من ينكر أن الولوج الى العوالم الافتراضية للأنترنيت، غدا شبيها بالإنزلاق عاريا كما ولدتك الطبيعة، على متن صابونة، إلى الأعماق السديمية للحمَّام البلدي؛ فلا أحد يعرف بأي حائط إلكتروني سيرتطم الرأس الذي يخزّن الكثير من الدماء، خصوصا إذا كان مازال في أفكاره عذريا، أو في أي مجرى مياه سيتدلى هذا الرأس البشري الذي لن يستطيع أن يتلقّف غواياته المبحرة في الخيال الأيقوني، أطول الدلاء حبلا؛ قد يبدو هذا الكَلِمُ متلفّعا بالوبر الشائك للقنافذ لِما يكتنفه من سخرية سوداء، ولكن ما يترشَّقُنا جميعا بسخرية الإبر المغموسة في السم الأكثر قتلا، هو خطاب فقدان الديمقراطية الذي ما فتئ يضطرم بترويج حطبه البارد، أباطرة الأنترنيت، الذين يبيعون ويشترون الناس في سوق التعاسة بأبخس الأخلاق، بعد أن بلغوا من الحرية درجة بات يخشى فيها المرء، أن يجد نفسه المنهوبة، في وضعية مُخلَّة بالآداب والفلسفة أيضا، بأحد المواقع الرجيمة؛ أليس الإنسان إنسانا، ويمكن في لحظة سجيَّة نفسية أن ينجرف مع الطبيعة إلى أقصى النزق؟؛ فهل ثمة أوسع من «قشّابة» هذه الديمقراطية الأقرب في تسلُّطها على الحرية الشخصية للناس من الديكتاتورية الستالينية؟؛ وإذ نحك جمجمة الذاكرة بعود ثقاب لنندلع بتاريخ هذه الحرية في الحقل الملغوم للأنترنيت، سنؤوب إلى عام 1996، حين اندلق موسيقار الروك المعروف «جون بيري بارلو» ببيان جريء، يصدع باستقلال أو حرية علم الفضاء؛ ويُعتبر هذا الموسيقي، عضوا نشيطا في الجمعيات الافتراضية الأولى للأنترنيت، ومؤسس تجمع ينادي بحقوق الأفراد في العالم الافتراضي؛ وكان يروم من الإنقشاع بشمس هذا البيان اللافح، الانعتاق من القوانين المفروضة من طرف الدول، من أجل ابتكار قانون خاص بالأنترنيت لا يخلو من تحريض على الحرية في أقصى مآربها التي تريد أن تثقب سقف السماء، وبعد عشر سنوات أوجز القانوني الأمريكي «لورنس ليسيغ»، أمل التحرر الراديكالي الذي ينادي به روَّاد الشبكة، في عبارة «الشفيرة هي القانون»!؛ فتبدَّى الأمر كما لو أن علم المعلوميات، يمكن أن يحدد قوانين وحريات جديدة؛ لنقل إن الأنترنيت مثلما هو موضوعة لشتى الاستيهامات والمخاوف، غدا أيضا مختبرا سياسيا، حيث يتم تجريب حسب السوسيولوجي «دومينيك كاردون» الحلول التناوبية في الديمقراطية التمثيلية؛ وهذه الديمقراطية على الانترنيت تكمن في رفع المراقبة على الجمهور من طرف النظم السياسية الحاكمة؛ ألم تر كيف أصبح الناس يقولون كل شيء، عبر مختلف المواقع، دون أن يطلب أحد منهم الكلمة ؟ وينسجون دونما خجل، روابط اجتماعية جديدة؛ ينتجون معارف، ويحددون المواضيع التي يريدون الخوض في جدلها؛ إن السوسيولوجي «دومينيك كاردون» الذي أطلق أخيراً كتاب «ديمقراطية الأنترنيت: وعود وحدود» (دارسوي الفرنسية /148 صفحة)، يثابر من أجل توطيد المبادئ الأساسية ل «ديمقراطية الأنترنيت»، ولكن في جانبها الثقافي والفكري المتمثل في المساواة في الاستفادة من منجم المعلومات؛ لكن الخطر المحدق من هذه الديمقراطية، هو تلكم الحرية التي تتيح للفرد أن يخوض في قول أي شيء شعبي، حتى لو كان سباباً أو كلمات عاهرة؛ فهل هذا هو القانون الجديد الذي ثقب بمسنونه الأعين والآذان؛ أي قانون الشيفرة تبقى أحياناً للأقوى؛ فما أشد ضوء هذه الشاشة عتمة، إذ لا فرق بين الأنترنيت والغابة!؛ ثمة أيضاً كتاب «فعالية الميديا» الذي ألفه كاردون بمعية الباحث «فابيان غرانجون»؛ ويستعر هذا المؤلف بمعارضة شرسة لوسائط الإتصال «المهيمنة» التي لا ترعوي عن قيادة حركات اجتماعية، حذت بالأفراد المعزولين إلى صناعة وسائط اتصالية خاصة من أجل إنتاج، على امتداد القرن العشرين، طرق أخرى لقول العالم؛ لقد تم تحليل تطور الأنترنيت في هذا الكتاب، كنتيجة سيرورة مديدة من الفعالية الإعلامية الثورية، وسينما المقاومة، والراديو الحر؛ لا أحد ينكر أن روّاد الشبكة، في ما يتعلق بالمبثوث الثقافي والعلمي الموسوعي، قد ربحوا ألقاب النبالة، ولكنها تبقى في نظر السوسيولوجي كاردون، نسبية في محمولها التحرري؛ لكن النضال الذي شهدته فرنسا على مسار تاريخها الإعلامي، فك سيطرة الإيديولوجيين على الصحافة، لينتقل الأنترنيت بدوره إلى مرحلة الفضاء المشترك، وهو ما يتجلى اليوم في الفايسبوك وتويتر، وهي مرحلة ثانية أقل سياسوية، إلا في البلدان التي لا تزال تبتلع مع ألسنتها، حرية التعبير؛ ولكن ماذا عن موقع «اليوتوب» حين ينتصب كمخطاف الجزار معلِّقاً اللحم الأنثوي من كل الجنسيات؛ ألا تستحق فضيحة هذا الخطب الجلل، أن نقول على الأنترنيت برُمَّة عوالمه الافتراضية، وليس اليوتوب فقط: الله يتوب!