منذ ثلاث سنوات، وأنا أتابع تجربة رائدة أقدمت عليها سوريا، برعاية رئيس الجمهورية بشار الأسد. فكلما زرت دمشق، أحرص على متابعة تنفيذ المشروع الحضاري الكبير الذي يحمل عنوان : (تمكين اللغة العربية). وهو مشروع وطني ترعاه، بتكليف من الرئيس الأسد، الدكتورة نجاح العطار، نائب رئيس الجمهورية، التي شغلت منصب وزير الثقافة في عهد الرئيس السابق حافظ الأسد، لمدة تقارب خمسة عشر عاماً. وقد أنشئ جهاز يتولى الإشراف على تنفيذ المشروع، يديره الدكتور محمود السيد، الذي سبق أن تولى منصب وزير الثقافة، ثم منصب وزير التربية. وهو عضو في مجمع اللغة العربية بدمشق، وفي مجمع اللغة العربية بالقاهرة. وقد سبق لي أن التقيت بالدكتور محمود السيد في مكتبه بالوزارتين اللتين شغلهما. وكان قبل ذلك مديراً للتربية في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم –ألكسو-، التابعة لجامعة الدول العربية، التي يوجد مقرها في تونس. خلال زيارتي الأخيرة لدمشق، في الأسبوع الأول من شهر أغسطس الماضي، ظفرت بكتاب قيم أصدره الدكتور محمود السيد بعنوان : (اللغة العربية : واقعاً وارتقاء)، نشرته الهيئة العامة السورية للكتاب التي يوجد على رأسها السيد محمود عبد الواحد، وهو شخصية ثقافية إدارية ناجحة، تأسست هذه الهيئة على يده قبل سنوات قليلة، وأعطاها من خبرته وعلمه وكفاءته العالية دفعة قوية. وفي كل مرة أزور دمشق، أعود منها بزاد وافر من إصدارات هذه الهيئة التي لا تصل مع الأسف إلى المكتبات في المغرب. لقد وجدت في هذا الكتاب معلومات مفصلة عن مشروع التمكين للغة العربية في سوريا، على نحو يقدم للقارئ العام صورة واضحة عن هذه التجربة الثقافية التي تعد، بكل المقاييس، إحدى التجارب الرائدة في العالم العربي، جديرة بأن تكون مثالاً لما يجب أن يقوم به العرب لحماية لغتهم وللتمكين لها في الحياة العامة. إن هذا المشروع الحضاري لتمكين اللغة العربية، ينطلق من توجيهات الرئيس الأسد، خاصة ما ورد في خطاب القسم الذي قال فيه : «يجب إيلاء اللغة العربية التي ترتبط بتاريخنا وثقافتنا وهويتنا، كل اهتمامنا ورعايتنا، كي تعيش معنا في مناهجنا وإعلامنا وتعليمنا، كائناً حياً ينمو ويتطور ويزدهر، وسيكون في المكانة التي يستحقها جوهراً لانتمائنا القومي، وكي تكون قادرة على الاندماج في سياق التطور العلمي والمعرفي في عصر العولمة والمعلومات، ولتصبح أداة من أدوات التحديث، ودرعاً متينة في مواجهة محاولات التغريب والتشويش التي تتعرض لها ثقافتنا». وبناء على هذه التوجيهات، انطلقت عملية واسعة النطاق لردّ الاعتبار للغة الضاد في سوريا. وجرى البحث عن أنجع الأساليب للنهوض باللغة العربية، فعقدت عدة اجتماعات شارك فيها مجمع اللغة العربية، ووزارات التربية والإعلام والثقافة والتعليم العالي والأوقاف والاقتصاد والسياحة، واتحاد الكتاب العرب، والجمعية العلمية السورية للمعلوماتية. وترأست هذه الاجتماعات الدكتورة نجاح العطار، نائب رئيس الجمهورية، وتمّ بناء على دراسات متخصصة أنجزها خبراء وعلماء اللغة، تشكيل لجنة كلفت بإنجاز (خطة عمل للتمكين للغة العربية). لقد بدأ الرئيس بشار الأسد ولايته متحمساً لإعادة الاعتبار للغة العربية ورعاية هذا المشروع. ومن أقواله حول هذا الموضوع التي تعدُّ أقوى حافز للمسؤولين في الدولة للمضيّ قدماً في تنفيذ هذا المشروع : «لقد أعطينا في سورية اللغة العربية كل الاهتمام، وتبوأت موقعاً رفيعاً في حياتنا الثقافية منذ وقت مبكر، ومطلوب منا اليوم استكمال جهودنا للنهوض بها لاسيما في هذه المرحلة التي يتعرض فيها وجودنا القومي لمحاولات طمس هويته ومكوناته، والذي يشكل التمسك باللغة العربية عنواناً للتمسك بهذا الوجود ذاته». على هذا الأساس المتين تقوم السياسة اللغوية في سوريا، التي تهدف إلى إعلاء شأن اللغة العربية بوصفها عنواناً للهوية والانتماء، والحفاظ عليها باعتبارها أداة ضرورية للتقدم والارتقاء والتنمية المستدامة ومواكبة روح عصر العلوم والتكنولوجيا في مجتمع المعرفة، والحرص على سيرورتها في ميادين الحياة كافة. وترمي السياسة اللغوية في العملية التعليمية، إلى تعليم مواد المعرفة كافة باللغة القومية (اللغة الأم) وهي اللغة العربية الفصيحة، وتأمين مستلزمات هذا التعليم، إنْ لأبنائها، وإنْ للناطقين بغيرها من اللغات الأخرى، وسواء داخل الوطن العربي أو في خارجه، وجعل اللغة العربية متطلباً أساسياً للالتحاق بالجامعات. كما ترمي السياسة اللغوية إلى تحديد موقع اللغات الأجنبية في نسق النظام التعليمي، وتحديد موقع المدارس الخاصة والجامعات الخاصة والمدارس الأجنبية وفروع الجامعات الأجنبية في داخل الوطن العربي. وفي خارج نطاق العملية التعليمية، ترمي السياسة اللغوية إلى تحديد الموقف من لغات الفئات ذات الثقافات الخاصة في داخل الدول العربية، وتحديد الموقف من اللهجات التجارية والمؤسسات الخدمية والسياحية والمراسلات بين البنوك والغرف الصناعية والتجارية، وجعل اللغة مطلباً أساسياً للالتحاق بالوظائف الحكومية والخاصة، واعتمادها لغة رسمية في المؤتمرات والندوات التي تعقد في الوطن العربي، واستعمالها في المحافل الدولية، والتزام ممثلي الدول العربية بهذا الاستعمال في جمعية الأممالمتحدة والمنظمات التابعة لها. في اليوم الذي بدأت أقرأ فيه كتاب الدكتور محمود السيد، قرأت لفاروق جويدة في مقاله الأسبوعي الذي نشره في (الأهرام) تحت عنوان : (اللغة العربية في إسرائيل)، ما يلي : «في ظل المنظومة الثلاثية التي فقدت ثوابتها ودورَها وتأثيرها في مصر، وهي التعليم والثقافة والإعلام، لم يكن غريباً أن تقرر إسرائيل تعليم اللغة العربية لأطفال المدارس الابتدائية كبداية انطلاق نحو دور ثقافي يراه البعض بعيداً، ولكن كل الشواهد تؤكد أنه قريب وقريب جداً. أريد تفسيراً لما يحدث .. انهيار كامل للغة العربية في بلادها بين مواطنيها وفي مدارس أطفالها، في حين تشهد برامج التعليم في إسرائيل كل هذا الاهتمام باللغة العربية، لا يمكن أن يأتي ذلك بالمصادفة، لأن كل شيء عندنا يقوم على العشوائية والارتجال، وكل شيء في إسرائيل له حسابات وأهداف ومصالح. فهل وصلتنا الرسالة؟» انتهى كلام الكاتب الصحافي المصري. وعلق فاروق جويدة في مقاله في (الأهرام) على قرار إسرائيل تعليم اللغة العربية في مدارسها ابتداء من المرحلة الابتدائية، تعليقاً ضافياً استلفت مني النظر، وأردت أن أقف عنده، وأن أضع القارئ معي في صورته. فقال : «إن وراء القرار الإسرائيلي أهداف ثقافية وسياسية وتاريخية، لا يمكن لنا أن نتجاهلها .. ورغم أن القضية تمس العالم العربي كله بمؤسساته التعليمية والثقافية والفكرية، إلا أنني رأيت أن أتوقف عند قضية اللغة العربية في مصر. هناك شواهد كثيرة لا أريد أن أكررها، تؤكد أن دور مصر الثقافي عربياً وإسلامياً قد تراجع، وأن أخطر مظاهر هذا التراجع هو أزمة اللغة العربية، لأن مصر بجامعاتها وأزهرها وفنونها وآدابها ومثقفيها، كانت القلعة العتيقة التي صانت وحافظت على اللغة العربية». ثم يضيف الكاتب الصحافي الكبير والشاعر المبدع، في مقاله الأسبوعي الذي ينشر في (الأهرام) تحت عنوان ثابت (هوامش حرة) : «هنا يمكن أن نتوقف عند بعض الشواهد التي ينبغي أن نقرأها قراءة صحيحة في ظل القرار الإسرائيلي بتدريس اللغة العربية .. وفي الوقت الذي اتخذت فيه المؤسسات التعليمية الإسرائيلية هذا القرار، نجد التعليم المصري يتجاهل تماماً اللغة العربية، ويسقطها من قائمة الأولويات أمام التوسع الرهيب في إنشاء المدارس والجامعات الأجنبية، ومعظمها لا يقوم بتدريس اللغة العربية، لأن كل دولة تفرض برامجها التعليمية، بما فيها اللغة العربية .. لدينا مدارس أمريكية وإنجليزية وكندية تعتبر اللغة الإنجليزية هي الأساس، ولدينا مدارس فرنسية تعتبر اللغة الفرنسية هي الأساس، ولدينا مدارس ألمانية تعتبر اللغة الألمانية هي الأساس، ولن يكون غريباً أن نجد مدارس صينية وهندية ويابانية في مصر قريباً .. ليس هناك اعتراض على وجود هذه المدارس، وإن كانت قد حولت التعليم في مصر إلى كيان هلامي بلا ملامح وبلا جذور وبلا هوية .. ومن هنا سنجد أمامنا أجيالاً لا تعرف لغتها ولا تعرف شيئاً عن تاريخها أو جذورها، وبعد ذلك نتباكى على شيء يسمى الانتماء. في ظل هذا الهجوم الشرس من المدارس والجامعات الأجنبية، كان غياب دور الأزهر وتراجعه وهو أهم حصون اللغة العربية، واختفاء أسماء الجامعات المصرية من قوائم الجامعات المتميزة على مستوى العالم». إن ما كتبه فاروق جويدة عن واقع اللغة العربية في مصر، يكاد أن ينطبق على بلدان عربية أخرى. ولذلك فإن المشروع السوري للنهوض باللغة العربية يستحق أن يكون موضع دراسة وافية على الصعيد العربي. ولماذا لا أقول إن هذا المشروع جدير بأن تتبناه القمة العربية الثقافية المنتظر أن تعقد؟. وأعود إلى كتاب الدكتور محمود السيد، لأقرأ في الصفحة (182) فقرات من الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأسد يوم 24 يناير 2008، بمناسبة افتتاح احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية. يقول فيها : «.. ولن يستقيم الحديث عن ثقافتنا العربية دون أن تكون لغتنا العربية الأساس المتين لهذا البيت. لذلك علينا أن نعلي من شأنها، فهي لغة القرآن الكريم الذي يتوجه نحوه مئات الملايين، لغة مكتوب بها نصف تاريخ العالم وتاريخ علمه وأدبه. علينا أن نكون فخورين بها، ولن يتحقق فخرنا إلاَّ إذا أغنيناها بالإبداع في كل صنوف المعرفة». ومن سبل المواجهة التي تضمنتها الخطة السورية لتمكين اللغة العربية، تعزيز الانتماء، لأن الحفاظ على الهوية والذاتية الثقافية للأمة واجب مقدس في عصر العولمة، ولغتنا العربية هي رمز كياننا القومي وعنوان شخصيتنا العربية وهويتنا، وإن الوعي اللغوي أمر مهم جداً في عملية الحفاظ على الهوية، والحرص على السلامة اللغوية في الكتب والمراسلات بين الوزارات والمؤسسات التابعة لها، وفي دور النشر والطباعة وسائر الجهات المعنية، وتكليف مدقق لغوي في كل منها يعمل على سلامة اللغة فيها، وضرورة إتقان الناشئة جميعاً أساسيات لغتهم، على أن يخضع الحائزون الشهادة الثانوية والملتحقون بالكليات الجامعية والمعاهد، لاختبارات لغوية تقيس مدى إتقانهم تلك الأساسيات، وعلى أن يطبق ذلك على المتسابقين للتعيين في وظائف الدولة، كما يطبق على المرشحين للترقية في وظائفهم، وتطبيق التشريعات والقرارات الملزمة لحماية اللغة العربية من خطر استعمال اللهجات العامية واللغات الأجنبية، والنظر إلى اللغة على أنها مؤسسة اجتماعية إنسانية، وأن على أبناء المجتمع كافة واجب الاضطلاع بأدوارهم تجاه لغتهم الأم اعتزازاً ومحافظة وارتقاءً. ترى ماذا يربط بين ما ورد في كتاب الدكتور محمود السيد، وبين ما جاء في مقال فاروق جويدة؟. لقد قرأت الكتاب والمقال في وقت واحد، فوجدتني أتأمل واقع اللغة العربية في مصر، وفي سوريا، وفي المغرب أيضاً، وأحلم بنهضة لغوية تردّ الاعتبار للغة القرآن الكريم. فهل من سبيل إلى ذلك؟.