الغربي... كانوا يفحصون ويدققون لعلهم يعرفون، ومن تم يصلون إلى قطع دابره واجتثاثه من أصوله، ويستطيع الناس أن ينعموا ببعض من أسباب الحياة، ويسترجعوا ما فقدوا من الأمن والهدوء. وفي هذه الفترة كان التحقيق الدقيق توصل إلى استبعاد فرضية الإرهاب، لكن الألسنة لا تزال حائرة في أمر الموت، وتساءل البعض لماذا يتربص بسكان المدينة، ويُنَكَل بهذه المعزوفة الرقيقة التي اسمها المحروسة؟ وعزا البعض الآخر المسألة إلى غضب الله لما يقوم به المترفون من المفاسد والمظالم، بينما عزاه آخرون إلى ما يلفظه معمل الزهور القائم في الضاحية على ضفة الوادي من النفايات السامة، فيها يكمن جرثوم الموت، وتطرف جماعة من الفاهمين أكثر من غيرهم وقالوا بأن الأمر ناتج عن أدوية فاسدة تدسها الحكومة في الماء الشروب! - ولكن الحكومة لا تفعل ذلك إلا مع المعارضين ... - وهل تعتقد أن هؤلاء الضحايا لا علاقة لهم بالمعارضة ؟ - لقد أبديت فكرتي في الموضوع سابقا . - وما هي ؟ - أعتقد أن وراء ذلك عصابة إجرامية عالمية ... - هذا كثير على عصابة .. - لا، ليس بكثير - ولو كانت تتلقى أوامرها من المبنى الأزرق...؟ - السبب يرجع إلى القوى العظمى .. - الصواب أن الجرثوم قادم من أحد الكواكب لإبادة كوكبنا ! - ولأية غاية يريدون هذه الإبادة ؟ - لعلهم .. يحسدوننا .. !! - لعلها طريقة تفكير خرافية . وعلى هذه الحال تبلبلت الألسنة في المحروسة، كانت شحبت وأقفرت وباتت مثل الهيكل العظمي، كل شيء فيها غدا خرابا، الدور والمحلات والأشجار. كان الموت تسرب بخطواته الصامتة إلى دروب المحروسة، إلى الأبواب والسقوف، إلى الأفكار والخواطر.. وهناك وجد له مكانا دافئا، واستوطن وقَر? عينا، وأخذ كل شيء ينتظر دوره مع الموت متى سوف يطرق الباب إذا كان بقي ثمة باب؟ وأضحت الدروب قاحلة لا تفضي سوى إلى الموت يطل بمحياه الكئيب، وعلى هذا كانت الحياة على وشك الاختفاء والتلاشي . وتعبر اللحظات ولا يتخلف منها إلا العديد من الجثت والهياكل، وليس على الأحياء إلا أن يواروا أمواتهم التراب فلا تقضي عليهم الروائح العفنة والجراثيم المتراكمة. وتطوع لهذا العمل كل من بقي على قيد الحياة، وتوزع الجميع إلى فريقين: أحدهما للدفن بالنهار وآخر للدفن بالليل.. وغص الطريق بالنعوش الغادية والرائحة حتى اختلط الغبار بالدموع والمواجيد والآهات. وامتلأت المقبرة وألحقت بها قبور جماعية، وغدت الجثت تقاد إلى المصير المحتوم عارية ومتفسخة ومتحللة . مات كثيرون وكثيرون غيرهم على الطريق، وتأكد الناس أن وباء الموت يقيم بينهم على الرحب والسعة، فهل تكون المحروسة مرتاحة ، خالية، هادئة كأن الحياة لم تعبر من هناك في أية لحظة من لحظات هذا الوجود ! ؟ هكذا كنت أتساءل، وأنا أقف وحدي على الربوة بهيأتي الإجرامية متأبطا السجل الأسود ومطلقا العنان لضحكاتي ترتفع عاليا، عاليا، إلى أن تبلغ قبة السماء. أليس يبلغكم صداها ؟ [email protected]