نحن الأطفال في رمضان، الكلُّ في الكلِّ، نحن أول من يعلن عن مقدم الشهر الكريم بالصّياح وطرق أبواب الأقرباء والأقربين، في الضواحي القريبة والبعيدة أيضا. ولنا في ذلك منافع شتى ومآرب مختلفة. ونحن أصحاب المُهمَّات الصعبة، وأهمها إحضار قهوة البرازيل ذات الكيس الأصفر، بِعلامَتها الشَّهيرة المجسّدة في رأّس فرس دائم الاندهاش، وبجانب قهوة البرازيل التوابل الشهيرة التي تحيي الميت قبل الحي كما ترَدّد على لسان جدَّتي ، رحمها الله، وهي ترشف الرشفة الأولى بعد آذان المغرب بوقت وجيز. أما اللّبن فيصْبخُ من نصيب الزُّبناء الدائمين، وما تبقَّى للعابرين قبل المغرب بساعة أو ساعتين. لم نملك في تلك الأيام ثلاجة أو مبرد واقتناء الحليب قبل آذان المغرب، يقتضي غَلْيهُ حتى لايفْسد كان بائع اللبن يعرف كل طفل منا باسمه، ويعرف موقع منزله وحرفة أبيه وباقي أفراد السلالة، ويعرف، أيضا المقدار المطلوب!! أما المهمة الثالثة، فهي الحصول على دقيق «الفُورس» الذي يعني القوة باللغة الفرنسية، ذلك أن فَطائر رمضان لايتم تحضيرها إلا بهذا الدقيق وكذا حلوياته الشهيرة. وسينافس هذا الدقيق، دقيق الأمريكان بكيسه الشهير الذي يحمل يداً موشُومة بنجيمات العلم الأمريكي وهي تصافح يدا أخرى يشبه الى حد كبير ساعدها المعروف ساعد جارنا الحمال بميناء المدينة، كان كيس الدقيق الأمريكي عملة صعبةً، والدليل على ذلك أن الكثير من موظفي المدينة بمصالح مُخْتلفة كانت تؤدّى أُجورُهم من هذه الأكياس الأنيقة ويحولونها في وقت لاحق الى دَرَاهم محلية، أو يكلفون بعض أقربائهم ببيعها وفي الساحات الشهيرة وكان ثوب هذه الأكياس يتحول أيضا إلى سراويل داخلية للصغار وأقمصة للرضع!! وآخر المهمَّات، ورمضان كريم، أيضا بمهامه العديدة، حمل صواني الحلوى، خاصة تلك الأقراص الليلية بخدودها المحمرة، المرْشُوشَة بحبات النافع أو الجلجلان. لا أدرى!! والتي نضطر الى انتظار خروجها من جوف الغرف الى وقت متأخرٍ، دون أن يصيبنا تعب أومللُ، بعد أن وحدنا فتيات الدرب ينتظرن صوانيهم، أيضا ورؤوسهن متقاربة في وشوشات مرحة امتزجت برائحة الدخان، وارتطام الصواني و «الوصلات الخشبية بأرضية الفران، ويبدأ المعلم بوشعيب في اصدار أوامره الأخيرة كل صينية باسم صاحبها، وكل وصلة باسم مالكها، كان المعلم بوشعيب ذاكرة الدرب وما، ومن جاوره وتزداد ذاكرته اشتعالا، في رمضان الى وقت متأخر من ليلته الأولى.