أن ينحسر ماء النقد عن شجرة الكتاب، ولا يطال خصرها جهة الرحم بالحياة، أشبه بالجَزْر البحري الذي يعري عند كاحل السواحل عن قشور وقواقع وأشلاء صدئة استفرغها طول انْغِمَار في الأعماق من لآلئ المعنى؛ والمحتوم أن شكوى أفول هذا الحدس الجمالي الشاحذ للفكر (النقد)، لم يبق إلا أن تمتشق شكل ذلكم البوق البدائي المقدود من قرون الوحيش، لأجل إعلان نفير عالمي ضدا على الرداءة التي سرحت بلبلابها على جدران دور النشر، فحَجبت الشمس، ليس فقط عن عقول لجن القراءة المنعدمة أصلا، بل حتى عن الغربال؛ ولا أجدني هنا أضرب الكعب بالآخر كأي جمركي يمارس الرقابة على سلع قد تتسلل زائفة، إنما أضرب المثل عن عالمية شكوى ازورار النقد في أباجورات الجماجم، لأقف من خريطة الأدب التي ستؤول حتما الى اهتراء، دونما هذا المِبْرد الحاكِّ للجلود ولو كانت ماعزاً، في سويسرا حيث السؤال يتشظى شراراً: هل الناس مازالوا في حاجة إلى النقد الأدبي؟؛ لينبري بالجواب الأليم، الناقد الأدبي «فيليب جان كاتينشي»، وهو محرر في الملحق الثقافي الفرنسي الشهير «عالم الكتب Le monde des livres»؛ «لا يطلبون منا في الملحق الكلام فقط عن الكتب التي يمكن أن تعلن عنها القناتان الفرنسيتان (TF1) و (M6)، بل العمل على ذلك قبلهما..»؛ وقد جاء هذا الكلم في بِرْوَاز لقاء حول «الأدب ووسائل الإعلام» أقيم السنة الفارطة في صالون الكتاب بجنيف، حيث التأم ثلة من محترفي النقد الأدبي؛ هنا يزيد «فيليب جان كاتينشي» في العض بنواجد الجزم، أن الأزمة الحالية التي يتكبدها «ملحق لومند» يعكس الأمر جلياً؛ فمع السياسة الجديدة الرامية إلى التخفيض من العناصر الفعَّالة، بات يتهدَّد كل ملاحق الجريدة الزوال؛ رغم أن بعض هذه الملاحق أصبح مؤسسات، خصوصاً ملحق «عالم الكتب Le monde des livres»؛ لقد بلغنا إلى نهاية مسار كان آيلا للإنفجار مند عشر سنوات، وهو نهاية النقد؛ لنقل إن الصفحات الأدبية قد ذبلت، ثم امتزجت بنظيرتها الثقافية؛ وحين تتناول وسائل الإعلام، الكتب بالكلم، فلا يكون ذلك من عمق الكتاب؛ إنها وضعية ترعى في الرؤوس، قطيعا من قنافذ القلق، وذلكم ما نفثت سعاره الناقدة الأدبية «أن بيتولود» بالقول؛ إن الجرائد باستسلامها للضغوط الاقتصادية، تخصص حيزا أقل للنقد، معتبرينه دائما قاسيا، كما أنه جنس صارم يستدعي الكثير من الوقت؛ إن الصحافيين غير مجبرين على ممارسته، ويجدون أن إنجاز حوار أيسر وأسرع على مستوى الكتابة؛ ولن يفوتنا الإلماح إلى أن الصحف تعرف تباينا واختلافا جليا، في حجم احتضاناتها للثقافة؛ وهنا يجزم الناقد الأدبي «صامويل موزي» الذي يعمل محررا في إحدى اليوميات بزوريخ، أن جريدته، تخصص أسبوعيا دفترا ثقافيا، ترصد له وسائل مهمة بتجييش (خمسة محررين، وخمسة متعاونين رسميين، وحوالي خمسين متعاونا مستقلا...»؛ وتقفز كرَّة أخرى من نافذة القول، الصحافية «آن بيتولود»، لتندلق من بئر خجلها بدلو الاعتراف: «إننا لا نصدر سوى صفحة للنقد الأدبي أسبوعيا، وهذا نزر يسير بالمقارنة مع الصحف الأخرى؛ فأن تكون صغيرا، له أيضا إيجابيته، كأن لا نلج في منافسة مع الملاحق الأدبية، إنه لمن العبث تكرار الحديث عن نفس الكتب؛ يمكننا إذا الدفاع عن ما نحب عميقا..»؛ إن هذه الاعلامية السويسرية (آن بيتولود)، حين تجد قلمها مأسورا في ربقة ضيق حيز النقد في الصحافة الورقية، تنعتق بالكتابة في الإنترنيت، فهي تؤكد أن بعض المنابر في العالم الافتراضي، تزخر بوجهات نظر بسيطة للقرّاء، لكن ثمة مواقع محترفة تتناول بالتحليل كتبا تبقى خرساء في وسائل الإعلام التقليدية؛ أما «سيلفيان دوبوي» الكاتبة والأستاذة في جامعة جنيف، فأشبه ما تحول لسانها إلى شفرة يكمن مضاؤها الجارح في الرهافة الشفيفة؛ فهي تحتم على الكاتب أن يمر أوَّلا عبر الناشر، أي عبر إنسان محترف يعرف قيمة الكتاب، وليس الانقذاف إلى الماكِنة الجحيمة للانترنيت حيث يستطيع كل امرئ النشر لنفسه بنفسه؛ وهنا يفشي الناقد الأدبي «فيليب جان كاتينشي» عن نصال قلقه المسنونة من هذه الدمقرطة التي يتيحها الانترنيت، فالأمر يدفع القراء للاعتقاد أن كل وجهة نظر، ذات قيمة؛ لكن من أجل النقد يجب التوفر على ترسانة معرفية واسعة؛ فالنقد المحترف قادر على الاتيان بالحجج؛ إن ملحق «عالم الكتب «Le monde des livres يتوصل ب 500 كتاب في الأسبوع، لكنه لا يكتب إلا عن حوالي ثلاثين كتابا؛ وذلكم ما يسمى بالتراتبية المحتومة.. لنقل إن السماء باتت مستعدة للتخلي عن كل النجوم العالقة في سقفها ؛ كما هو الشأن اليوم بنجومية الأدب؛ فما عادت الكتب تترصَّع فاتحة في الصفحات الثقافية، إلا إذا كان الموضوع مصاباً بحمى الضجة الاعلامية، أو إذا كان المقال يحصي بالحديث أنفاس الكاتب، أما إذا كان الكاتب من الرُّحَّلِ إلى عدم الكلاسيكيات، فالأجدر استخراج رميمه للعرض في المتاحف كأي ديناصور ليأتيه الزوار محملين بالأموال..