شكلت الذكرى المائوية لميلاد زعيم التحرير الأستاذ علال الفاسي فرصة سانحة للبحث في مواقف هذا الرجل الذي أغنى الفكر المغربي بكتاباته القيمة حيث استرعى اهتمامي من بين مواقفه المتعددة من مختلف القضايا الوطنية والدولية اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرا للتشريع المغربي بالنظر لكون الشريعة الإسلامية امتزجت بكيان المغرب على الدوام ليترسخ هذا الاختيار بإقرار الدولة المغربية دولة مسلمة، عندما اعتبر دستورها الإسلام دينها الرسمي كما ينص على ذلك الفصل 6 من الدستور. وهذا يعني عدم تصور إمكانية فصل الدين عن الدولة ببلادنا لأنه «إذا فصل عنها وجب أن تزول ويبقى هو، والإسلام يعتبر الدولة خادمة للناس، والناس مجموعة من أفراد ولا يتصور أن يكون المسلم النائب عن الأمة المسلمة ولا الوزير يدبر أمورها بغير أحكام الشريعة» كما عبر عن ذلك الأستاذ علال الفاسي في كتابه: «دفاع عن الشريعة». وقد حافظ المغرب طيلة عهوده الإسلامية على إقليمية القضاء وإقليمية التشريع، فكانت المحكمة الشرعية تعتبر القضاء الوحيد الذي يرجع إليه المتقاوضون كيفما كانت أجناسهم وأديانهم حتى جاء الاستعمار الأجنبي لتسلك الحماية أخطر محاولاتها للقضاء على المحاكم الإسلامية تتمثل في السياسة العنصرية من أجل محو الشريعة الإسلامية واللغة العربية من القبائل الجبلية وإحلال الأعراف المحلية محلها، وذلك من خلال استصدار الظهير البربري (11 شتنبر 1914) الذي يقضي بإغلاق المحاكم الشرعية في المناطق التي اعتبرتها الحماية بربرية لفائدة المحاكم الفرنسية والقوانين الفرنسية. اعتقادا من الإقامة العامة أن قبول التحاكم بغير الشريعة الإسلامية تخل نهائي عن الإسلام. وهذا ما دفع الشعب المغربي قاطبة إلى الإعلان عن الثورة من أجل الشريعة الإسلامية والتمسك بالوحدة الدينية التي يهددها إحداث محاكم لاتطبق أحكام الشرع الإسلامي باعتبار أن الأمر يتعلق بالكفاح من أجل الوجود الذاتي للشعب المغربي وتحقيق مصيره الإسلامي بهدف القضاء على الحماية التي أرادت المس بالدين الإسلامي وشريعته والتآمر قصد فرض قوانينها على أفراد الأمة المغربية وإلغاء القانون المغربي المستمد من الشريعة الإسلامية لأن الاستعمار جعل من هذه السياسة التشريعية سبيلا للقضاء على الكيان المغربي. وبالفعل، فقد اعتبر قادة الحركة الوطنية بقيادة حزب الاستقلال أن استقلال الوطن لا يعني التحرر من الاستعمار الأجنبي بمجرد الإعلان عن الاستقلال السياسي والخروج من قبضة الحكم الأجنبي وإخراج الجيوش الأجنبية من البلاد مادام الاستعمار في مفهومه الأصلي كل لايتجزأ، بل لابد من التخلص من جميع الآثار الأجنبية، بما فيها النفوذ القانوني، مادام الوطن ليس هو الأرض وحدها، ولكنه الأرض وما فوقها ومايعيش فيها من شعب، ومن عقيدة، ومن تشريعات ومناهج وسلوك للحياة. وبمجرد إعلان استقلال المغرب وتكوين أول حكومة مغربية، أصدر جلالة الملك محمد الخامس رحمة الله عليه أمره بتأسيس لجنة لتدوين الفقه الإسلامي في أفق جعله القانون الرسمي للدولة في جميع المحاكم التي أخذت تسير في طريق التوحيد من أجل وضع حد للتشريعات التي وضعتها الحماية لمقاصد استعمارية، ولكن ظهر بعد ذلك أن عمل هذه اللجنة سيقتصر على الأحوال الشخصية فقط لتتوقف عملية التدوين في الأمور الأخرى. ولكن رفاق الأستاذ علال الفاسي والأستاذ عبد الخالق الطريس بمجلس النواب استمروا في طريقهم نحو إحلال التشريع المغربي محل التشريع الفرنسي من خلال تقديم مقترح قانون يرمي إلى توحيد المحاكم والقوانين وتعريبها، صادق عليه أعضاء مجلس النواب بالإجماع، فكان من المنتظر أن تؤسس لجان لإعادة النظر في القوانين الجاري بها العمل لنسخها بقوانين مغربية تمثل مقتضيات الشريعة الإسلامية طبقا لروح التشريع المغربي، ولكن الأمر جرى بعكس ذلك بدعوى أنه من الصعب تطبيق الشريعة الإسلامية في المغرب الحديث نظرا لمنافاتها لكثير مما جرى به العمل في مختلف مجالات الحياة، مع العلم أن الغاية ليست هي مجرد أن يحكم قضاة مغاربة، ويصدروا أحكامهم باللغة العربية، ولكن الغاية الحقيقية هي استعمال قوانين مغربية مستمدة من أحكام الشريعة الإسلامية مادام «توحيد القضاء يعتبر مظهرا للسيادة الخارجية للدولة وتوحيد القانون وقوميته يعتبر مظهرا للسيادة الداخلية». كما أكد ذلك الأستاذ علال الفاسي في كتابه سالف الذكر، مادامت الشريعة الإسلامية تعتبر القانون الأسمى في الهرم القانوني المغربي، مادامت الشريعة الإسلامية تتميز عن غيرها من القوانين الوضعية بخصائص تتمثل أساسا في كون مصدرها هو الشرع الأعلى، وبالتالي فإن العمل بها جزء من اختيار الدين وابتغاء الإسلام، كونها تتسم بصفة الكمال تراعي المصلحة الدينية والدنيوية، كونها تستند على التوازن بين الروح والمادة من حيث اعتمادها على قوة الإلزام الروحي دون إغفال قوة السلطة المادية كلما دعت الضرورة إلى ذلك خلافا للقوانين الوضعية التي تعتمد في تطبيقها على القوة المادية، كونها تقوم على أسس العدل والإنصاف، كونها لاتراعي في مقاصدها حماية الأمن والنظام والممتلكات والأشخاص فقط كما هو الشأن بالنسبة للقوانين الوضعية، ولكنها تتميز أيضا بحمايتها لمكارم الأخلاق، بينما التشريعات الوضعية تعتبر الأخلاق مسألة معنوية لاتخضع للقانون إلى حد تسخير القوانين لتنظيم أنواع الفساد والحرص على أمن تعاطيها وإباحة استعمالها، كونها صالحة لكل زمان ومكان لأنها قامت على أساس مقصد واحد هو إقامة العدل بين الناس انطلاقا من الرسالة التي حملت الكتابة إلى المسلمين كافة باعتباره المصدر الأساسي للتشريع. فظل حزب الاستقلال حريصا على أن تتضمن مقررات مؤتمراته العامة ضرورة العمل على جعل مبادئ وقواعد الشريعة الإسلامية السمحاء مصدرا حقيقيا وعمليا للتشريع الوطني بما يضمن للقانون المغربي قوته ومناعته وانسجامه مع خصوصيات المجتمع المغربي القائم على التوازن بين البعدين الروحي والمادي في الحياة الخاصة والعامة وتحصينه من مختلف أشكال الفساد.