أقام علال الفاسي في مصر تسع سنوات موزعة على فترتين؛ تبدأ الفترة الأولى من سنة 1947 وتنتهي في سنة 1949، وتبدأ الفترة الثانية في سنة 1951 وتنتهي في سنة 1956. وخلال هذه الفترة الأخيرة، كان علال الفاسي يغادر القاهرة بين الحين والآخر، سواء إلى المغرب، أو إلى إسبانيا، أو إلى بلدان أمريكا اللاتينية، أو إلى أندونيسيا حيث شارك مشاركة فعالة في مؤتمر باندونغ الذي عقد في أبريل سنة 1955، ممثلاً للحركات التحريرية في المغرب العربي. وبذلك يكون علال قد عاش في مصر خلال العهدين؛ العهد الملكي والعهد الجمهوري. كان العهد الأول مطبوعاً بطابع ليبرالي فتح المجال للأحزاب لتمارس دورها في الحياة السياسية، بغض النظر عن فساد جل هذه الأحزاب ما عدا حزبين اثنين، أولهما حزب الوفد برئاسة مصطفى النحاس باشا، وكانت الصحافة في أوج ازدهارها، وكانت حرية التعبير مكفولة لأصحاب الأقلام والأفكار، وكان الاقتصاد الحر يلعب دوره في إنعاش الحياة الاقتصادية، على الرغم من وجود بؤر للفقر خصوصاً في الأرياف. ولكن على العموم كانت مصر دولة ديمقراطية ليبرالية تنفتح فيها الأبواب في وجه زعماء الحركات التحريرية من العالم العربي الإسلامي، ليمارسوا أنشطتهم في الدعاية لقضايا بلدانهم وفي فضح السياسة الاستعمارية التي تخضع لها شعوبهم. وكان علال في طليعة هؤلاء الزعماء الذين وجدوا في أرض الكنانة ملاذاً آمناً ومنطلقاً للكفاح السياسي والنضال الفكري والثقافي والإعلامي. أما العهد الثاني الذي عاشه علال الفاسي في مصر، فقد تغيرت فيه الأحوال بعد أن استولى العسكر على مقاليد الأمور، فأحدثوا تمزقاً خطيراً في النسيج الاجتماعي للمجتمع وخلخلة في الحياة السياسية المصرية، حيث ألغي دستور سنة 1923 الذي أسس للنظام الليبرالي الديمقراطي، ومنعت الأحزاب في سنة 1954، وصودرت أهم الجرائد التي كانت تحمل لواء الحرية، ومنها جريدة (المصري) التي كان يصدرها آل الفتوح، والتي كانت تفتح صفحاتها للمناضلين العرب والمسلمين المقيمين في القاهرة وتدافع عن قضايا الحرية في مصر وفي العالم العربي، وجريدة (الزمان) وغيرهما. وبقيت صحف دار أخبار اليوم والأهرام والهلال خاضعة للرقابة الصارمة، تمهيداً لتطبيق قوانين التأميم عليها في مطلع الستينيات، حينما دخلت مصر النفق المظلم تحت شعار الاشتراكية، التي أفقرت العباد والبلاد، وخدرت العقول، وأفسدت الضمائر، وزجت بمصر في أتون الديكتاتورية وحكم الفرد المستبد الذي كمم الأفواه وقصف الأقلام. وإن كان علال لم يدرك تلك المرحلة، ولكنه أدرك النذر الأولى التي كانت تعلن عن النظام الشمولي الذي بدأ يتأسس. لقد كان لهيمنة المخابرات المصرية، في تلك المرحلة المبكرة من ثورة 23 يوليو، على نشاط ممثلي الحركات التحريرية العربية المقيمين في القاهرة، دور سلبي في إفساد الحياة السياسية العربية. وكان لتلك الهيمنة الطاغية تأثير في تأليب أحزاب المغرب العربي بعضها ضد بعض، وانعكس ذلك أيضاً على الحركة الوطنية المغربية، مما أدى إلى تمزيق الصف، وانتهى إلى خلق الصراع الذي أضر بالمصلحة الوطنية العليا. وكانت السنوات التي عاشها علال في مصر أثناء العهد الجمهوري من 1952 إلى 1956، قد شهدت البدايات الأولى لقيام دولة المخابرات التي ما فتئت أن تفاقم أمرها واستشرى خطرها، إلى أن جاء الوقت الذي أعلن فيه جمال عبد الناصر عن (سقوط دولة المخابرات) بهذه العبارة، وذلك عقب حرب يونيو 1967. وما يهمنا هنا هو أن المناضلين السياسيين العرب الذين كانوا يتخذون من القاهرة مقراً لتحركاتهم من أجل تحرير أوطانهم من الاستعمار، وفي المقدمة منهم علال الفاسي، قد وجدوا أنفسهم تحت المراقبة الشديدة للمخابرات المصرية، بحيث كانت تتدخل في تحركاتهم وأنشطتهم، وتتحكم حتى في القرارات النضالية والمبادرات السياسية التي يتخذونها. ومن هنا بدأ الخناق يضيق حول هؤلاء المناضلين، وتوترت نتيجة لذلك كله، العلاقة بين الزعيم المغربي وبين السلطات المصرية، فعاد إلى أرض الوطن ليقيم في طنجة أولاً، قبل أن يلتحق بالرباط. وقد تميزت الفترة الأولى من إقامة علال الفاسي في مصر، بالنشاط الغزير الكثير والمتنوع والتحرك الواسع على أكثر من صعيد، فهو يؤلف الكتب، وينشر المقالات، ويحاضر في الجامعات والمنتديات ويخطب في كبريات المساجد (الأزهر والسيدة زينب)، ويذيع البيانات ويدلي بالتصريحات في الصحف والإذاعة، وتجرى معه مقابلات في الجرائد والمجلات، ويعلن الحرب الإعلامية على سلطات الحماية الفرنسية في المغرب، ويجري الاتصالات مع المسؤولين المصريين، ومع سفراء الدول العربية والإسلامية في القاهرة، ومع المسؤولين في الدول العربية الأخرى، حيث كان يزور بين الحين والآخر، العواصم العربية في المشرق كدمشق وبيروت والرياض وبغداد وعمان، ويقوم بالدعاية للقضية المغربية وبحشد الدعم والتأييد والمؤازرة لها. في هذه الفترة ألف علال الفاسي كتابه العمدة (الحركات الاستقلالية في المغرب العربي)، بطلب من الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية، التي كان على رأسها آنذاك الدكتور أحمد أمين. وألقى سلسلة من المحاضرات في المعهد العالي للدراسات العربية العليا التابع لجامعة الدول العربية، الذي كان على رأسه ساطع الحصري، وهي المحاضرات التي جمعت ونشرت في خمسة كتب، هي : حماية إسبانيا في مراكش من الوجهتين التاريخية والقانونية (صدر سنة 1948)، والحماية بمراكش (صدر سنة 1948)، والسياسة البربرية في مراكش : عناصرها ومظاهر تطبيقها (صدر سنة 1952)، والمغرب العربي منذ الحرب العالمية الأولى (صدر سنة 1955). وفي الشطر الأول من الفترة الثانية (51-1953)، تصاعد نشاط علال الفاسي في القاهرة، وفي عواصم أخرى عربية وآسيوية إسلامية، وهي الفترة التي أقدمت فيها سلطات الحماية على نفي السلطان سيدي محمد بن يوسف (محمد الخامس) إلى خارج الوطن. وهنا يسجل لعلال مبادرته الرائدة بتوجيه البيان الذي دخل تاريخ الحركة الوطنية باسم (نداء القاهرة) من إذاعة (صوت العرب) التي كانت حديثة التأسيس ضمن برامج الإذاعة المصرية (تأسست محطة صوت العرب في يوليو 1953 بمناسبة العيد الأول للثورة المصرية). وفي تلك الفترة نشر علال الطبعة الأولى من كتابه (النقد الذاتي) (سنة 1952 عن المطبعة العالمية في القاهرة)، وهو الكتاب الذي كتبه أثناء إقامته في طنجة خلال الفترة الفاصلة بين الزيارتين الأولى والثانية لمصر، ونشرت فصوله في جريدة (رسالة المغرب) قبل أن تتحول إلى مجلة كما كانت في الأصل. وجمعت المحاضرات التي ألقاها علال والنداءات التي أصدرها من القاهرة، في كتابين هما : (نداء القاهرة) الذي صدرت طبعته الأولى عن المطبعة الاقتصادية في الرباط سنة 1954، و(حديث المغرب في المشرق) الذي صدرت طبعته الأولى عن المطبعة العالمية في القاهرة سنة 1956. ويضم كتاب (نداء القاهرة) بالخصوص، معلومات في غاية الأهمية عن تلك المرحلة من الكفاح الوطني المغربي، داخل المغرب وخارجه. ويعدُّ هذا الكتاب بمثابة سجل لجوانب مهمة من تاريخ المرحلة الفاصلة التي بلغ فيها نضال زعيم التحرير الذروة. لقد كانت الأجواء السياسية والمناخ الفكري والثقافي في الأربعينيات ومطلع الخمسينيات من القرن الماضي، في مصر بخاصة، وفي عموم البلاد العربية في المشرق بعامة، حافلة بالحركة والحيوية وانتعاش الأفكار وتصارعها. وفي كتاب (التيارات الأيديولوجية في العالم العربي) لعلال الفاسي، الذي جمع فصوله ونشره الدكتور عبد العالي الودغيري، المدير السابق لمؤسسة علال الفاسي، نقف على معلومات مهمة عن الحياة السياسية والفكرية، خلال المرحلة التي عاش فيها الزعيم علال في مصر. وأقام علال الفاسي خلال إقامته في القاهرة شبكة واسعة من العلاقات مع أقطاب السياسة ورجالات الفكر وأرباب القلم ومشاهير العلماء والكتاب والأدباء والصحفيين. ويعكس كتاب (رسائل تشهد على التاريخ) الذي جمعه ونشره الأستاذ شيبة ماء العينين، المدير الأسبق لمؤسسة علال الفاسي، المستوى الرفيع لهذه العلاقات المتميزة. وهذه الرسائل من الشخصيات العربية إلى علال، تشكل جزءاً من مذكرات الزعيم. ولاشك أن ثمة مجموعة أخرى من الرسائل ينتظر أن تنشر نشراً متقناً مصحوباً بتعريف مختصر بكل صاحب رسالة، ومع مقدمة تحليلية تضع القارئ في صور تلك المرحلة. لقد كان أهمّ التيارات السياسية والمذهبية والفكرية التي سادت المرحلة التي عاش فيها علال في القاهرة، في الفترتين الأولى والثانية، حزب الوفد، وجماعة الإخوان المسلمين، وحزب البعث العربي (الذي لم يكن قد أضاف لفظ «الاشتراكي» إلى اسمه). أما الأحزاب الأخرى، فقد كانت دون مستوى هذه التيارات الثلاثة. ولذلك لم يكن لها تأثير له شأن في الحياة السياسية والفكرية، باستثناء الحزب الشيوعي المصري الذي كان منقسماً إلى أكثر من ثلاث مجموعات يديرها جميعاً يهود من أصل مصري. لقد كانت الصحافة المصرية والعربية، بصورة عامة، تتبنى الأفكار والتوجهات الغالبة على الساحة السياسية والفكرية. وقد كان علال على صلة بالصحافة، وبجامعة الدول العربية التي كانت حديثة العهد بالتأسيس (23 مارس 1945)، وبمكتب المغرب العربي، وبلجنة تحرير المغرب العربي التي كان سكرتيراً عاماً لها عند تأسيسها، وبجامعة الأزهر، وجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة الآن)، وجامعة إبراهيم باشا (جامعة عين شمس الآن)، وبجامعة دمشق، وبجمعية الشبان المسلمين، وبجماعة الإخوان المسلمين، وبحزب الوفد، يلتقي بالزعماء والقادة، ويحاضر ويشارك في الندوات والمؤتمرات، ويشرح تطورات القضية المغربية للنخب وللجمهور، من خلال الصحافة والمنتديات العامة، مما جعله بحق، بمثابة السفير فوق العادة للقضية المغربية الذي يحظى بالقبول والثقة من جميع الأطراف وعلى مختلف المستويات. لقد كانت (المرحلة القاهرية) من حياة علال الفاسي زاخرة بالعطاء المثمر المؤثر الفاعل في تشكيل فكره ووجدانه، وفي خدمة قضايا الوطن والدفاع عنها. وهي مرحلة جديرة بالدراسة المفصلة.