لعلّ السّمة الأساسية لسورة نوح هي مناجاة هذا الرّسول الكريم لربّه بعدما لقيه من قومه من إصرار على الكفر، وإعراض عن الدعوة، وصدود عن الحق، واستكبار بغير حق. وفي خلال هذه المناجاة بشفوفِها وروحا نيتها السامية، وبشكواها والركون القلبي الجلي في عبارتها وروحها إلى الله ربّ العالمين الذي بيده قلوب العباد يقلّبها كيف يشاء، عرضٌ لعمل نوح في دعوتِه الرّسولية، وفحوى خطابه لقومه، وما اشتمل عليه من البراهين والأدلّة، سواء أكانت كونية أم نفسية، ثم عرض لجواب قومه على دعوته، وحكاية لأقوالهم الفاسدة، وعقائدهم الباطلة، ليُفضي السّياق بهذه المناجاة إلى دعاءِ نوح، وهو قسمان، قسم يخص الكافرين من قومه الذين حاربوا دعوته، وكذبوا رسالته وقسم يخص نفسَه ووالديْه ومن دخل بيته مومنا والمومنين والمومنات. إنها سورة كاملة في الدعاء والمناجاة. وهذه خاصية من خصائص سورة نوح، إذ لكل سورة من سور القرآن الكريم شخصية متميّزة، وشخصية هذه السورة طابعها المناجاة، وسمتها البارزة الدعاء. تبدأ السورة ببيان مضمون رسالة نوح إلى قومه: (إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم). ويردف السياق القرآني ذلك بذكر خطاب نوح الدّعوي: (أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون) مع ما فيه من الإنذار والبشارة (يغفر لكم من ذنوبكم ويوخركم إلى أجل مسمى. إن أجل الله إذا جاء لايؤخر لو كنتم تعلمون). ولما أيقن نوح بأن قومه لايزيدون إلا إصراراً على الكفر وعناداً لجأ بالمناجاة إلى ربّه: ( قال رب إني دعوتُ قومي ليلا ونهاراً فلم يزدهم دعائيَ إلا فراراً . وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا استكبارا. ثم إني دعوتهم جهاراً. ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً. فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً ). لقد ضمّن نوح مناجاته شكواه إلى ربّه، شفقةً على قومِه، وابتغاء رحمة خالقِه، إذ لم يُجْدِ معهم نصحٌ، ولم ينفع فيهم وعظ، ولم يزدهم إنذاره إلا طغيانا، وبيانه إلا نسياناً. (فقلتُ استغفروا ربكم إنه كان غفارا. يرسل السماء عليكم مدراراً، ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً). ورغم هذا الترغيب العظيم، والتشويق الكريم، لم تتحرك في قلوب قوم نوح المكذّبين ذرّة واحدة من إيمان وتصديق أو طمع في رحمة الله الواسعة. بل قست قلوبهم فكأنها الحجارة أو أشد قسوة، ومع هذا وذاك واصَل نوح الدّعوة، ونوَّعَ الخطاب، وحاول استعمال أساليب أخرى، وعرض براهين دامغة على عقول أصحاب هذه القلوب القاسية فقال: (ما لكم لا ترجون لله وقاراً. وقد خلقكم أطواراً. ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا. وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً. والله أنبتكم من الأرض نباتا. ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً. والله جعل لكم الأرض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا). فهذه براهين ساطعة، على صدق الرّسول، وربّانية الرّسالة، ووجود الخالق، وعنايته بخلقه، وهي براهين كونية ونفسية، لأنها آيات يقرأها العقل الإنساني في كتاب الكون كما يقرأها في كتاب النفس. ومن شأن هذه الآيات أن تفتح القلوب لنداء الحق، وتصل الألباب بدلالات الموجودات على الله الحق، من خلال تدبّرها وقراءتها قراءة علمية. لكن قوم نوح أبوا إلا العناد، وأعرضوا عن دعوة رسولهم بأدلّتها وإشاراتها، واتبعوا التقليد الأعمى والجمود الأقسى على ما كان عليه آباؤهم من شرك وانحراف عقدي، فعبدوا الحجارة وكانوا أدون من الحيوان. وهنا لجأ نوح إلى ربّه تارة أخرى، وكأنه يبثّه شكواه من قومه الضالّين المضلّين: (قال نوح ربّ إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ما له وولده إلا خساراً ومكروا مكراً كباراً. وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وُدّاً ولا سُواعاً ولا يغوث ويعوق ونسرا. وقد أضلوا كثيرا. ولا تزد الظالمين إلا ضلالا). وأمّا الإجابة الإلهية لدعاء نوح الخاص بقومه الكافرين فقد تلت الآيات السابقة مباشرة (مما خطيئاتهم أُغرقوا فأدخلوا ناراً. فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا). إن الأمل في إيمان هؤلاء المعاندين صار ضرباً من العبث، ورجاء صلاحهم وأوبتهم بات نوعا من طلب المحال طالما أنهم ضلوا وأضلوا حتى أصبح هذا ديدنهم في الحياة، وطبيعتهم التي لا تتبدل ولا تتأثر بأيّ مؤثر نوراني، ولذلك كان دعاء نوح في محلّه: (وقال نوح ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً. إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفاراً). وأما دعاء نوح الخاص لنفسه وللمومنين فقد سجلته هذه الآية: (ربّ اغفر لي ولوالديَّ ولمن دخل بيتي مومنا وللمومنين والمومنات، ولا تزد الظالمين إلا تباراً). ومرة أخرى نقول: إن سورة نوح سورة مناجاة ودعاء. هذا طابعها العام من بدايتها إلى نهايتها، مع ما انطوى عليه الدعاء والمناجاة من بيان وبرهان، وما تضمنه من تنبيه ووعظ واعتبار. (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب. ما كان حديثا يفترى. ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يومنون)(سورة يوسف:111)