و أذكر أني خرجت من مقر عملي في الساعة الثانية عشر ظهرا وجوع غريب يحسك أمعائي. و لا أدري السبب. فثمة أشياء تحدث و يعجز المرء عن شرحها أو إيجاد مبرر لها، فيسميها بالغريبة. فالنفس منغلقة لأزيد من أربعة أشهر، و الشهية أوصدت نوافذها و أبوابها و كل منافذها دوني، من وقت طويل. و حتى لا أبالغ لوقت ليس بالقصير. أكتفي من الأكل بالقليل الزهيد رغم ألوان و أشكال الطعام التي تتفنن زوجتي في تحضيرها سعيا لإثارة ذائقتي و استفزاز الرغبة فيّ للإقبال على الطعام كسائر عباد الله.... فكيف اجتاحتني هذه الرغبة الملحة في الأكل؟ أوعزت الأمر، في البداية، إلى عامل السن، و استحضرتُ قول صديق لي: "كلما تقدم المرء في العمر قلت شهيته للأكل و أدمن بالمقابل التأمل و التفكير في الحياة و في تلونها تلون الحرباء، يصير تماما كالزاهد الذي يكتفي من الطعام بقليله، كما لو أنه يعمل بنصيحة لقمان لابنه: إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة "... و ماذا عن التدخين؟.. هذه الآفة اللذيذة.. لا يعرف لذتها إلا من هو أسير إغرائها مثلي... لكنها لعينة... أ ليس لها ما لها في إضعاف الشهية؟... لا أخفي أني شره في التدخين حد الإدمان. يستحيل ألا ترى سيجارة في فمي.. فما السبب إذن في هذه الفورة المفاجئة للشهية كفورة بركان نام مئات السنين ثم استيقظ بغتة يرمي بحممه... !.. ثمة أشياء غريبة تحدث.. استرجعت شريط يومي في العمل، من الثامنة صباحا و إلى حدود الثانية عشر ظهرا، فلم أعثر فيه على ما يبرر استفاقة الشهية و اقتحامها لذاتي بكل هذا العنف.. الثابت أني و خصوصا اليوم ، لم أدخن من السجائر إلا القليل مقارنة بالسالف من الأيام، بسبب تنبيه من الإدارة الموقرة، فاجأت به الموظفين لحظة الدخول، بتعليقه في أماكن عدة من المؤسسة ينصح بالتقليل قدر الإمكان من التدخين و الأفضل بتجنبه في أفق منعه البتة أثناء العمل في المستقبل القريب.. لكني دخنت.. رغم التنبيه دخنت.. و تطلب مني ذلك أن أذهب إلى دورة المياه مرات كما لو أني مصاب بإسهال مزمن... فهل النقص الذي حصل في عدد السجائر اليومية التي أدخن هو السبب في عودة الشهية ؟.. لم أجد جوابا مقنعا، و قلت:" ثمة أشياء في الحياة، غريبة تحدث، و لا يحتاج المرء معها إلى نتف شعر الرأس للبحث لها عن سبب وجيه. استحضرت كل من أعرف من فقراء الناس، فلاحظت، بحكم الجوار في السكن، أنهم لا يدخنون السجائر الرخيصة فقط، بل و يمتصون يوميا دخان العشرات من غليونات الكيف، و رغم ذلك فشهيتهم مفتوحة. مفتوحة ليس للأكل فحسب، بل للإنجاب أيضا، و ما بين الأكل و الإنجاب، شهيتهم شديدة للمعارك الصغيرة في الأزقة و الدروب و الأحياء، و للنميمة و المقالب أيضا.. و أذكر أني أحسست بخطواتي في لحظة من اللحظات، تتحول إلى قفز و ركض من شدة فرحي بعودة الشهية و تفتح النفس للأكل...فرحي هذا أخفيته خلف تجهم مصطنع عن أعين الوجوه الدهشة، المتجهمة، المنهكة، المسحوقة، و هي على كل حال انعكاس للفوضى العارمة، السوداوية التي يحياها إنسان هذا العصر...و إذا ما حدث أن صادفت وجها فرحا فثمة شيء ما حدث.. كبير أو صغير لا يهم..و قد لا يكون كبيرا و لا صغيرا، و قد لا يكون حدث من أصله.. وجه فرح من أجل الكبرياء فقط.... فالفرح أصبح عملة نادرة في أيامنا هذه، و أن تبدو سماته على محياك، فذاك سبب كاف لإثارة فضول الناس.. يكفي أن تفتح عينيك جيدا و تصيخ السمع كثيرا لتتأكد من أن الفرح الحقيقي، الأصيل، صار بعيد المنال.. رغبتي في الوصول إلى البيت كانت حارقة، خشية أن تغير الشهية رأيها، و تدير لي ظهرها، أو أسمع و أرى ما يسد النفس و يلهيها عن التشهي، و أجدني في النهاية أمارس طقوس الزهد رغم أنفي و أنقر من الصحون نقر الديك الهرم.. بيد أني لما وصلت، صفعتني جارتي. و إذا ما طلب مني أن أقدم هذه الجارة، فسأكتفي بالقول: إنها بنت الزقاق، رفيقة الصبا، و واحدة من اللواتي كن يفضلن اللعب مع الأولاد و ينأين بأنفسهن عن اللعب مع البنات.. إلا أن هذا لم يقلل من جنسها أبدا، فعندما حل ربيعها بمفاتنه، و برزت كل علامات الأنوثة فيها، صارت مشتهاة و مطمع الكثير من فحول الحي و عرابيه. فاستسلمت للغواية، هجرت ساحة لعبنا الصغيرة و انتقلت لتلعب في ساحة أكبر و أوسع، لتلعب ألعابا أخرى، لم أكن أعرفها في ذلك الوقت، مع أولئك الفحول و العرابين..و لم تتزوج، و لم تنجب أطفالا، و ربما أنجبتهم في السر، نتيجة تلك الألعاب، و أعطتهم لمن لا ينجب ليتكفل بهم و يربيهم أحسن تربية.. ثمة أشياء كثيرة تحدث..لا نعرف عنها شيئا... و مع مر الأيام صارت هي الأخرى فحلة من فحول الحي و عرابيه.. هي الحارسة الأمينة على سلامة إنسانه و بنيانه، و تخصني أنا بالذات باحترام كبير. ...و حين رأتني مقبلا أهرول نحو الدار، أوقفتني لتصفعني بقولها: " تكسر الأنبوب الأرضي لتمرير الماء ".. أول سؤال تبادر إلى ذهني: من كسره؟.. لكل فعل فاعل.. هذا ما درسته في مادة النحو منذ أزيد من أربعين سنة، و ما علمتني إياه الحياة طوال خمسين سنة.. و الآن، الماء يجري قدامي.. الآن، تحتي، الآن، تحتنا، و تحت الدار.. شبعت و ارتوت الدار... و ها هي ذي تقذف بالماء إلى الخارج. و لولا الماء الذي غطى جزءا من الزقاق لما تنبهت الحارسة الأمينة إلى التلف الذي وجب إصلاحه بسرعة... ثمة أشياء صغيرة تحدث... حين تركت الدار ورائي هذا الصباح كان كل شيء على ما يرام. كانت الأجواء هادئة. رغم البرد القارص. الأغاني تصدح في كل مكان، تنبعث من الدور الواطئة و النوافذ ومحلات بيع الخبز و الحليب و الزبدة ومشتقاتها و من مقهى "سي عمير" و من جانب الإسفنجي المتربع على مصطبة عالية، قبالة المقلاة الحارة التي يسمع لزيتها الحامي شنشنة، والذي لا تتوقف كفاه عن ملاعبة العجين و صنع دوائر تصير في ثوان معدودات محمرة، جاهزة للأكل.. آه، كم كانت تتوق نفسي لواحدة مدورة محمرة، لكن الشهية عندي كانت مقفلة... كان كل شيء يسير سيره العادي، الطيور تشقشق، و الشمس كسلانة تتمطط مرسلة أشعة واهنة تعجز عن إذابة مسامير البرد و القطط لم تمل و لم تكل من ملاحقة إناثها..كما لو أنها تخشى على نفسها من آفة الانقراض التي أصابت الكثير من الحيوانات.. الأجواء كانت هادئة. فكيف تحطم الأنبوب !؟.. في " يوميات القراءة" يقول ألبرتو ما نغويل، نقلا عن كاتب آخر اسمه سويندبرغ بأن الأجوبة على أسئلتنا هي دائما أمام أعيننا لكننا لا نتعرف عليها في حد ذاتها لأن في أذهاننا تكون أجوبة أخرى.. "يجب إصلاحه بسرعة..".. انسدت نفسي لكلمة" إصلاح".. علما أنه لم يعد بيني و بينها نفور أو عداوة. ولى ذاك الزمن.. و كان فيه " التغيير" الشعار و خريطة المسار.. فقط لأن " إصلاح" يعني مزيدا من المصاريف التي لم تكن تخطر على بالي.. هاهي ذي الشهية تكاد تذهب أدراج الرياح.. الأنبوب تحطم. ذاك أجله... أتى أجله كما يأتي لأي إنسان.. صديقي بروست قال:" كل شيء محكوم بالرجوع.." إلى أين؟.. إلى الأصل..مثل الإنسان.. الإنسان يكون صحيحا، معافى، ثم، فجأة ينهار..مثل الساعة حين تفرغ بطارياتها.. فتتوقف عن التك..و يجمد عقرباها في مكانين من الدقيقة و الساعة، مؤرخين للحظة نهاية و خاتمة مطاف محتومة ولا مفر منها... البارحة فقط، رحل قريب عزيز..توقف نبضه فجأة،..وصلني خبر رحيله بعد ساعة...دخلت الغرفة حيث كان مسجى.. صيره المرض المزمن ضئيلا..الغطاء يلفه من رأسه إلى قدميه. رفعت الغطاء عن رأسه و لبدت لحظة أتأمل وجهه الناتئ العظام.. عدت به في ذاكرتي إلى الحياة، عشرات من السنين خلت، شاب وسيم بمقاييس ذاك الوقت اسأله:" من أجل ماذا أنت تحيا؟"..و اليوم بعد الرحيل.. من أجل ماذا كان يحيا، أو كان يكافح؟..و يرتد السؤال إليّ.. جثوت عند حافة سريره..كان غارقا في نوم هادئ، لكنه أبدي..قبلت جبهته، قبلة الوداع و المسامحة، جبهته كانت ندية و باردة..انتابني إحساس كما لو أني أقبل حائطا رطبا باردا.. و أصعد السلم متجاوزا بين الفينة و الأخرى بعض الدرجات و أنا أنحني إلى الأمام و في داخلي أحمل ما تبقى من الشهية.. أصعد مسرعا خشية أن تطير تلك الشهية كعصفور فزع.. و أناديها: " أسرعي بالطعام..".. و أكرر النداء و أنا أجلس على كرسي المائدة.. ترتمي يدي على آلة التحكم في التلفاز.. أضغط على الزر.. تصفعني قناة إخبارية.. تنطبق أسناني على بعضها حنقا... و أضغط على أكثر من زر مرتبكا، هربا و نفادا بشهيتي من بعبع الأخبار.. تتسارع أمام عيني القنوات، و أضغط ضغطة قوية لتستقر الصورة عند "توم و جيري"... أبتسم،... تأخرت زوجتي.. و أهم بالمناداة مرة أخرى فأجدها واقفة إلى جانبي تضع على سطح المائدة المدور سلطة "نيسواز" و قليلا من الخبز قائلة في اعتذار: " خلصت أسطوانة الغاز، و لم أجد و لا حتى واحدة صغيرة في السوق، بسبب إضراب عمال الشركة"... كدت أصرخ، إلا أن صوتا هادئا بداخلي نطق: " تلك أشياء صغيرة تحدث".