عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يُؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت» [حديث نبوي متفق عليه]. عندما قرأت هذا الحديث الشريف في كتاب «رياض الصّالحين» وجدت صاحب هذا الكتاب الإمام أبا زكريا يحيى بن شرف النّووي قد كتب بعد ذكره الحديث مباشرة ما يلي: «هذا الحديثُ صريحٌ في أنّه ينبغي أنْ لا يتكلم إلا إذا كان الكلامُ خيرا وهو الذي ظهرت مصلحته، ومتى شكَّ في ظهور المصلحة فلا يتكلم». (ص 369 370). وهذا من فقه الإمام النووي رحمه الله، إذ الكلام منه ما فيه مصلحة ومنه ما فيه مفسدة، ومنه ما تساوت فيه المصلحة والمفسدة، ومنه ما رجحت فيه الأولى على الثانية أو الثانية على الأولى. فيتعيّن على كل مؤمن بالله واليوم الآخر أن يزن كلامه الذي يريد أن ينطق به بميزان الشّرع والعقل، فإن تبيّن له أنّ مصلحته ظاهرة تكلم به، وإلا فلا. إنّ هذا العضو صغير الجرم (بكسر الجيم) عظيم الجُرم (بضم الجيم). فكم أفسد من علاقات، وخرّب من بيوت، وحرّف من حقائق، وزوّر من وقائع، وافترى على أعراض، واستهزأ بأبرياء، واغتاب من أفراد وجماعات، لا لشيء إلاّ لأنه سهلُ التحريك سريع التّرديد في فم الإنسان، والحقيقة أنه إذا أطلقه صاحبُه كان كالأسد، افترسه من حيث لا يدري، وإذا أمسكه نجا من آفاتِه. ولكي يربّي الإنسان لسانه حتى يلزم جادة الصّواب في نطقه وسكوته، لزمه أن يعوّده ذكر الله، وأن يقوّم اعوجاجه شيئا فشيئا، فيطهّره من الغيبة والنّميمة والكذب والتّعريض والزور ومدح النّفس وازدراء الغير والاستهزاء والفحش والسبّ وغير ذلك من المخالفات اللسانية. هذا إن كان يؤمن فعلا بالله واليوم الآخر، أي إن كان حريصاً على حفظ إيمانه، وجلاً من لقاءِ ربّه، متوقعا وقوفه بين يديه فيسأله عن كل قول كما قال تعالى: «ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد» (سورة ق: 18 ). وكثيرا ما ينطق الإنسان بكلمة لا يلقي لها بالاً، فتكون عليه وَباَلاً. ولذلك وجّهنا الحق سبحانه إلى أن نقول أحسن القول ، ونتكلم بأفضل الكلام: «وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن. إن الشيطان ينزغ بينهم. إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا» [ سورة الإسراء: 53 ]. فربّ كلمة سوءٍ يقولها المرءُ لا يهتم بمدى خطورتها تكون مطيّة للشيطان فيفسد بها بين القلوب، ويفرّق بها بين الأحباب. في حين أنّ وظيفة اللسان الحقيقية الصّالحة هي النطق بالخير، والتّعبير عن الخير، ونشر الخير. وكما يمكن لكلمة واحدة أن تشعل حرباً ضروساً، يمكن لكلمة واحدةٍ كذلك أن تطفئ نار الحرب. وقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم الكلمة الطّيبة صدقة، نظراً لدور هذه الكلمة في تمتين الأواصر، وإدخال السرور على النّاس. وقال في أوّل خطبة خطبها صلى الله عليه وسلم في المدينة: «فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإن بها تجزى الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف..»