نشرنا ضمن هذه الصفحة الجزء الأول من مقال الدكتور محمد براو في موضوع: »دور الرقابة العليا على المال العام في تدعيم الشفافية والمساءلة: الشروط والتجليات)، وفيما يلي تتمة البحث الذي يهم التجليات التطبيقية منه: التجليات التطبيقية: تتجلى الأبعاد التطبيقية للشفافية والمساءلة في بنية ومحتوى التقارير الصادرة عن تلك الأجهزة وفي لغتها، وفي التفاعل مع الإعلام والبرلمان والمجتمع المدني من جهة أولى، وفي مدى خضوع أنشطة الجهاز ومسؤوليه للمحاسبة والمساءلة والتقييم من جهة ثانية؟. في تطبيقات الشفافية: 1) على مستوى التقارير: إن عملية النشر المنهجي للتقارير فضلا عن كونها استجابة للمعايير المتعارف عليها عالميا فإنها تترجم مبدأ شفافية الأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة من حيث إخبار أصحاب الشأن والعموم بنتائج أعمالها وتدقيقاتها؛ لكن قبل ذلك فإن معايير الشفافية تقتضي من تلك الأجهزة العمل على صياغة التقارير شكلا ومنهجا ومضمونا وفقا للاعتبارات التالية: في بنية ومحتوى التقرير السنوي: تخصيص محاور قارة تتعلق ب: - محور خاص بنتائج التدقيق في الحسابات. - محور خاص بمساءلة المخالفين لقواعد الانضباط المالي (بالنسبة للأجهزة الرقابية ذات التنظيم القضائي). - محور خاص بنتائج الرقابة على الأداء (أو التسيير) على أهم القطاعات والمرافق تأثيرا في الاقتصاد الوطني وأكثرها تعرضا لمخاطر التلاعب الفعلي والمفترض. - محور خاص بمتابعة تنفيذ الملاحظات والتوصيات الواردة في التقارير السابقة. - محور خاص بنشر الأحكام القضائية والتعليق على أهمها في نطاق بلورة الاجتهاد القضائي المالي (بالنسبة للأجهزة الرقابية ذات التنظيم القضائي). - محور خاص بأوجه العلاقة والمقارنة بين موارد الجهاز الرقابي ومصروفاته من جهة، ومنجزاته الفعلية الملموسة من جهة أخرى. - أن يتضمن التقرير ملخصا تركيبيا أو تنفيذيا، ويخدم هذا الملخص شفافية التقرير من حيث تسهيل مقروئيته على غير المختصين من الجمهور والمهتمين، ومن خصائص كتابة الملخص أن يكون محررا بلغة بسيطة وقريبة المأخذ تجعلها متمايزة عن لغة التقرير نفسه. كشف المعايير المهنية والمسطرية في التدقيق والمساءلة: يقتضي ذلك، على الأقل الإجابة عن التساؤلات التالية: - هل تم احترام الشروط الشكلية والمسطرية لتكون التقارير مقبولة من حيث الشكل (selbaveceR) بالنسبة للأجهزة الرقابية ذات التنظيم القضائي قبل أن يتم الخوض في مدى جودة المضمون؟ - هل كانت التقارير متوازنة؟ أم أنها ركزت فقط على نقط الضعف وأغفلت نقط القوة في التدبير موضوع التدقيق؟ - هل كانت خلاصات التقارير محبوكة بدقة وحذرة ولم تسقط في فخ التعميم غير المبرر؟ - هل شارك المسؤولون المعنيون بالتدقيق والافتحاص في عملية المراجعة وكشف الأخطاء؟ وهل تم أخذ تفسيراتهم الجادة بعين الاعتبار عمليا؟ - هل اهتم التقرير بالكيف والجوهر، أم سقط في إغراء الكم والشكل، مثلا كيف وإلى أي حد استفادت أطراف منظومة الحكامة (البرلمان، الحكومة، المرافق العمومية، المجتمع المدني، الإعلام، الشركاء الماليون الأجانب) من تدخلات الجهاز؟ - ما هو حجم المال العام المراقب فعليا نسبة إلى المال العام الخاضع للرقابة نظريا؟ أو نسبة إلى الناتج الداخلي الخام؟ - هل تم احترام حقوق الدفاع في مسطر المساءلة؟ - هل تحركت المساءلة في الوقت المناسب أم أنها همت وقائع متقادمة؟ - هل تمت مساءلة جميع متخذي القرار بمن فيهم ذوي اليد الطويلة؟ main longue صياغة الملاحظات والتوصيات: - هل كانت الملاحظات نافعة وفعالة وموثقة؟ - هل تم تحريرها بطريقة موضوعية وواضحة ودقيقة ومعتدلة؟ - هل تم التمييز بين الملاحظات ذات العلاقة بالمطابقة مع القوانين وتلك المتعلقة بنوعية التدبير موضوع التدقيق والافتحاص؟ - هل كانت التوصيات بناءة وواقعية؟ - هل كانت التوصيات قابلة للتطبيق ومتجهة نحو المستقبل؟ - هل تم تحريرها بطريقة تسلسلية حسب درجة الأهمية؟ - هل تمت متابعة تنفيذ التوصيات السابقة وتم التعرف على مآلها؟ 2) التفاعل مع الأطراف ذات المصلحة: عرض نتائج الأجهزة الرقابية على الإعلام والتفاعل مع ملاحظاته: إن عقد ندوات صحفية سنوية حول نتائج الأجهزة العليا للرقابة وعرض أبرز مخرجاتها وكذا الصعوبات وتطلعات المستقبل مع التفاعل مع أسئلة أو ملاحظات أو طلبات التوضيح التي يقدمها رجال الإعلام، هي عبارة عن سنة حميدة سنتها الهيئات العليا للرقابة المالية والمحاسبة في العديد من الدول. ومن مقتضيات تدعيم شفافية أعمال الأجهزة العليا للرقابة تطروير محتوى ومستوى جودة مواقعها الالكترونية التي عليها أن ترتقي إلى مرتبة تتلاءم مع الصورة التي تحاول تلك الأجهزة رسمها في أذهان أصحاب الشأن والجمهور. كما أنها معنية أخلاقيا بالرد والتفاعل مع الملاحظات الموضوعية والانتقادات البناءة التي يبديها المختصون والمهتمون وكذا تفنيذ التشكيكات والأقاويل الباطلة التي يروجها المتنفذون من ذوي اللسان الطويل. التفاعل مع البرلمان: من المعايير والممارسات الفضلى المستقرة لفعالية وشفافية الأجهزة العليا للرقابة المالية والمحاسبة وجود علاقات وثيقة تترجم على شكل أواصر مهنية تفاعلية مع البرلمان، ولاسيما لجانه القطاعية وعلى رأسها لجنة المالية: وأن لا تتحجج بقراءة ضيقة للنص الدستوري أو القانوني المنظم لتلك العلاقة وأن تفتح قنوات عملية مستدامة في هذا الشأن انسجاما مع المعايير الدولية ولو في ظل غياب الترسيم القانوني الصريح، وذلك خدمة لمصلحة الجميع. الانفتاح على المجتمع المدني: هناك حاجة ماسة إلى هذا الانفتاح، حيث ما فتئت الجمعيات المعنية بمكافحة الفساد على المستويات الدولية والإقليمية والوطنية، ولا سيما في الدول المتأخرة في سلم التنمية، تطالب الأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة بمزيد من الشفافية والشجاعة في هذا الإطار... كما تطالبها بتكييف قوانينها لخدمة أهداف ترويج الشفافية ومكافحة الفساد. ونفس الأمر ينطبق على الأوساط الجامعية التي ما فتئت تشكو من تبرم بعض تلك الأجهزة عن أداء وظيفتها التواصلية بالشكل المطلوب. ثانيا: في تطبيقات المساءلة: إذا كانت الأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة تراقب وتحاسب وربما تسائل الآخرين أو »تحض« على مساءلتهم فمن يراقبها ويحاسبها ويسائلها؟ »إن الأجهزة الرقابية ذات المصداقية تضع حساب أعمالها أمام الجهات ذات الشأن لكي تقوم بدورها بمحاسبتها«، كما يفترض في هذه الأجهزة أن تقوم بمحاسبة ذاتية عن طريق آلية التقييم. وتنشر نتائجه. 1 ) تقديم الحساب: حساب المصروفات: يجب أن لا يتوقف، فقط، دور التقارير السنوية الصادرة عن الأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة على عرض الملاحظات والتوصيات الموجهة إلى المرافق التي خضعت للرقابة، أو كشف نتائج المساءلة (بالنسبة للأجهزة الرقابية ذات التنظيم القضائي) التي يفترض أن يكون قد تم تحريكها في مواجهة المتلاعبين بقواعد الانضباط المالي، بل ينبغي عليها أن تقدم أيضا وبالموازاة مع ذلك حسابا واضحا لتصرفها في الموارد التي رصدت لها. لأنها تمول من المال العام ومن واجبها كشف أوجه صرف مخصصاتها لكل من يعنيهم الأمر. من سرد الأنشطة إلى كشف النتائج وتقييم الآثار يقصد بحساب التصرف أو الحصيلة تقديم عرض شامل ومركز ومعزز بالأرقام والبيانات عن أهداف الأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة وإنجازاتها ومواردها ومصروفاتها، وأن يتضمن هذا العرض مقارنات إحصائية لتطور العلاقة بين الأهداف المحققة والأهداف المرسومة مقارنة بالموارد التي تم توظيفها، والحق يقال فإن معظم الأجهزة الرقابية في العالم تشير في تقاريرها السنوية إلى مواردها وأهدافها، ولكن الملاحظ أن العرض، في الأغلب الأعم، لا يعدو أن يكون عرضا وصفيا تقريريا، من باب »رفع العتب«، تعوزه القراءة التحليلية التقييمية المعززة بمؤشرات الإنجاز أي المركزة على منطق عرض وتقييم الإنجاز واستنطاق أرقامه قدما نحو تقييم الآثار الملموسة للأنشطة الرقابية من الناحية السوسيو اقتصادية وكذا من حيث النجاعة والفعالية. وليس على منطق سرد الأنشطة أو تقديم إحصائيات خام لا تقول شيئا عن مستوى الإنجاز، كما تعوزه القراءة الاستشرافية المتطلعة الى المستقبل انطلاقا من منجزات الماضي والحاضر. وهذا ما يقودنا إلى آلية التقييم. 2 التقييم: من معايير مصداقية الأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة وشفافيتها ومسؤوليتها أن تكون بنيتها التنظيمية وتدفقاتها الوظيفية خاضعة لآلية التقييم بشقيه الداخلي والخارجي. التقييم الداخلي: فضلا عن خلق وحدة للرقابة الداخلية تدخل في نطاق البنية التنظيمية والتدبيرية اليومية للجهاز، يتعين عليها أن تخضع لتقييم موضوعي مهني داخل دوري من خلال وحدة التدقيق المستقلة عن أجهزة التسيير داخل الجهاز ولاسيما إذا كان القانون المحدث لتلك الأجهزة ينص على تأسيس هيئات داخلية (للرقابة)، ومن علامات الانخراط الفعلي في هذا الاتجاه إشاعة ثقافة الاستمارات الداخلية لتحديد حاجيات تنمية القدرات، طبقا للمعايير التي أقرتها المنظمة الدولية للأجهزة العليا للرقابة المالية والمحاسبة (إنتوساي) مع كشف نتائج مثل هذه العمليات أو الغاية منها، وتحسيس المخاطبين بأهميتها. وتنفيذ ومتابعة تنفيذ خلاصاتها. التقييم الخارجي (بواسطة النظراء): يعتبر أيضا من المعايير الدولية لشفافية ومسؤولية الأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة، ويتمثل في خضوع الجهاز لتقييم من أحد أقرانه فيما يعرف بالتقييم بواسطة النظراء على أن يتم اختيار جهاز جاد، وعلى أن يقدم عملا ذا مصداقية يخرج عن إطار (المحاباة السياسية) أو (المجاملة الدبلوماسية). وختاما فإنه بقدر تمثل الأجهزة العليا للرقابة لهذه المبادئ والمعايير سيتعزز دورها في ترسيخ الشفافية والمساءلة في محيطها، وذلك في حدود قدرتها الذاتية وصلاحياتها القانونية وقابلية مسؤوليها لتمثل هذه المعاني واستنباتها في المحيط الداخلي لتلك الأجهزة، دون إغفال العوائق الموضوعية التي قد تحد من دورها، وهي عوائق مرتبطة بالشروط والظروف والحدود المتصلة بمستوى وإيقاع تطبيق آليات الحكامة الرشيدة وحكم القانون، فضلا عن البيئة الثقافية.