في يونيو 1966 كرمت الأمة المغربية الزعيم المرحوم علال الفاسي في مهرجان وطني بمدينة فاس تحت إشراف فرع حزب الاستقلال، وتعاقب على منصة الخطابة عدد من المناضلين رفاق الزعيم حيث تناولوا آثاره على مسرح الأحداث التاريخية للمغرب الحديث. وفضل الأستاذ عبد الجبار السحيمي في مداخلته تناول كتاب «النقد الذاتي» ليستعرض شهادة ثابتة في حق الزعيم علال الفاسي تؤكد تصوره وتخطيطه المتكامل للمجتمع المغربي. نقدمه في هذه الصفحة بمناسبة تخليد الذكرى المائوية لميلاد الزعيم علال الفاسي (2010/1910). حين ترجموا كتاب «النقد الذاتي» في الصين، كانوا يقدمون من خلاله الوجه الإفريقي الثوري، كانوا يريدون أن يتعرفوا جيدا على الأفكار التي تؤمن بها الوطنية المغربية. وكان مذهلا لهم - كما صرح لي أحد الأصدقاء الذين زاروا الصين - أن يكتشفوا شمولية الفكر المغربي وثوريته منذ أكثر من عشرين عاما. أنا أيضا، وقفت أمام الكتاب بعد قراءتي الأولى له، لأرى أن أفكاره ودعوته كانتا تمثلان شجاعة كبيرة، فكيف يمكن لإنسان أن يعلن مثل هذه الأفكار في وسط كان مايزال يعاني من أثر دعوات الشعوذة ؟ كيف يمكن أن يناقش موضوع الدين بتلك الرحابة والتحرر. إنه علال، هكذا قلت لنفسي أخيرا. إنه علال الفاسي ولا أحد غيره يستطيع ذلك، فكما هي مواقفه ثورية وطنية، كذلك أفكاره وطنية ثورية تحررية. إنه دائما يحيى حياته بوضوح، مواقفه وأفكاره وسلوكه بلا تناقض. وكان شجاعا في مواقفه، وفي سلوكه، وهو أيضا شجاع في إعلان رأيه، وأكثر من ذلك، أنه شجاع في أن يدافع عن حق الآخرين في إعلان رأيه، وأكثر من ذلك، أنه شجاع أن يدافع عن حق الآخرين في إعلان آرائهم، حتى إذا كان يختلف معهم في هذه الآراء. والآن! لقد تقدم الزمن كثيرا منذ كتبت مقالات «النقد الذاتي». فماذا ترك الزمن وماذا أخذ من أفكار الكتاب ودعوته؟ تقدم الزمن كثيرا، فإلى أي حد كانت توجيهات «النقد الذاتي» واعية مشكلة المغرب، ومشكلة المواطن المغربي، وحاجات مجتمعنا، وما يجب أن يغير من نفسه وأن يترك؟ تقدم الزمن كثيرا... فماذا تغير من فكر الأستاذ علال الفاسي الذي أعلنه «النقد الذاتي» وماذا لم يتغير؟ هنا يعاودني الاندهاش والإعجاب. فالخطوط العريضة لأي مبدأ وطني، والمناقشات الجادة لمشاكلنا، هي هناك في الكتاب ولكنها يمكن أن تحمل الآن إلى حياتنا... لتؤكد استمرار قدرتها على أن تعبر عن حاجاتنا. لقد كنت أريد أن أقدم دراسة عن الكتاب، ولكن يظهر لي الآن أنني لن أستطيع، فمن أجل هذه الدراسة كان يجب أن أستعد باكرا، وأن أضع تفكير الرئيس علال أمام كل ما يقابله أو يختلف معه من أفكار المذاهب الإنسانية، فهذا «النقد الذاتي» يكاد يكون تخطيطا واعيا متكاملا لكل المجتمع. إنه لا يترك الجزئيات حين يتحدث عن التفاصيل، هو لا ينسى الشكل حين يعرض الجوهر، هذا برغم التواضع الكبير الذي يفتتح به الأستاذ الرئيس حين يؤكد أن ما يعرضه الكتاب ليس مفروضا على أحد، وأنه قابل للمناقشات والأخذ والرد، وأنه بالذات على استعداد لأن يعيد النظر في أي رأي من آراء الكتاب. فها هو الزمن يسير، ولكنه لم يستطع أن يقدم شهادة واحدة ضد فكر الكتاب، ولم يستطع أن يعطينا رأيا من آرائه مناقضا لواقعنا ولا مكانات تطبيقها على هذا الواقع. هذا هو الزمن تقدم كثيرا، فاقرأوا علال الفاسي في كتاباته الأخرى، ومبادئ حزب الاستقلال، بل انظروا أي برنامج وطني تقدمي، وتعالوا قولوا بعد ذلك، ألم تكن أفكار الكتاب نواة ذلك كله؟ ألسنا إلى الآن نستعمل نفس قاموس «النقد الذاتي» وتوجيهه؟ أليست «معركة اليوم والغد» هي الاستمرار الطبيعي «للنقد الذاتي». أنا أؤكد على مثل هذه الحقائق الصغيرة، لأن كثيرا من الكتابات تنشر في الصحف والمجلات، لتعبر عن فكرة آنية، وليدة اللحظة، متأثرة بالزمن والمكان، فإذا نشرت المقالات بعد ذلك في كتاب، يكون ممكنا أن يتجاوزها الزمان.. وهذا لم يحدث أبدا مع «النقد الذاتي»، ففي كل يوم يعلن صديق أنه قرأ الكتاب، وأنه خرج من قراءته له معجبا منبهرا، وفي كثير من الأحيان أنه قرأ الكتاب، وأنه خرج من قراءته له معجبا منبهرا، وفي كثير من الأحيان يسألني بعض الأصدقاء أين يمكن أن يجدوا الكتاب، والذين يعارضون حزب الاستقلال، والذين يعطفون عليه، يجمعون على قيمة الكتاب وريادته الفكرية. هذا ما يجعل دراسة سريعة عنه غير كافية، بل أنني وقد فكرت أن أعرض الكتاب، تخليت عن الفكرة، فسوف أعرض قسما منه اليوم، وأعود إلى استعراض أقسامه الأخرى، حتى أستوفيه حقه في العرض على الأقل. الباب الأول يحمل عنوان: «مسائل الفكر»! سوف أختار منه بعض سطوره أولا، وسوف أترك هذه السطور وحدها تساعدني على ما أردت أن أؤكد منذ البداية، فالنقد الذاتي رائع حقا، ومعانيه لامعة تقدمية، وهي صالحة لكل القوى التقدمية المتحررة أن ترفعها شعارات لها.. - متى ندرك جيدا أن الله الذي خلق الإنسان يوم ولادته عاريا، وخلق الدنيا يوم بروزها كاسية، مازال يخرجنا من بطون أمهاتنا متساوين في العري لكي نتساوى في الاستفادة من كساء الأرض؟ - إن الكل يجب أن يتساوى في الأقل الحيوي، ثم بعد ذلك يجب أن يتساوى الكل في وجود الميدان فسيحا أمامه. - نريد ثورة في التفكير تغير من عقليتنا، وتعمل على تبديل ذهنيتنا. - يجب أن نتحرر من ذهنية الطبقة البورجوازية التي تخشى من كل جديد... - لنثر على أنفسنا وعلى أوضاعنا... - إن الوطني الذي يسجن في سوس هو كل الوطنيين المغاربة... - يجب أن نعمل على أن تتطور المناطق المغربية كلها تطورا واحدا في وقت واحد. - الكل للكل... والواحد للكل. - إن اهتمامنا يجب أن يعمل على إصلاح شامل وتحسين كامل لحال الطبقات الاجتماعية بأسرها تحقيقا للتقارب بينها أو القضاء الكلي على ما بينها من فوارق هي الأخرى اصطناعية... - علينا أن نتعود التحرر تدريجيا من منطق العادة.. - إن الفكر حر لا يستطيع أحد أن يقيده. - يجب أن نخلق الجو الذي يسمح للكل بإبداء رأيه. - لنثق في العقل. ولكن لنرفع مستواه... - لتكن حرية التفكير جزءا من عقيدتنا التي لا تقبل الدفع. - إلا أنه لا مسؤولية بغير حرية... ولا حرية بغير تفكير... - نأخذ من القديم أحسنه ومن الحاضر أفضله. ولا علينا في المصادر التي نستقي عناصرنا منها. - إن المغرب الحر الذي يتمتع به مغاربة أحرار لهو الغاية الأولى التي يجب أن تعمل لها الجماهير. مبادئ لامعة هي بعض سطور الباب الأول. ومن خلال قراءتها سنرى هذا الالحاح الكبير الذي يوليه المفكر الكبير لقضية أساسية، قضية الحرية أولا، الحرية ثانيا، الحرية دائما، ذلك هو شعاره وذلك هو مبدأه وتلك هي مواقفه.. ان محاضرته الرائعة عن الحرية شرحت فلسفة الحرية، وأكدت مسؤولية الحرية، ولكنه يبدو وقد آمن بعد إيمانه بالله، بضرورة الحرية. ولست في حاجة لأن أزعم أنه سبق كثيرا الفكر السارتري في اعتباره أن الحرية تلزمها المسؤولية، فأنا لا أدرس الكتاب الآن حتى أضع تفكيره مقابل تفكير المذاهب الأخرى، أنا لا أقابل نظرية الاجتماعية والانسانية بنظرة الاشتراكية أو الوجودية أو غيرهما، انني أعرض فقط، وأنا لا أعرض إلا الباب الأول من الكتاب، فهناك أربعة أبواب عن مسائل الفكر، والتفكير بالمثال، والفكر الاقتصادي، والفكر الاجتماعي. وكل منها يحتاج الى صفحات طويلة لايفائها حقها، فلأقف فقط.. عند الباب الأول.. * * * * - لاشك عندي اننا في حاجة اليوم بصفة خاصة أن نعود إلى «النقد الذاتي» فمجتمعنا بعد عشر سنوات من الاستقلال قد حدثت فيه انتكاسة تجعل ضروريا أن نراجع الكتاب لنرى هنالك أمراضنا ونرى طريقة العلاج.. فنحن الآن نجتاز أخطر مرحلة من التفكير الأناني، من اعتبار كل منا انه هو.. وبعده الطوفان! نحن الآن نواجه أخلاقا غابوية، لا أحد يفكر في غير نفسه، ولا أحد يرى أبعد من مصلحته ومن ذاته. نفس هذا الداء كان يعشش في مجتمعنا، فكتب علال الفاسي قبل سنوات طويلة يقول: «لا يمكن لأمة ما أن تنهض من وهدة السقوط التي وقعت فيها إلا إذا تدربت على أن تفكر اجتماعيا»، ثم يعلن أننا «ألفنا أن لا نفكر بأحد ولا ننظر في أمر بشر كأن العالم كله محصور في وجودنا الخاص». ومن ثم يصيح «لنثر على أنفسنا وعلى أوضاعنا».. وفي نفس الوقت يكذب كل الافتراءات عن ضرورة وجود ثري فاحش الثراء وفقير مدقع. أنها نفس حالتنا اليوم أيضا، أن كلمته مازالت قائمة: «ليس هنالك أحد أجدر بالثراء من أحد. أن الكل يجب أن يتساوى».. وهو يبلور الفكرة بإيجاز وعمق حين يؤكد «ان الوطني الذي يسجن في سوس هو كل الوطنيين المغاربة». كم هي رائعة هذه الفكرة. لقد أعلنها من جديد في حملته ضد الظلم حين أوضح أن السوط الذي يضرب به القائد مواطنا في أية قرية هو سوط نضرب به نحن، يضرب أي مواطن وكل مواطن.. ما أكبر هذه المشاركة وأبعد معناها.. إذن، ان الأمة مدعوة الى تضامن حقيقي. إلى أن يعتبر الكل انه للواحد، والواحد انه للكل. ويأتي موضوع «التفكير شموليا» لينقل الفكرة إلى مستوى آخر هو ضرورة نبذ التفكير في القبلية، ضرورة الانطلاق الى أبعد من الحدود الصغيرة لمدينتي أو مدينتك، لقريتي أو قريتك، ضرورة معانقة كل الموضوعات وكل الأجزاء والتخلص من فكرة النافع وغير النافع»... وهنا يبدأ أول توجيه إلى لا عدالة الطبقلة فالرئيس علال يفضح ظلم الانقسام الطبقي المصطنع، فالفروق الطبقية يجب أن تزول.. وما أدق الاصطلاحات، وما أكبر دلالتها، انها تكاد تكون متشابهة عند النظرة الأولى، ومع ذلك فما يعنيه موضوع «إحاطة التفكير» هو غير ما يعنيه «التفكير شموليا»، اننا الآن أمام نداء آخر، وأمام مرض مازال قائما أيضا. فما أكثر المرات التي نعتبر أن الاستقلال مثلا، هو الاستقلال السياسي وحده، أو هو الاستقلال الاقتصادي وحده. علال، قبل سنوات بعيدة قال اننا يجب أن نأخذ الأشياء أخذا كاملا، وان نلم كل أطرافها، فالاستقلال مثلا هو استقلال لا يتجزأ، وليس له جانب واحد للتعبير عنه، ولا يمكن أن يكون استقلالا إذا كانت صورته لا تنعكس على كل الوجوه. الاستقلال السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري هو الاستقلال.. ومن الموضوعات الثلاثة السابقة، نلتقي بحثا طريفا عن «ارتجال التفكير».. هذا المرض الذي يأخذ الآن شكلا هرميا معكوسا، يبدأ من الانسان كمواطن فرد، ثم يكبر ليشمل كل شيء، أفلسنا الآن نعيش مأساة الارتجال على كل المستويات؟ - وعلال بعد ذلك يعدد مظاهر أمراضنا واحدة واحدة، يعددها حين كانت أمراضا كنا نفترض أنها من بعض نتائج التخلف والاستعمار، أما الآن لا أراها أمراضا موجودة بعد عشر سنوات.. فالعادة مثلا. وتحكم التقاليد البالية وطرق الشعوذة، واضطهاد الحرية، وخنق الآراء، والجمود الفكري، وانعدام الديمقراطية الحق... أليس هذا هو وضعنا الذي نكافح من جديد ضده؟ إن القيمة التاريخية للنقد الذاتي، هي نفس القيمة التاريخية لكتاب قانون مثلا «المعذبون في الأرض». ان دعوة ضرورة العنف التي أعلنها قانون بناء على تجربة الاستعمار في الجزائر وتجربته داخل الثورة الجزائرية، دعوة لم تنته باستقلال الجزائر، فبالرغم من أن قانون كان يعطي نماذج حقيقية من ثورة الجزائر، إلا أن النظريات لا ترتبط أبدا بواقع بعينه أو حالة بعينها.. بحيث يكون ممكنا باستمرار تعميم الظاهرة.. النقد الذاتي قبل ذلك استطاع أن يتحرر من وجهة النظر التي ترصد وضعا معينا أو حالة معينة في إطار مكان وزمان معينين.. النقد الذاتي أخذ نماذجه من المغرب في عهد من عهوده، ولكنه قدم تحليل الظواهر التي يمكن أن تحدث في أي مكان غير المغرب، وفي أي زمان غير الزمان الذي كتبت فيه مقالات النقد الذاتي. ومن ثم، فإنني أرى أن من بين أهم عشر كتب عرفتها افريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، خلال عشرات السنين التي مضت، هناك كتاب «النقد الذاتي». ذلك أنه كتاب استوعب مئات التجارب، ولم يكتف بأن يكون كتاب تسجيل ظواهر، بل انه وقف داخل الظاهرة وعاشها وشارك بالانفعال... ثم شارك بالرأي. ومن قبل قاد علال الفاسي الثورة التحررية بالفكر... ويمضي التاريخ ليقود علال الفاسي الثورة التحريرية بالسلاح. ومازال علال الفاسي معنا، وسيظل أبدا معنا، فهو لم يكن مطلق انسان، مطلق زعيم، مطلق رائد أو متحرر، انه صانع قيم في هذا العصر الذي ما عاد فيه من يصنع القيم.