يمكنُ أن تَجِدَ أمامَ بيتِكَ كلَّ صباحٍ جَبَلاً من الأفكارِ التي تليقُ بمَديحِ غيرِكَ، يمكنُ أن تكون سواكَ في اللُّغةِ دون خوفٍ من التتبُّعاتِ الدَّلاليّةِ، ويمكنُ مثلاً أن تخرُجَ من جلدَتِكَ مثلَما أفعى بالكلامِ فقط، وتترك وراءَك ماضيك وما فيه من تُراثاتٍ كونيّةٍ تنهشُه الرّيحُ من أطرافِه لا بل وتُذرّيه في الفراغِ. كلّ هذا ممكنٌ، وممكنٌ أيضًا، في أقلّ من دقيقةٍ، أن تُغيِّرَ اسمَكَ وبعضَ ملامِحِكَ وحتى قِلّةً قليلةً من أعضائِك تبيعُها بالدولار أو تستبدلُها بأخرى من غيرِ جنسِها أو تشتريها بالتقسيطِ. قد تفعلُ كلَّ هذا، وتكون به مواطِنًا عربيًّا صالِحًا للاستعمالاتِ الدِّيمقراطيّةِ ولإشهارِ نوع من عُلَبِ الزبادي وغيرها من المنتجات العربية المحليّة التي لا يتجاوزُ فعلُها البطونَ. ولكن، ليس سهلاً أن تجدَ فكرةً تليقُ بكَ. ليس سهلاً أن تكون أنتَ بجميعِ حالاتِك في لُغَتِكَ كما تشتهي أن تكون. *** قد تجد حقلاً من الألفاظِ فسيحًا يُمكِّنُك من توصيفِ أنثى عكّرتْ مزاجَكَ الصباحيَّ باستدارةِ عَجيزتِها الرأسماليّةِ، وقد تجد مُعْجَمًا من الكلماتِ التي أهملها اللِّسانُ العربيّ لتبكيَ الناسَ جميعًا، وتنوح عليهم نُواحًا خاليًا من اللغوِ موزونًا ومُوَقَّعًا بإيقاع "على واحدة ونصف يا مْعَلِّمْ"، وتستطيع، في حالاتِ الإعياءِ وارتخاء الحبالِ الصوتيّةِ، أن تلجأ إلى تقانةِ العصرِ تبحثُ فيها عن صفةٍ تليقُ بموصوفِكَ من بني آدم، أو عن حالٍ مشتبهةٍ بالنعتِ حتى تزيدَ من مجازِكَ في بُكاءِ الأحياء. بل لا تستغرِبْ أن تُلفي في أسواقنا المحليّة العربيّة عُلَبًا من المديحِ الاصطناعيِّ أو النواحِ المستوردِ أو ما شابه ذلك من الأعمال القوليّة التي اكتظت بها مدوّنةُ الخبرِ العربيّة. ولكنّك لن تجد لفظة واحدةً تفي بتوصيفِكَ وتُمكِّنُكَ من حقِّكَ في المدحِ وتُعطيكَ إحساسَك بوجودِك على هذه الأرضِ العربيّةِ. *** قد تجعلُ الناسَ منتصرين في لحظاتِ انهزاماتِهم، بل وتجعلُهم يرقُصون من فرطِ انتصاراتِهم الوهميّةِ، لا بل وتدفعُ أعداءَهم إلى الاعترافِ بالهزيمةِ وهم المنتَصِرون. قد تُمكِّنُ، بفضلِ رحابة صدرِكَ وتنامي خزينِك العاطفيِّ، أحدَ الأجسادِ الحَوَّائيّةِ من ممارسةِ فعلِ الحكيِ بعد أن ظلّ صامِتًا عشرين عامًا وتزيدُ قليلاً، وتمكِّنُه من فضحِ المألوفِ من الأخلاقِ الأرضيّةِ، بل وتُحرِّضُه على أن يسُبَّ المألوفاتِ حتى سُلالاتِها الأربعين في لحظةِ هَيَجانِه الحيوانيِّ. قد تفعل كلّ هذا وغيرَه، ولا يُعاقِبُك القانونُ الأمميُّ ولا يتّهمُكَ بعضُ الفقهاءِ بالمروقِ عن الطّاعةِ، ولكن متى فكّرتَ في أن تكشف ما سكتَّ عنه أربعين عامًا من عُواءاتٍ داخليّةٍ، تهرُبُ منكَ الأفكارُ، ولا تجدُ لفظةً تَليقُ بالنُّواحِ عليكِ حتى من بابِ التضامن اللغويّ...