لا ينتهي الحديث عن حاضر اللغة العربية ومستقبلها عند حدّ. فاللغة العربية قضية دائمة الحضور، وهي موضوع اليوم والغد. بل أستطيع أن أقول إنَّ اللغة العربية، على مستوى المغرب وعلى مستوى الدول العربية عموماً، هي (أم القضايا). فليست المسألة كما قد يظن أو يتوهم بعضهم، سياسية محضة، أو ثقافية خالصة، أو لسانية فحسب، ولكنّها مسألة مصير ومستقبل، وسيادة وهوية، وهي بذلك تجمع كل العناصر في منظومة واحدة؛ فهي سياسية، وسيادية، وثقافية، ولسانية، لترتقي إلى المستوى الحضاري السامي. أذكر أنني كنت في زيارة للدكتور شوقي ضيف، رئيس مجمع اللغة العربية في القاهرة السابق، رحمه الله، في مكتبه ذات يوم، أستمع إليه وهو يتحدث معي في لطف أبوي أسرني، عن الوضع اللغوي في مصر، فسألته عن مدى التجاوب الذي تلقاه الجهود التي يبذلها المجمع لدى المسؤولين في البلاد. فكان مما قاله لي : «إن مجمع اللغة العربية مؤسسة سيادية، وليست مجرد مؤسسة ثقافية علمية تابعة من الناحية الإدارية إلى وزارة التعليم العالي، لأن حماية اللغة العربية، هي من الأمور السيادية في الدولة المصرية». وأنا أعلم أن تعبير (المؤسسات السيادية) الذي يستخدم في مصر، ينصرف إلى المؤسسات التي تختص بالأمن القومي المصري. والقومي هنا بمعنى الوطني، لا كما يفهم من يتأثرون بالإيديولوجية البعثية التي تفرّق بين (الدولة القومية) و(الدولة القطرية)، وتقلل من شأن الثانية. وتلك متاهة لا حدود لها، يعاني منها العرب اليوم، كما عانوا منها في الأمس القريب، دون أن يشعروا. وتلك قضية أخرى على كل حال. المهم أن الدكتور شوقي ضيف، وهو أشهر أستاذ جامعي في كليات الآداب بالجامعات العربية جميعاً، والعلامة اللغوي الموسوعي الذي جلس في المقعد الذي كان يجلس عليه أحمد لطفي السيد باشا، والدكتور طه حسين، في رئاسة مجمع اللغة العربية، يدرك أن اللغة العربية قضية سيادية، أي لها صلة بالأمن القومي الوطني بالمفهوم العام للأمن، الذي يعني فيما يعنيه، حماية سيادة الدولة من النواحي كافة. قبل فترة، قرأت بحثاً مستفيضاً للدكتور أحمد فتحي سرور، رئيس مجلس الشعب المصري، وأستاذ القانون الدستوري في جامعة القاهرة، ووزير التعليم العالي الأسبق، حول وضع اللغة العربية في الدستور المصري، ألقاه في المؤتمر السنوي لمجمع اللغة العربية في القاهرة، ونشر في حلقتين في (الأهرام). وقد استحضرت ذلك البحث الذي كان رائعاً وعظيم الفائدة، بينما كنت أتهيأ لقراءة بحث قيم رائع للدكتور عباس الجراري، ألقاه في الندوة الوطنية التي عقدتها لجنة القيم والتراث في أكاديمية المملكة المغربية، حول موضوع (اللغة العربية في الخطاب الإعلامي والإداري والتشريعي بالمغرب) يومي 20 و21 أكتوبر الماضي، تناول فيه موضوع (معنى دستورية اللغة). وهو بحث، وكما عودنا الأستاذ الكبير والأكاديمي الموسوعي، على درجة كبيرة من العمق والأصالة والرصانة، قسمه إلى ثلاثة محاور رئيسة، تشمل مفهوم الدستور وتعبيره عن الهوية الوطنية، وحلقات هذه الهوية وموقع اللغة فيها عربية فصيحة وغيرها، ومدى أهلية اللغة العربية وما معها للنهوض بدورها. قرأت هذا العرض الشيق الممتع المتعمق في بحث هذا الموضوع الحيوي، كما أقرأ دائماً أعمال الدكتور عباس الجراري، بتمعن وتدبر وتركيز، أتعلم منه وأستفيد، وأخرج في جميع الأحوال، من قراءتي له، بزاد من المعرفة التي تزيدني تعمقاً في القضايا التي تتناولها كتبه وبحوثه ومحاضراته ومقالاته. وتلك ميزة لا تتوافر لدى جميع من يكتب وينشر، بمن في ذلك نفر من أساتذة الجامعة في المغرب والمشرق على السواء. يتحدث الدكتور عباس الجراري عن الهوية اللغوية، فيقول من وحي الاستيعاب العميق للتاريخ الحضاري المغربي : «إن الهوية ارتبطت في المغرب بالإسلام الذي أصبح اعتناقه مع اللغة العربية، رمزَ الانتماء إلى هذه الهوية. ومن ثم دعا إلى التشبث بها، ليس فقط بما جاء به من عقيدة وشريعة، ولكن كذلك عبر قيمه وتوجيهاته السلوكية، ومن خلال اللسان العربي الذي نزل به القرآن الكريم، وهو ما أضفى على الهوية سمة العروبة التي لا تعني مدلولها الجنسي أو العرقي، ولكن تعني بعدها الفكري والثقافي والقيمي، أي ما هو لغة أو له صلة باللغة، وهو البعد الذي ظل مصطلح العروبة محافظاً عليه، والذي تبقى اللغة العربية أبرز مظهر له وأهم مضمون له كذلك، لا سيما بعد الهزائم المتوالية على العرب وما يعانون اليوم من إكراهات ويواجهون من تحديات، لم يبق لهم جامع أمامها غير الثقافة». ويعرض لوضع اللغة العربية في الدساتير المتعاقبة من دستور 1963 إلى دستور 1996، وقبلها القانون الأساسي للمملكة الذي صدر سنة 1961. ويقول في هذا الصدد : «إذا كان حضور الإسلام والعربية قد ترسخ في المغرب منذ الفتح الإسلامي على مدى أزيد من ثلاثة عشر قرناً، فإن ظهور بوادر النهضة الحديثة وما جاءت به من تجديدات عصرية، ولا سيما بعد الاستقلال، جعل الدساتير المغربية تنص عليهما فيما تستهل به من تصديرات». ويشير في عرضه إلى المراسيم والمذكرات التي صدرت عن الحكومة، والتي تؤكد أن العربية هي اللغة الرسمية، وتدعو إلى التزامها في المراسلات وغيرها مما يتعلق بالإدارة ومصالح المواطنين. كما يشير إلى المحاولات الأولى لإحداث الدستور في مطلع القرن العشرين، التي كانت تنص على مبادئ مماثلة. ويخلص الدكتور عباس الجراري بعد تحليل مستفيض إلى القول: «إن هذه المقومات التي اعتمدتها الدساتير المغربية، والتي هي ركيزة الهوية، تجعلنا بحكم تكوينها، نثير قضية أساسية تتصل بمدى سعتها أو ضيقها، مما به تتشكل حلقات كلية أو فرعية، وإذا ما أخذنا اللغة في سياق هذه الحلقات، فإننا سنجد العربية الفصيحة حلقة واسعة وجامعة باعتبارها مقوماً أساسياً للهوية، ولكونها لسان القرآن الكريم ولغة الفكر والثقافة والتعليم والإدارة والإعلام، وأداة التواصل مع الناطق بها في كل مكان، حتى تقوم بكل المهام التي تقوم بها لغة رسمية في أي بلد». ويعرض للتعدد اللغوي في المغرب، فيقول : «لا يوجد أي تعارض بين الفصحى كحلقة واسعة، وبين باقي اللهجات أو اللغات والتسمية لا تهم كحلقات فرعية، لأن الاقتران الوثيق بين الإسلام والعربية يحثنا على أن نُذكر بأن انتشار هذه اللغة كان مواكباً لانتشار الإسلام واستقرار المغاربة عليه، رغم ما تعرض له هذا الاستقرار من اضطراب واهتزاز في بعض المراحل، ولا سيما في الأولى منها». وأوضح أن العامية المغربية ليست ناشئة فقط من الفصحى مع التحريفات التي أصابتها في نطق الناس، ولكنها «نشأت كذلك متأثرة بالأمازيغية المحلية، وبمختلف اللهجات العربية التي وفدت مع المهاجرين إلى المغرب، بدءاً من الفاتحين الأوائل إلى الوافدين إليه من الأندلس والقيروان، ومن عرب بني هلال وبني سليم ومن معهما من الحلفاء». وذكّر في هذا الصدد بأن الأمازيغ الذين هم السكان الأصليون للمغرب هم كذلك حسب الرأي النزيه عرب حميريون من بني قحطان، وأن لغتهم تنتسب للمجموعة الحامية السامية. وباعتباره أستاذاً مبرزاً في جامعة محمد الخامس، تخرج على يده جيلان من طلاب الدراسات العليا من حملة الدكتوراه والماجستير في الأدب العربي، وعضواً عاملاً في كل من مجمع اللغة العربية في القاهرة، ومجمع اللغة العربية في دمشق، فقد اهتم بإصلاح اللغة العربية، وهي قضية تناولها في عديد من كتبه وبحوثه، وله فيها اجتهادات جديرة بكل التقدير، حيث قال : «إن الفصحى محتاجة لكي تقوم بهذا الدور، إلى معالجة تبدأ من توسيع متنها، بتطويره في اتجاه الحياة العادية وما يمارسه المواطن في يومه وبين أهله ومجتمعه، ثم تطويره في اتجاه مستحدثات العصر وما يجد فيه من اختراعات علمية وتقنية وحضارية، مما لم يعد الجهل به مقبولاً، كما لم يعد مقبولاً أن يتم الاعتماد فيه على لغة أجنبية أو لهجة عامية». ولأنه يتحدث عن تجربة علمية وخبرة أكاديمية ويصدر فيما يقوله عن معرفة عميقة بالموضوع، فقد دعا إلى الاجتهاد في إيجاد المصطلحات المواكبة لهذه المستحدثات، إما بالتعريب أو الاقتباس؛ مع مراجعة بعض القواعد النحوية والصرفية، ومن ثم تأهيلها لتكون لغة التعليم في جميع مراحله، بعيداً عن العشوائية والشعارات المفرغة التي كانت السبب في الفشل الذي يعانيه منذ بداية الاستقلال، وكذا لتكون لغة الإعلام والإدارة والإعلان والتواصل ومختلف مجالات الحياة. وهذا رأي حصيف جدير بالاعتبار، وحقيق بالأخذ به والعمل على تنفيذه. وهو خلاصة للآراء التي يتبناها اتحاد المجامع اللغوية العربية الذي يضم فطاحل اللغة العربية في هذا العصر، وصفوة من الخبراء المتخصصين في القضايا اللغوية على أعلى درجة من التمكن والاقتدار. والدكتور عباس الجراري أحد هذه الصفوة. وحيث إن الباحث المفكر الدكتور عباس الجراري يدرك خطورة مسخ اللغة العربية وإفسادها وتشويه جمالها على الثقافة الوطنية، فقد شدد في عرضه على حماية هذه المعالجة من كل عبث بها وبألفاظها وقواعدها وأساليبها، ومسخها بإقحام الدارجة فيه؛ فضلاً عن الفرنسية التي تتسرب عبر إدخال كلماتها وعباراتها إلى الحديث اليومي العادي للمواطنين، وكذا عبر الإعلانات المكتوبة بحروف عربية. كما أن هذه المعالجة تستوجب الحرص بصرامة على إحلالها المكانة التي يخولها لها الدستور. وهنا يلتقي الأستاذ الجامعي والأكاديمي، مع الصحافي الخبير المتخصص في الإعلام، في رفض العبث باللغة العربية بإقحام العامية فيها، وبالترويج للعامية التي تزحف على وسائل الإعلام والإعلانات. فقد قرأت العرض الذي قدمه الأستاذ محمد العربي المساري، في ندوة أكاديمية المملكة المغربية، حول (الفصحى والدارجة في الإعلام)، والذي استوفى الحديث عن الظاهرة الجديدة التي أصبحت مقلقة للغاية ومستفزة للمشاعر بدرجة لا تطاق. يقول الأستاذ المساري في عرضه الذي نشرته صحيفة (الأحداث المغربية) يوم الجمعة 29 أكتوبر الماضي : «أصبحت الفرنسية مفروضة، ومحاربة العربية في الإعلام السمعي البصري وفي الإشهار، عملية مستمرة منذ عقود. لقد تفاحشت في العشرية الأخيرة، الاستهانة باللغة العربية إلى درجة أمكن معها القول إن المغرب أخذ في الانتقال من بلد ثنائي اللغة (فرنسية وعربية)، إلى بلد يستغني شيئاً فشيئاً عن العربية، ليفسح المجال إلى الفرنسية وحدها». وهذه النتيجة التي وصل إليها أحد أقطاب الصحافة في المغرب ومن الرواد الأوائل، تؤكد أن الأمر دخل إلى مرحلة الخطورة الشديدة على هوية المغرب، بل أقول على سيادة المغرب. والأستاذ المساري أستاذ أجيال صحافية، وأعدّ نفسي منها، خير من يدرك خطورة هيمنة العامية على تماسك النسيج الوطني المغربي. يقول في عرضه الآنف الذكر : «إن المجال الإذاعي يسوده تسيّب لغوي أبرز ميلاً إلى السوقية التي لا تقتصر على المفردات والتراكيب، بل تتعلق بالمضمون، مما يخلق نوعاً من الشعبوية والميوعة». والاستخدام الواسع للدارجة في الإذاعة، وخصوصاً الإذاعة الرسمية للدولة، مسألة تستوجب وقفة لوضع الأمور في نصابها. وهي مسألة لابد من العودة فيها إلى الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري. يحضرني وأنا أختم هذا المقال، قول ردده الأستاذ الرائد الكبير محمد كرد عليّ الرئيس المؤسس للمجمع العلمي في دمشق، في كتابه الموسوعي (خطط الشام) : «من زهد في لغة آبائه وأجداده، كان حرياً بالزهد في وطنه ووطنيته، واللغة والوطن يصح أن يكونا اسماً لمسمى واحد».