لم يترك لنا هذا الصيف فرصة لالتقاط الأنفاس، لنفاجأ برحيل جديد ينضاف إلى القائمة الطويلة التي دق بابها ملاك الموت في الشهور الماضية، جيل كامل يتلاشى وكأنه يسلم أوراق اعتماده الدنيوية، بدءاً من؛ المفكر عبد الكبير الخطيب وعابد الجابري وصولا إلى الأديب أحمد عبد السلام البقالي، والتي استحضر فيها اتحاد كتاب المغرب يوم الجمعة 3 شتنبر 2010 بقاعة العروض »باب الرواح« ذكرى مساره الحياتي والإبداعي بمشاركة الأدباء والباحثين محمد العربي المساري وعلي الصقلي ومحمد الطنجاوي ومحمد البوعناني ويحيى بن الوليد وحسن البحراوي وعلي القاسمي فيما غاب عن الحدث كل من مبارك ربيع ومحمد بوخزار. استهل الحديث عبد الرحيم العلام عن اتحاد كتاب المغرب، الذي اعتبر أن هذا اللقاء هو استعادة لجوانب مسار الراحل الطافح بالعطاء، والذي يعد رمزا من رموز أدبنا الحديث، كما أشاد بمواقفه العتيدة والصلبة في اتحاد كتاب المغرب، مما جعل هذا الأخير يتكفل بتنسيق مع وزارة الثقافة بإعادة طبع أعماله، والتي من شأنها المساهمة في تجديد اللقاء مع قرائه وأيضا مع كتاباته بمنظورات جديدة. بينما قدم الأستاذ محمد العربي المساري ورقة تقديم على تقديم عنونها ب »التربة التي أنبتت البقالي« وهي وصف لطبوغرافيا الأرض التي أنبتت الشاعر والقاص المغربي المتميز المرحوم أحمد عبد السلام البقالي، مما جعله يتحدث بإسهاب عن عوامل النهوض الثقافي في منطقة (طنجة - وتطوان) وعن الأدوات التي أفرزتها تلك العوامل (سياسية - ثقافية - اجتماعية - ذهنية) والتي عملت كلها على انبثاق هوية خاصة للمنطقة المذكورة ضمن المجموعة الوطنية المغربية. فيما اعتبر الأستاذ علي القاسمي أن رحيل الأديب والمبدع عبد السلام البقالي ليس خسارة للأدب المغربي فقط وإنما للثقافة العربية أجمع، وأشار إلى أن الراحل ترجم رواية »أكلة الأموات« تستند إلى حكاية تاريخية واقعية في زمن الخليفة العباسي المقتدر بالله والذي أرسل في أواخر القرن الثالث الهجري العالم العربي أحمد بن فضلان إلى ملك الصقالبة (بلغار الفولغا)، لتعليمهم العقيدة الإسلامية، لكنه اختطف من طرف الفايكينغ وسجن ثلاث سنوات إلى أن تمكن من الهرب والرجوع إلى بغداد وإعداد تقرير للخليفة، هذه الرواية نشرت سنة 1976، وحولت إلى أكثر من فيلم سينمائي وهي للكاتب والمخرج السينمائي ميخائيل كريتشن، التي اعتمد فيها على مخطوطة قدمها ابن فضلان للخليفة، وقد فقدت، وعثر على أجزاء منها في أماكن متفرقة من العالم، مما جعلها محط اهتمام الباحثين الغربيين، وخاصة أستاذ الأدب في جامعة أسلو بيير فراوس الذي قام بتجميع أجزاء المخطوطة التي عثر عليها وترجمها إلى النرويجية، مما حذا بأديبنا الراحل الى السفر إلى النرويج سنة 1968 والبحث عن فراوس الذي كان قد وافته المنية في تلك اللحظة، ولم يجد المخطوط بين كل الكتب التي قدمتها زوجة المترجم بيير فراوس، إلا أنه (يضيف القاسمي ) لجأ إلى حفظ رسالة ابن فضلان عن ظهر قلب التي حققها الدكتور سامي الدهان من سوريا ونشرها المجمع العربي السوري سنة 1959 ، ليستطيع مضاهاة أسلوب ابن فضلان حين يقوم بترجمة »أكلة الأموات« إلى العربية بعد أن حول عنوانها إلى مغامرات سفير ابن فضلان. كما ساهم الشاعر محمد البوعناني في كشف جزء هام من حياة الراحل، وسلط الضوء على طفولته بمدينة أصيلة باعتبارهما كانا صديقين حميمين وجارين بنفس الحي، فرسم باللغة ذاكرة الطفولة وعلاقة الراحل بالبحر والقراءة. واعتبر أن أرضية كتاباته تعد بالمفاجأة، وأنه ولد فنانا وأديبا وشاعرا وأيضا قاصا من الطراز الرفيع. واعتبر الناقد يحيى بن الوليد أن القراءة النقدية في أعمال الراحل، لابد وأنها ستكون قراءة مركبة باعتبار تعدد كتابات البقالي في الشعر والقصة والخيال العلمي وقصص الاطفال والمسرح، إلا أن الناقد اتخذ فكرة المكان كأرضية لمداخلته وحاول أن يرصد الامكنة التي أثرت على الراحل آنطلاقا من أصيلة التي أثرت ذاكرته ومخيلته ثم تطوان التي غيرته بفضاءاتها وأيضا حضورها السياسي ومعاشاته فيها وكذلك ببعدها الثقافي بصدور العديد من المجلات في تلك المرحلة ومشاركته فيها ثم مرحلة القاهرة التي تابع دراسته بها في شعبة علم الاجتماع، وستساهم هذه المدينة في نشر قصص من المغرب وبروزه كأحد القصاصين المبدعين المغرب في مرحلة كان الاصطدام الادبي بين المشرق والمغرب في أوجه، ليعرج بنا إلى نيويورك التي سينهل منها العديد من المذاهب الخيالية بحكم توفر نيويورك على عشرات المختبرات العلمية التي جعلت منه قاصا في الخيال العلمي، وتنبأ في ذلك الوقت بالانترنيت. ولم ينس الناقد مرحلة الكتابة للطفل، حيث اعتبرها من أصعب الكتابات إلا أن الراحل أبدع فيها وجعلها سهلة وسلسة في المتناول. وأضاف يحيى أن الراحل كان متعدد المجالات والتي غالبا ما تكون محكومة بخلفية رومانسية. وفضل الناقد حسن بحراوي أن يتناول أدب الراحل من زاوية القارئ، وقد بدأت صدفة بقراءة المجموعة القصصية »قصص من المغرب، والتي كانت في نظره تضاهي القصص المشرقية كنجيب محفوظ وغيرهم، مما جعله يشعر بالاعتزاز بأديب مغربي لم يطلع إلا على القليل من أدبه، واعتبر لقاءه بهذه المجموعة انقلابيا بقطع الذيلية عن المشرق ورفع التهمة عن بضاعتنا ردت إلينا، كما قطع باليقين أن روايته »سأبكي يوم ترجعين« دشنت المرحلة الجديدة للرواية المغربية، وسجل اسمه ككاتب كبير في رواية الخيال العلمي والجاسوسية للفتيان، كما صرح بأن آخر لقاء له مع الراحل كان بعد إهدائه ديوانه أما الشاعر مولاي علي الصقلي فقد عبر في مداخلته الشعرية عن علاقته الوطيدة بالراحل، وجعل الكلمة الشعرية تنوب عن مواجع الفقد، بينما استحضرت كلمة الشاعر محمد الطنجاوي التي عنونها ب »جيل ما فوق البحر« الفقيد وشبهه بطائر يحمله النسيم إلى هيبة الجبال، كما أنه كان أجمل الطيور شجنا.